يأتي هذا المقال في مناسبة زيارة بابا الفاتيكان العراق، والتي تبدأ اليوم الجمعة (5 مارس/ آذار). وللتذكير، هو أرجنتيني الأصل، وبعد استقالة البابا بنديكتوس السادس عشر في 28 فبراير/ شباط 2013، انتخبه المجلس البابوي خلفًا له. واختار له اسما بابويا، فرنسيس. عرف بتواضعهِ، واهتمامهِ بالفقراءِ. ونقل البابوية من التزامات اللاهوت الصعبة إلى التقليل من الرسميات، والحوار بين الأديان، ومعالجة مشكلات الإنسان. وهو يقيم في دار ضيافة، بدلاً من الأجنحة البابوية في القصر الرسولي. يحافظ على التقاليد الكنسيّة المستحدثة، فيما يخصّ الإجهاض والعزوبة الإكليريكية وسيامة النساء، لكنهُ بدأ حوارات بشأن انفتاحه وترحيبه بأعضاء مجتمع المثليين، ويفضّل الاعتراف القانوني بالأزواج من الجنس نفسه. وهو صريحٌ في نقدهِ الرأسمالية الجامحة واقتصاديات السوق الحرة، والنزعة الاستهلاكية، والتطور المفرط في العولمة. ويدعو إلى إجراءات بشأن تغيّر المناخ. شارك في استعادة العلاقات الدبلوماسيّة بين الولايات المتحدة وكوبا، ودعم قضايا اللاجئين وأزماتهم في أوروبا وأميركا الوسطى. ومنذ 2018، غدا معارضًا صريحًا للقوميات الجديدة، وواجه انتقادات صارخة من اللاهوتيين المحافظين المتصلّبين.
نسّق مع الولايات المتحدة في عهدي الرئيسين، أوباما وترامب. وحظيت زيارته، في مايو/ أيار 2014، إسرائيل بدعاية كبيرة، وألقى فيها 13 خطابًا، وأسفرت احتجاجات ضدّ زيارته عن محاولة إحراق مزعومة لدير، فقد اشتعلت النيران في كهف أسفل كنيسة المهد في الليلة التالية لزيارتهِ. ووصف الرئيس الفلسطيني، محمود عباس، بـأنه “ملاك السلام”، في مايو/ أيار 2015، في أثناء محاولته استئناف محادثات السلام بين إسرائيل والفلسطينيين. وفي يونيو/ حزيران 2015، زار سراييفو، وحثّ على السلام في هذه المدينة المتنوعة دينيًا، والمعروفة باسم “القدس الأوروبية”. وفي سبتمبر/ أيلول 2015، ألقى كلمة أمام الأمم المتحدة في نيويورك. ولفت، في أبريل/ سبتمبر 2016، انتباه العالم إلى قضية اللاجئين.
زيارة البابا فرنسيس العراق في وضعه الحالي لا تقّدم ولا تؤخّر من حالاتهم المأساوية والكوارث التي تلاحقهم
التقى البابا فرنسيس، في 24 مايو/ أيار 2017، مع الرئيس الأميركي السابق، ترامب، في الفاتيكان، وناقشا مساهمات الكاثوليك في الولايات المتحدة والعالم. وكذلك قضايا المجتمعات الدينية وكيفية محاربة المعاناة الإنسانية في مناطق الأزمات، مثل سورية وليبيا والأراضي العراقية التي يسيطر عليها مسلحو تنظيم الدولة الإسلامية (داعش). كما ناقشا الإرهاب والتطرّف عند الشباب، وقضية تغيّر المناخ والتوازنات الدقيقة للنظم البيئية. وزار فرنسيس أيرلندا عام 2018، معتذرا عن انتهاكات ارتكبها رجال الدين في الولايات المتحدة وأيرلندا. وفي فبراير/ شباط 2019 ، زار أبو ظبي، وأقام قدّاسا فيها.
