بدأت تتكشّف معالم السياسة الخارجية لإدارة الرئيس الأميركي الجديد جو بايدن. صحيحٌ أن الوقت ما زال مبكرا بعض الشيء لاستنتاج أن الصياغة النهائية لهذه السياسة قد أصبحت مكتملة المعالم، غير أن خطوطها العريضة باتت واضحةً بما يكفي لتبيّن حجم (ونوعية) الفوارق التي تفصلها عن السياسة الخارجية التي انتهجتها إدارة ترامب، ففي تقديري أن بايدن نجح، بالفعل، في الإيحاء بأن لديه رسالة يريد لها أن تصل إلى العالم كله، مفادها بأن أميركا التي يمثلها ويتحدّث باسمها ليست أميركا البيضاء، العنصرية والمتعالية على الآخرين، وإنما هي أميركا الديمقراطية متعدّدة الأعراق والأجناس، والتي تأخذ مصالح حلفائها وأصدقائها في الاعتبار، وأن عودتها إلى العالم لا تعني أنها تطمع في الهيمنة المنفردة عليه، بل إلى قيادته وتوجيهه، بالاشتراك مع الحلفاء والأصدقاء ممن يشاركونها القيم والمبادئ والأهداف نفسها. أظن أنه لم يعد يخفى على أحد أن الإيحاء بتلك الرسالة كان وراء قرارات بايدن الفورية، العودة إلى اتفاقية باريس للمناخ، وإلى منظمة الصحة العالمية، وبتأكيد الالتزام بدعم الدبلوماسية متعدّدة الأطراف، والعمل على إصلاح منظومة الأمم المتحدة، وبفتح صفحة جديدة في العلاقة مع الحلفاء الأوروبيين، سواء على المستوى الثنائي أو بالتنسيق مع كل من الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي (الناتو)، وكذلك بتطوير العلاقة مع الحلفاء الآسيويين، خصوصا مع كل من اليابان وكوريا الجنوبية وتايوان .. إلخ.
لقد بدأت تتكشّف، انطلاقا من هذه التوجهات العامة لسياسة بايدن الخارجية، ملامح سياسته تجاه منطقة الشرق الأوسط أيضا، فقد بات من الواضح أن سياسته تجاه هذه المنطقة من العالم ستركّز على قضيتين أساسيتين: العودة إلى اتفاق البرنامج النووي الإيراني، والعمل، في الوقت نفسه، على تسوية الصراعات المشتعلة فيها بما يتناسب مع مصالح أميركا ومصالح حلفائها في الوقت نفسه. غير أن التطبيق العملي لهذه السياسة سوف يصطدم، آجلا أو عاجلا، بعقبة الممانعة الإسرائيلية، سواء لعودة الولايات المتحدة إلى اتفاق البرنامج النووي، أو للبحث عن تسوية سياسية للقضية الفلسطينية، تقوم على أساس “حل الدولتين”، خصوصا إذا ما أسفرت الانتخابات التشريعية المقبلة في إسرائيل عن فوز نتنياهو بأغلبيةٍ تمكّنه من تشكيل حكومة مستقرّة. وسوف يقصر التحليل في هذا المقال على موضوع العودة الأميركية إلى اتفاق البرنامج النووي الإيراني.
لن تحدّ العودة إلى اتفاق 2015 من طموحات إيران النووية، حتى وإن استطاعت تأخير قدرتها على تصنيع القنبلة النووية بعض الوقت
صدرت عن الإدارة الأميركية الحالية، على مدى الشهرين الماضيين، إشاراتٌ متعدّدة توحي بأن هذه الإدارة اتخذت بالفعل قرارا بالعودة إلى الاتفاق النووي مع إيران، وإنها بصدد البحث عن مخرج ملائم يجنب بايدن الظهور بمظهر الرئيس الضعيف الذي خضع، في النهاية، للإملاءات الإيرانية. من هذه الإشارات: إلغاء بإيدن طلبا كانت إدارة سلفه، ترامب، قد تقدّمت به إلى الأمم المتحدة، يقضي بإدراج إيران على لائحة العقوبات الدولية، بسبب إقدامها على تخفيف التزاماتها بموجب الاتفاق النووي، خصوصا ما يتعلق من هذه الالتزامات برفع نسب تخصيب اليورانيوم عن الحدود المسموح بها في الاتفاق، ومنها أيضا: موافقة بايدن على المشاركة في مفاوضات دبلوماسية تجري بين مجموعة الدول 5+1، تحت رعاية الاتحاد الأوروبي، وتهدف إلى بحث السبل الكفيلة بضمان التزام جميع الأطراف بالاتفاق الذي سبق إبرامه مع إيران عام 2015. بل وليس مستبعدا أن يكون قد تم تدشين قنوات اتصال سرّية، مباشرة أو غير مباشرة، بين الولايات المتحدة وإيران، بهدف البحث عن مخرجٍ ملائم يضمن عودة متزامنة لكل من الولايات المتحدة وإيران إلى الاتفاق القديم. صحيحٌ أن إدارة بايدن سعت، ولا تزال، لربط رفع للعقوبات المفروضة على إيران بشروط محدّدة، لكني أظن أنها بدأت تدرك الآن، بوضوح تام، أنه لن يكون في وسعها أن تحصل من إيران على ما عجزت عنه إدارة ترامب، ومن ثم لن تستطيع إلزام إيران بتعديل الاتفاق النووي الموقع عام 2015، ليشمل برنامجها الصاروخي ونفوذها في المنطقة، شرطا لرفع العقوبات. ومع ذلك، ليس من المستبعد أبدا أن تتمكّن من الحصول على وعد قاطع من إيران يضمن فتح باب التفاوض بشأن هذين الملفين في مرحلة لاحقة، أي بعد عودة الطرفين المتزامنة إلى الاتفاق الأصلي بدون أي تعديل، بما في ذلك الرفع الكامل للعقوبات المفروضة على إيران.
