تتداول في أروقة السياسة الدولية والإقليمية خطوات دبلوماسية وحوارات مشتركة لإيقاف القتال في الجنوب اللبناني، وتحديد الآفاق القادمة لمسارات جديدة ترسم ملامح العلاقة مع جميع الأطراف المتنازعة في منطقة الشرق الأوسط الملتهبة والتي تحظى باهتمام بالغ وتشكل العصب الرئيسي للمصالح الاقتصادية والمنافع الدولية وخطوط التجارة العالمية.
مجمل ما حدث خلال الأسابيع الماضية أكد حقيقة ميدانية أن الصراعات السياسية لا يمكن أن يكون مجالها الحلول العسكرية لطبيعة التطور الذي حدث في العالم في كافة المجالات ومنها أن الحروب بدأت لا تعاني منها الجيوش النظامية أو الفصائل المسلحة التي تنطوي تحت عناوين عديدة لاحزاب مؤدلجة، وإنما بدأ المدنيون والابرياء يعيشون مأساة هذه الحروب والمواجهات العسكرية، بسبب التقدم العلمي والتكنولوجيا في انتاج الاسلحة والقاذفات والصواريخ البالستية والطائرات المسيرة، فأصبحت مديات آثارها لا تصيب المقاتلين في جبهات ومواقع القتال، بل أصبحت القواعد الشعبية هي من تحتمي من نيران القتال وتكتوي بأثاره بل تضحي أبنائها وممتلكاتها.
هذه الحقيقة والمأساة الاجتماعية ألقت بظلالها على ميادين القتال ولامست معاناة الناس الأبرياء، وأصبحوا تحت نيران المدافع والطائرات المقاتلة والصواريخ بعيدة المدى.
أستخدمت في المواجهات الأخيرة في الأراضي الفلسطينية والجنوب اللبناني العديد من الأسلحة آليات القتل والتدمير المتطورة والتي أحدثت آثار تدميرية كبيرة وخسائر بشرية ومادية، وتنازع فيها عدة مشاريع سياسية لدول إقليمية ولكنها لم تستخدم ادواتها البشرية المباشرة وإنما استندت على تيارات وفصائل مقاتلة أخرى تتلقى الدعم والمساندة منها بل تعمل على تنفيذ أهدافها وتثبيت مشروعها السياسي في التمدد والنفوذ بالمنطقة.
تصاعدت وتيرة الأهداف المعلنة عندما أشارت الأدوات الاعلامية للنظام الإيراني عن سياسة أزالت الحدود بين ايران وسوريا معتبرة الأراضي العراقية مساندة للمشروع الإيراني وهذا ما أشارت اليه صحيفة ( كيهان) القريبة من المرشد الأعلى علي خامنئي، وارتفعت في ساحات طهران جدارية كبيرة كتب عليها بالفارسية والعربية ( لن يتم إطلاق أي اسير)..
هذه الأفعال تنم عن أهداف سياسية تسعى إليها إيران باقتناصها لفرص ميدانية على حساب الدماء التي تزهق في القتال وعلى جميع الاصعدة وفي كافة ميادين القتال، دون أن تقدم أي فعالية قتالية مباشرة، اذن هناك أدوات ووسائل تمنع أي مبادرات لوقف أوجه الحروب سعيًا لمنهجية فكرية ومصالح ذاتية.
حاولت إسرائيل وإيران أن تفرض إرادة كل منهما في الشرق الأوسط والوطن العربي باستمرار القتال، فايران وعبر أدوات وحلفاء ترتبط بالحرس الثوري الإيراني ووفق مسميات وحدة الساحات والمساندة اقدمت على المشاركة ولكنها لم تحقق أغراضها وأهدافها بشكل فعال بل أصبح مشروعها يعاني من الاخفاق والتراجع والرفض الشعبي، واصيب المشروع الأسرائيلي بحالة من التدهور والانكفاء الدولي وتهديد للمنظومة الأمنية والعسكرية ومؤسساتها التنفيذية، وظهرت علامات الافتراق السياسي والاختلاف الميداني في حكومة بنيامين نتنياهو.
ما تخشاه الأن إيران هو انكفاء ادواتها وفعاليتها السياسية وتأثيراتها الإقليمية بسبب الضعف الذي واجهته أذرعها وما تسبب لها من خسائر في صفوف قادتها ومفاصل هيئاتها واماكن تواجدها، ويدور النقاش بين أجنحة النظام الإيراني حول كيفية استعادة الدور الإيراني مع استقبال البيت الأبيض لبدوم الرئيس دونالد ترامب.