ولا يمكن أن تكون تحرّكات بابا الفاتيكان من أجل أعمال خيرّية ورعويّة وروحيّة وإصلاحيّة وحسب، بل كان يحمل رسائل سياسيّة وإعلامية. وقد صنفت مجلة Fortune هذا البابا الأول في قائمة أعظم 50 قائدًا. وفي 5 نوفمبر/ تشرين الثاني 2014، صنّفته “فوربس” رابع أقوى شخص في العالم. وقد أنشـأ لنفسه، في مارس/ آذار 2016، حسابًا على “إنستغرام”. وفي 2019، عقد مؤتمراً سلّط الضوء في اليوم العالمي للتواصل الاجتماعي على إيجابيات ذلك وسلبياته. وفي 26 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، بدأ يكتب “مقال رأي” في صحيفة نيويورك تايمز، ويتناول قضايا مثل فيروس كورونا والحاجة إلى التضامن العالمي.
أقلّ ما يطلبه العراقيون من البابا دعم ثورتهم من أجل تحقيق مطالبهم في الحياة الحرّة الكريمة
يزور البابا فرنسيس العراق اليوم في برنامج من أربعة أيام، وأهم ما تمّ تسليط الضوء عليه أنه سيعقد لقاء مغلقا مع المرجع الأعلى للشيعة الاثني عشرية، علي السيستاني. وسيزور مدينة أور الأثرية وبغداد والموصل وأربيل، وسيقيم أكثر من قدّاس. .. هل الزيارة روحية دينية أم سياسية إعلامية؟ ما نفعها في هذا الوقت؟ هل يحمل البابا رسائل سياسية من دولة معينة؟ ما فائدة زيارته وأغلب المسيحيين العراقيين قد هاجروا أو هجّروا من بلدهم؟ هل ستمنح الزيارة النظام السياسي العراقي، وحكومته الحالية، شهادة حسن سلوك على كلّ ما حدث في العراق منذ أكثر من 17 عاما؟ كيف ستتقبّل إيران هذه الزيارة، وهي التي تعد العراق من ممتلكاتها؟ وعليه، هذه زيارةٌ محفوفة بالمخاطر، فالعراق مزروع بالألغام، ويكثر فيه العابثون والمجرمون والمليشيات القذرة.
ليدرك كلّ العراقيين، ومن يتعاطف مع آلامهم ومعاناتهم، أنّ زيارة البابا فرنسيس العراق في وضعه الحالي لا تقّدم ولا تؤخّر من حالاتهم المأساوية والكوارث التي تلاحقهم. وينظر المسؤولون العراقيون إلى الزيارة أنها شهادة اعتراف بهم، فيما تنظر شرائح واسعة من الشعب العراقي إلى البابا في زيارته مخلّصا لهم من الجحيم… وأقلّ ما يطلبه العراقيون من البابا دعم ثورتهم من أجل تحقيق مطالبهم في الحياة الحرّة الكريمة، وإدانة المليشيات المتطفّلة على بلدهم والعابثة فيه، وإدانة قتلها شباب العراق، وأن يُنادي بالقضاء على الفساد ويدين المفسدين، وأن يناشد ذوي الضمائر الحيّة بإصلاح المدن المسحوقة والمهدّمة وإعادة المهجّرين إلى بيوتهم وديارهم وتعويضهم خسائرهم. وقبل هذا كله وذاك، أن يدعو إلى عراقٍ حرّ مستقل الإرادة، يختفي فيه التمييز الديني والطائفي والعرقي. وأن يتطوّر التعليم وخدمات الصحّة، وأن يُعتنى بالإنسان وكرامته. إذا حدث هذا، فستكون الزيارة في خدمة العراقيين وبلدهم، وإنْ لم يحدث، سوف تكون مجرّد حدث عادي عابر، لا أثر له أو تأثير.
سيار جميل
العربي الجديد