وفي تقديري، لا يعكس الموقف الراهن لإدارة بايدن، بأي حال، رغبة أميركية في التفاهم مع النظام الإيراني، أو تعاطفا مع سياسات هذا النظام في المنطقة، بقدر ما يعكس قناعة بايدن بمسألتين على جانب كبير من الأهمية: أن الاتفاق النووي الذي وقع مع إيران عام 2015، على الرغم من كل عيوبه ونقائصه، هو الوسيلة الوحيدة المتاحة لمراقبة برنامجها النووي وضمان سلميته. أن سياسة “العقوبات القصوى” التي انتهجتها إدارة ترامب فشلت في تحقيق أهدافها، وأن استمرار العمل بها سينتهي حتما إما إلى دفع إيران نحو تكثيف العمل في برنامجها النووي، الأمر الذي سيقربها أكثر من تصنيع القنبلة النووية، أو الدخول في صدام أو مواجهة عسكرية شاملة معها، ولكليهما عواقب وخيمة، ومن ثم غير مرغوب في أي منهما.
لا يعكس الموقف الراهن لإدارة بايدن رغبة أميركية في التفاهم مع النظام الإيراني، أو تعاطفا مع سياساته في المنطقة
في سياقٍ كهذا، تبدو العودة أولا إلى الاتفاق هي الخيار الأفضل، حتى لو تطلّب الأمر بعد ذلك مواصلة الضغط بالوسائل الدبلوماسية، أو حتى بالوسائل العسكرية المحدودة، لحمل إيران على تحجيم برنامجها الصاروخي، وكذلك لدفعها نحو العمل على تغيير سياساتها والحدّ من طموحاتها في توسيع نفوذها بالمنطقة. غير أنه بات من الواضح تماما أن إسرائيل لا تشاطر الإدارة الأميركية الحالية هذه النظرة المتفائلة نسبيا، وأنها تعمل على ترويج مقولة أن لإيران نظاما سياسيا لا يمكن الوثوق به، أو الاطمئنان لأهدافه ونواياه الحقيقية في المنطقة. وبالتالي، لن تحدّ العودة إلى اتفاق 2015 من طموحات إيران النووية، حتى وإن استطاعت تأخير قدرتها على تصنيع القنبلة النووية بعض الوقت، بل على العكس ستتيح لها موارد إضافية قابلة للاستخدام في تطوير قدراتها الصاروخية، وزيادة نفوذها في المنطقة بشكل أكبر مما هي عليه. لذا تعتقد إسرائيل أن السياسة المُثلى تجاه إيران تستدعي ليس فقط استمرار ممارسة سياسة “الضغوط القصوى” عليها، وإنما أيضا عدم استبعاد اللجوء إلى الوسائل العسكرية في مواجهتها إذا لزم الأمر. ولأنه سبق لإسرائيل أن قامت بأعمال استفزازية كثيرة في مواجهة إيران، سواء على الأراضي الإيرانية نفسها أو خارجها، بما في ذلك اغتيال علماء وتخريب سفن وضرب مواقع ومخازن أسلحة في سورية، من دون رد يذكر من جانبها، فسوف تصرّ على ترويج أن إيران ليست على هذه الدرجة من القوة أو التقدّم العلمي والتكنولوجي التي تتظاهر بها، وأنها لا تختلف كثيرا عن العراق الذي أمكن تدميره إخراجه بسهولة من معادلات القوة في المنطقة.