إيران وإسرائيل تدركان أن قوتهما تتمثل في طبيعة الأهداف المشتركة في مساحات النفوذ والهيمنة على المنطقة العربية، وإيران تستخدم سلاحها النووي في محاولة لتثبيت مكانتها كقوة إقليمية وتحقيق التقدم الميداني في برنامجي الصواريخ البالستية والطائرات المسيرة ودعم فصائلها المسلحة، وهي توجهات معروفة لإسرائيل وللولايات المتحدة الأمريكية بأن المستهدف من هذه الإمكانيات هي الأقطار العربية لتثبيت مشروع إيران السياسي وفق العقيدة الأمنية والعسكرية التي تؤمن بها،ولكنها بدأت باستخدامها بشكل يخدم وتوجهاتها في المنطقة لمحاكاة العواطف الشعبية العربية عندما وجهت عدد من صواريخها نحو العمق الإسرائيلي.
وأما التوجه الإسرائيلي ضمن العقيدة الأمنية والعسكرية له والمتمثل في سياسية الردع والحسم فإنه اقدم على حرب مستمرة ضربت مفاصل وأدوات إيران في الجنوب اللبناني، مع عمليات دائمة في الأراضي الفلسطينية، وحاول الطرفان الإيراني والأسرائيلي تحقيق غايتهما وفرض إرادتها على مجمل المحاولات التي كانت تبحث عن نجاح لأي مفاوضات لوقف إطلاق النار.
وأصبح الوطن العربي يعيش حالة مأساوية في تكرار الأحداث وإعادة الأزمات وعدم تحقيق الغايات والأهداف التي تتحدث عنها وتنادي بها ، بل أن المنطقة أصبحت بحاجة ماسة لمشروع نهضوي عربي يعيد حالة التوازن الاستراتيجي والانتقال الى مرحلة جديدة فعلية تركز على بناء الإنسان العربي وتحقيق التنمية المجتمعية واستثمار الموارد الطبيعية لتكون قوة فعالة لها دورها الريادي في أي متغيرات سياسية قادمة، فإدارة الرئيس ترامب لا تتعامل إلا مع الأقوياء المؤثرين لا المتأثرين، وأن لا تكون المنطقة العربية ضحية الصواريخ الباليستية والطائرات المسيرة والحربية والنزعات السياسية وأهداف المشاريع الإقليمية .
أن الهدف الرئيسي لإسرائيل في استمرار القتال، هو الحصول على مزيد من الدعم السياسي والعسكري الامريكي في ظل المتغيرات التي ستطرأ على العلاقة بين تل أبيب واشنطن بمجئ الرئيس ترامب، وإيران لهاهدفها الحيوي في استباحة الأمن القومي العربي والهيمنة على القرار السياسي في عدد من العواصم العربية، وكلاهما يسعيان إلى بناء معادلة الردع المشتركة بينهما والحفاظ على صورة الاشتباك الخاصة بهما وتحقيق أفضلية في سباق التسليح على حساب مستقبل المنطقة العربية وشعبها.
وقف إطلاق النار في الجنوب اللبناني سيعيد تشكيل مستقبل المنطقة وانهاء ما ادعته إيران من تمسكها بالقضية الفلسطينية والدفاع عن حقوق أبنائها بل تتوقف كل المحاولات ذات النزاعات العاطفية والهواجس الشعبية التي ناغمت العقل العربي من قبل إعلام وادوات النظام الإيراني الذي نادى كثيرًا وبخطاب سياسي واسع بتحرير الأرض الفلسطينية واستعادة القدس الشريف، واصبح وجوده السياسي أهم لديه من أي تطلعات جوهرية تتعلق بالصراع العربي الإسرائيلي وذهبت إدراج الرياح عبارة حزب الله ( درة التاج الإيراني).
أن الفعل الإسرائيلي أدى إلى تدمير الجنوب اللبناني وتشريد أبنائه وضرب كوادر حزب الله وكوادره القيادية وأوقع خسائر بشرية طالت الآلآف من اللبنانيين، ولم يتم تحقيق الأهداف الاستراتيجية التي كان تدعي بها قيادات الحزب وأمام أنظار الحرس الثوري وفيلق القدس الإيراني.
انهاء الحروب ليس غايتها وقف الدماء وقتل الأبرياء ولكنها مرحلة متقدمة الأطراف الصراع في بدأ مسار جديد في العلاقة بينهم.
وحدة الدراسات الإيرانية
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية