عانت هذه المنطقة الكثير من سلسلة الانقلابات التي طالت جميع البلدان تقريبًا منذ الحرب العالمية الثانية. وأُطلق على المسار الذي بدأ بعد قيام دولة إسرائيل واستمر حتى العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، اسم «قرن الانقلابات». وخلال قرن الانقلابات هذا، شهدت المنطقة سجن أو قتل ملايين الأشخاص الأذكياء، وتعرض اقتصاد البلاد للدمار على الرغم من الأموال التي قدمتها القوى الأجنبية، وتم حظر العديد من الأحزاب السياسية، وانجرت الدول إلى فوضى سياسية.
الانقلابيون نفذوا عملياتهم الانقلابية دائمًا عبر تقديم الوعود لكن بعد كل انقلاب غرقت بلدان المنطقة أكثر في أزمات اقتصادية وسياسية واجتماعية. بالإضافة إلى ذلك، لم تدعم الولايات المتحدة أو إسرائيل أو روسيا انقلابات الشرق الأوسط فقط بل إن تلك الدول دعمت انقلابات في أمريكا اللاتينية وآسيا وافريقيا. والدعم السياسي والاقتصادي الذي قدمته الدول الغربية لم يأت بأي فائدة للانقلابيين. وغالبا ما أصبحت الدول التي وقعت فيها انقلابات أكثر اعتماداً على الخارج سياسياً واقتصادياً ثم ينتهي بها الأمر إلى الإفلاس.
ما حدث في تونس في الأيام القليلة الماضية، يشبه إلى حد بعيد «انقلاب 28 فبراير/شباط»، الذي سُجل في تاريخ تركيا على أنه «انقلاب ما بعد الحداثة»، وترك بصمات عميقة على المجتمع والسياسة. حيث تعرض حزب الرفاه برئاسة نجم الدين أربكان، والذي كان شريكًا في الحكومة الائتلافية التركية، لانقلاب عبر قرارات صدرت عن اجتماع مجلس الأمن القومي المنعقد يوم 28 شباط/فبراير 1997 بإشراف رئيس الجمهورية سليمان دميرال، وقادة الجيش.
غالبا ما أصبحت الدول التي وقعت فيها انقلابات أكثر اعتماداً على الخارج سياسياً واقتصادياً ثم ينتهي بها الأمر إلى الإفلاس
تم إغلاق حزب الرفاه، الذي كان حاكمًا في تلك الفترة، بناء على قرار أصدرته المحكمة الدستورية بتاريخ 16 يناير/كانون الثاني 1998 برئاسة أحمد نجدت سيزر، البروفيسور في مجال القانون الدستوري. أصبح سيزر رئيسًا لتركيا في مايو/ايار 2000 بسبب القرارات القاسية التي اتخذها ضد حزب الرفاه بقيادة نجم الدين أربكان، والذي وصفوه بأنه «حزب رجعي». وبعد ذلك قام بتحويل البلد كله إلى سجن مفتوح تحت ذريعة «الفضاء العام». ودخلت تركيا وقتها في أزمة اقتصادية وسياسية، والذين اتهموا أربكان بالفساد دمروا اقتصاد البلاد.
لقد رأى الشعب التركي كل ما جرى في تلك الفترة، وأدرك أن الفاسدين كانوا في الحقيقة من الانقلابيين. وهكذا، جاء الشعب بحزب العدالة والتنمية، الذي أسسه تلاميذ أربكان عام 2002، إلى السلطة بتأييد كبير من الأصوات خلال الانتخابات. وأنقذ حزب العدالة والتنمية بقيادة رجب طيب أردوغان البلاد من الأزمة السياسية والاقتصادية في وقت قصير، وحقق قفزات اقتصادية كبيرة. وسجل تاريخ تركيا الفترة بين 1997 و2002، التي حكم خلالها الانقلابيون، على أنها «السنوات الضائعة». كان انقلاب 28 فبراير/شباط رابع انقلاب تشهده تركيا، وقد أدرك الشعب التركي جيدًا التكلفة الباهظة للانقلابات على الشعوب والبلاد. لهذا السبب، سطّر الشعب التركي ملحمة ضد الانقلاب الجديد الذي حاولوا الضالعون به تنفيذه ضد حزب العدالة والتنمية عام 2016 وقد تمكن الحزب من إفشال تلك المحاولة بالنزول إلى الشوارع لمواجهة الدبابات وتقديم الشهداء ليلة 15 يوليو/تموز 2016. وهكذا طويت صفحة الانقلابات في تاريخ تركيا.
خلاصة الكلام إن ما يجري في تونس اليوم يشبه كثيرًا انقلاب 28 فبراير الذي عاشته تركيا عام 1997. فالانقلابيّون يواصلون اللعبة نفسها بدعم خارجي تحت اسم «الرجعية» أو «الأحزاب الدينية المتطرفة» عبر تأويل صلاحياتهم في الدستور. هذا ما فعله في السابق الرئيس التركي المختص في القانون الدستوري أحمد نجدت سيزر، واليوم يفعله الرئيس التونسي قيس سعيد، وهو أيضًا مختص في القانون الدستوري. أتمنى أن ترى الشعوب العربية، كما الشعب التركي، المآسي التي ألحقتها الانقلابات ببلدانهم.
توران قشلاقجي
القدس العربي