الحقيقة التي من الصعب على أي إيراني، سواء على المستوى الرسمي أو الاجتماعي، أن ينكرها، هي التعدد الإثني أو القومي الذي يتشكل منه نسيج المجتمع الإيراني، وأن هذا المجتمع يقوم على تعدد المكونات القومية والعرقية والدينية والمذهبية. والقبول بهذا الواقع، يفرض على هذه الأقليات القبول بحقيقة أن أياً من هذه الأقليات لا يتمتع بالأكثرية العددية المطلقة، وحتى في حال وجود مثل هذه الأكثرية، وهذا غير متوفر، فإنه لا يعطيها الحق في إنكار الأقليات الأخرى وخصوصياتها.
هذه التعددية الإثنية أو القومية، تطرح سؤالاً أساسياً يتعلق بالهوية التي تحولت إلى عنوان سياسي وطني لهذه الجماعات، أي، الهوية الإيرانية التي تتشكل من مكونات أساسية هي: الدين، واللغة، والأرض، مع تقديم وتأخير بين المكون الديني واللغوي حسب طبيعة الحكم والسلطة السياسية في المركز. لذا جاء إطلاق صفة “الهوية الإيرانية” أو “الشعب الإيراني” نتيجة تغليب الإثنية الفارسية على سائر الإثنيات الأخرى، وتكريس أكثريتها العددية سياسياً بعيداً عن الحقائق الإحصائية.
وجاءت مقولة “الشعب الإيراني” في إطار وأساس ثقافي سياسي يقوم على التمايز أو “الغيرية” مع مفهوم “الشعوب الإيرانية” الأخرى، ما أنتج إسقاطاً لهوية تقوم على اللغة والثقافة، وانتهى إلى فرض هذه اللغة وهذه الثقافة كمكونين للهوية الوطنية على سائر المكونات الأخرى من دون أي اعتبار لخصوصيات هذه المكونات الثقافية واللغوية وبنيتها الاجتماعية والقومية.
من الناحية النظرية، يتوقف بعض المعنيين في التأطير النظري والعلمي الإيرانيين لمفهوم “الهوية والوطنية” عند التمايز بين مفهوم “الإثنية” ومفهوم “القومية”، ويرون أن “الإثنية” في اللغة الفارسية لا تعني أو لا تستخدم للتعبير عن القومية أو الشعب، بل تشير إلى مجموعة ذات لغة وهوية لم تنتظم “وطنياً” في إطار سياسي مستقل، على الرغم من إدراكها الوطني لوجودها، واعتماد مفهوم “الشعب” في التعريف عن نفسها. ويؤكدون أن مفهوم “الإثنية” لا يعني منزلة أقل من مفهوم “الشعب”، إلا أن الفرق الوحيد بينهما هو أن هذه الإثنيات لم تستطع بناء أو إقامة دولتها الوطنية.
وعلى الرغم من الإيجابية في التعامل مع العددية القومية في الثقافة السياسية الإيرانية، فإنها في المقابل تسقط الخصائص اللغوية والهوياتية في الحديث عن هذه “الشعوب”، ولا تأخذها في الاعتبار عينه، إلى حد التعامل مع هذه “الشعوب” بنظرة “الغالب” الذي لا يرى مكونات هذه الجماعات الهوياتية واللغوية، ما ينقل الحديث عن هذه الشعوب وكأنها تعيش في جغرافيا خارج الجغرافيا التي يعيش فيها “الشعب الإيراني”، وتتحول الجغرافيا هنا إلى “المناطق والمحافظات التي تسكنها هذه الإثنيات الإيرانية”، وتحدد بالتالي الدور السياسي الخاص بها، والتي تختلف عن دور “الشعب الإيراني” على المستوى الوطني، وذلك على حساب دور ومشاركة هذه الشعوب على المستوى الوطني، ما يستدعي ضرورة إعادة النظر في إدارة التعامل السياسي والإداري معها.