رؤية بايدن لكيفية التعامل مع إيران، وللأسلوب الأفضل لاحتواء المخاطر المحتملة لسياساتها، لا تتطابق مع رؤية نتنياهو
لذا يمكن القول إن إسرائيل تخشى كثيرا من احتمال عودة الولايات المتحدة إلى الاتفاق النووي الموقع مع إيران، وإنها تسعى، بكل ما أوتيت من قوة، إلى إقناع إدارة بايدن بعدم تبني هذا الخيار، إلا إذا رضخت إيران للمطالب الخاصة بتعديل اتفاق 2015، وقبلت بتوسيع نطاقه الجغرافي، ليشمل أطرافا إقليمية أخرى، بما فيها إسرائيل نفسها، بالإضافة إلى دول الخليج العربي. ومن الواضح أن نتنياهو بدأ بالفعل، ومنذ اللحظة الأولى لتولي بايدن السلطة، في تعبئة أنصار إسرائيل في الكونغرس وفي وسائل الإعلام الأميركية وتجييشهم لممارسة أقصى قدر من الضغوط لإقناع إدارة بايدن بتبنّي رؤيته لما ينبغي أن يكون عليه التعامل مع إيران، أو لحملها على هذا. غير أن احتمالات نجاحه في هذا المسعى تبدو محدودة، فنتنياهو يدرك جيدا أن نسبة اليهود الذين صوّتوا لصالح بايدن في الانتخابات الرئاسية وصلت إلى حوالي 70%. ويدرك هؤلاء جيدا مدى التزام بايدن بأمن إسرائيل، وبعدم استعداده مطلقا للتفريط في مصالحها ومصالح حلفاء الولايات المتحدة الآخرين في المنطقة، غير أن رؤية بايدن لكيفية التعامل مع إيران، وللأسلوب الأفضل لاحتواء المخاطر المحتملة لسياساتها في المنطقة، لا تتطابق بالضرورة مع رؤية نتنياهو التي تعكس رؤية اليمين الإسرائيلي المتطرّف، ومن ثم ليس من المستبعد أن يمارس نتنياهو كل ألوان الاستفزاز والمزايدة في مواجهة بايدن، مثلما فعل من قبل في مواجهة الرئيس الأسبق أوباما. بل ويذهب بعضهم إلى حد عدم استبعاد أن يُقدم نتنياهو على أي عملٍ من شأنه إفساد خطط بايدن في العودة إلى الاتفاق النووي، بما في ذلك احتمال القيام بعمل عسكري منفرد ضد إيران. ومعروفٌ أن نتنياهو كان قد صرّح، أخيرا، إن “عودة واشنطن إلى الاتفاق النووي تفتح الطريق أمام إيران لامتلاك ترسانة نووية”، وإن إسرائيل “تصر على منع إيران من امتلاك السلاح النووي”، وإن سفير إسرائيل لدى الولايات المتحدة، جلعاد إيردان، ذهب، في تفسير هذه التصريحات، إلى حد القول إن إسرائيل “قد لا تتشاور مع الإدارة الأميركية الجديدة بشأن خطواتها للعودة إلى الاتفاق النووي الإيراني”. ما قد يعني أنها تفضّل أن تحتفظ لنفسها بحق التصرّف المنفرد تجاه إيران. أكثر من ذلك، ذهب بعضهم إلى حد الاعتقاد بأن نتنياهو قد يلجأ إلى عمل عسكري ضد إيران قبل الانتخابات الإسرائيلية، على أمل ضرب عصفورين بحجر واحد: ضمان فوزه بأغلبية مريحة في هذه الانتخابات، وإعادة خلط أوراق عديدة في المنطقة، بما يكفي لإقناع الإدارة الأميركية الجديدة بالعودة إلى سياسة ترامب في مواجهة إيران بدلا من العودة إلى الاتفاق النووي، أو لحملها على ذلك.
نجاح نتنياهو في هذا المسعى سوف يعني نجاحه في نسف الاتفاق النووي تماما، وهو ما سيعني أيضا أن حربا كبرى جديدة في المنطقة ستصبح حتمية أو مسألة وقت، فهل ينجح نتنياهو في هذا المسعى الخطير والمخيف. وسواء نجح أو فشل، فإن مجرد فوزه في الانتخابات التشريعية في إسرائيل سيكون له ما بعده، سيلقي بظلاله على التطورات المحتملة لهذه القضية.
حسن نافعة
العربي الجديد