التأكيد على “الهوية الفارسية” لإيران، يعني إخراج المكونات الأخرى مثل “الكرد”، و”العرب”، و”الأذريين” و”البلوش”، و”المازنيين”، و”السنكسريين”، و”اللر”، و”البختيارية”، و”التركمان”، و”التاليش”، و”الكيليكيين”، و”الأرمن”، و”التاتيين”، و”الدزفوليين”، و”الأشتيانيين”، و”القشقائيين”، و”البراهويين”، و”اللك”، وغيرها من القوميات من هذه الدائرة، لأنها تأتي من باب تعميم الخاص على العام المتنوع، وهو تعميم لا يأتي في سياق طبيعي ويرضى مختلف المكونات الأخرى، بل هو إسقاط قهري يستبطن عوامل انفجارها وتناقضاتها. تعميم لجماعة تنتشر في داخل الجغرافيا الإيرانية على أطراف صحراء هذه الهضبة لجماعات لم تتخل أيضاً عن هويتها الفرعية بمسميات “سبزوارية”، و”أصفهانية”، و”يزيدية”، و…، لصالح الهوية الفارسية القائمة عليها (على هذه الجماعات). ويصعب مع هذا التنوع اعتبار عاصمة السلطة المركزية، أي طهران عاصمة هذا المكون المفروض بالغلبة، لأنها تمثل بيئة متنوعة ومركبة من كل هذه المكونات القومية والهويات العامة والفرعية.
وأن يؤكد أستاذ العلوم السياسية في جامعة طهران حسين بشيريه (خريج الجامعات الأميركية) أن الإثنية الفارسية تشكل نحو 50 في المئة من سكان إيران، فهذا القول لا يمكن أن يتحول إلى حقيقة واقعية خصوصاً في ظل امتناع الحكومة المركزية عن الأخذ في الاعتبار الهويات الوطنية والإثنية واللغوية في الاحصاءات، ما يجعل من الصعب تحديد الأحجام الحقيقية للجماعات الإثنية، ويصبح معها الحديث عن أكثرية عددية لجماعة من إثنية ولغة معينة غير مسوغ، واعتماد الصفة “الإيرانية” هنا يصبح بعداً سياسياً بعيداً عن الإثنية واللغة، ويجب ألا يؤدي إلى تغليب مجموعة القيم الثقافية والهوياتية والتاريخية والاجتماعية الخاصة لجماعة محددة على سائر الجماعات الأخرى، بذريعة أن هذا التغليب هدفه منع إضعاف الثقافة الوطنية والتضامن الوطني، لأن هذا التغليب أو التعميم يعني تهميش وعدم الاعتراف أو إنكار مكونات “الجماعات الوطنية الأخرى”، لكنه في الوقت نفسه لا يعطي للسلطة المركزية المشروعية التي تريدها.
وانطلاقاً من هذا الهدف أو المشروعية، تتمسك السلطة المركزية بالامتناع عن تطبيق المواد الدستورية 15 و16، وترفض الاستجابة لمطالب تنويع المنهاج التعليمي، وأن تكون في مراحل التعليم الأساسي باللغة الخاصة للإثنيات أو القوميات أو الشعوب التي يتشكل منها المجتمع الإيراني، وبالتالي ترفض أيضاً أن تكون المراسلات الإدارية خاصة للمبدأ نفسه، بذريعة أن هذا يؤدي إلى إضعاف الوحدة الوطنية واللغة القومية، وتصبح اللغة الفارسية مع هذه النظرة عامل وحدة وناظمة للهوية الوطنية، واللغات الأخرى تهديداً للأمن والتضامن الوطني.
أمام ما تشهده إيران في الأسابيع الأخيرة من انتفاضة بدأت معيشية لأبناء إقليم الأهواز العرب، وتطورت ليختلط فيها المطلبي ما يشمله من عدالة ومساواة، بالسياسي والحقوق الاساسية، واتسع ليشمل أبناء قوميات وإثنيات وأبناء شعوب أخرى في النسيج الإيراني كـ”الأذريين”، و”الكرد”، و”البلوش”، تحت شعار التضامن مع الأهوازيين، إلا أنه يحمل مؤشراً واضحاً على عمق ما تعانيه هذه الشعوب في التعامل مع هوياتها الأساسية التي تنظر لها السلطة المركزية بأنها هويات فرعية، ما يضع النظام والسلطة في إيران أمام تحدي إعادة إنتاج مفهوم الهوية الوطنية وإعادة تعريف بنيوي لها تأخذ في الاعتبار عينه هذا التنوع الواسع والاعتراف بحقوق ووجود ودور هذه الشعوب والإثنيات والقوميات.
حسن فحص
اندبندت عربي