أعلن عدد من شركات النفط الأجنبية مؤخراً عن خطط لبيع حصص في عدد من حقول النفط الرئيسية بالعراق، في ظل إجراءات قد تنعكس سلباً على إنتاج النفط العراقي. وتتعدد تفسيرات هذه الخطوة ما بين الظروف الأمنية والسياسية غير المستقرة، وعدم التزام العراق بسداد مستحقات الشركات الأجنبية نظير تشغيل الحقول، بالإضافة إلى تزايد النفوذ الصيني في قطاع النفط.
خطة الخروج
في العقدين الماضيين، تمكنت شركات النفط الأجنبية بالعراق من التعايش مع الظروف السياسية والأمنية الضاغطة بالعراق، وواصلت الإنتاج من حقول النفط الرئيسية بالبلاد من دون أي تأثر كبير. لكن هذه الحال، لم يدم طويلاً مع تفاقم التدهور السياسي والأمني في البلاد خلال الفترة الماضية، وعلى نحو دفع العديد من الشركات الأجنبية مثل “بي بي” البريطانية، و”أكسون موبيل” الأمريكية”، و”لوك أويل” الروسية للتفكير في الخروج من العراق، وهي من بين شركات نفط متعددة الجنسيات تعمل في استخراج النفط وإنتاجه في أجزاء عديدة من العراق، لاسيما في منطقة الجنوب.
وأفصحت الشركات الثلاث السابقة عن رغبتها في الخروج من السوق العراقي، حسبما صرح وزير النفط العراقي إحسان عبد الجبار في 4 يوليو الماضي، وكل منها يمتلك حصصاً مسيطرة بحقول النفط الرئيسية بالعراق. وتعتبر المشغل الرئيسي لتلك الحقول، فيما تتوزع باقي ملكية الحقول بين الشركات الصينية وشركات مملوكة للحكومة العراقية. وهذه ليست المرة الأولى التي تخرج فيها شركات النفط الأجنبية من العراق، فقد سبق وأن سحبت شركة “شل” الهولندية – البريطانية استثماراتها من العراق، وباعت حصتها في حقل مجنون النفطي بالبصرة، في عام 2018.
ولم تقدم أيٌ من الشركات الثلاث المذكورة آنفاً مبررات تفصيلية لخروجها من العراق باستثناء “بي بي” البريطانية، التي أوضحت أنها ستؤسس شركة منفصلة مملوكة بالشراكة، على الأرجح، مع مؤسسة البترول الوطنية الصينية، لتشغيل حقل الرميلة النفطي، على أن تتمتع الشركة الجديدة بمركز مالي مستقل عن الشركة الأم، وذلك في إطار رغبة “بي بي” في فصل نشاط الوقود الأحفوري عن الشركة الأم.
وأما، شركة “إكسون موبيل” الأمريكية، فقد أبلغت الحكومة العراقية إصرارها على بيع حصتها في حقل غرب القرنة – 1، مقابل ما لا يزيد على 400 مليون دولار، وهو سعر وصفه وزير النفط العراقي بالرخيص للغاية، مما يكشف عن رغبة الشركة في الخروج سريعاً من العراق. أما “لوك أويل” الروسية، فقد أرسلت إشعاراً لوزارة النفط العراقية أعربت فيه عن رغبتها في بيع حصتها بغرب القرنة – 2 لمستثمرين صينيين، غير أنها عدلت عن هذه الخطوة وفق تصريح وزير النفط العراقي في الأول من أغسطس الجاري.
التفسيرات المحتملة:
تجتمع عدة عوامل أمنية وسياسية واقتصادية دفعت شركات نفط الأجنبية للخروج من سوق النفط العراقي، وفيما يلي أبرزها:
1- إخلال العراق بالتزاماته المالية للشركات: تعرض العراق لأزمة مالية شديدة مع انهيار أسعار النفط في عام 2016، على نحو اضطرها لتأجيل مدفوعات الرسوم للشركات الغربية نظير تشغيل حقول النفط بموجب العقود الموقعة مع الحكومة العراقية.
ولا تتوقف المشكلة عند هذا الحد، فتعتبر الشركات الأجنبية أن الرسوم التي تحصل عليها من وزارة النفط العراقية غير مجزية من الناحية الاستثمارية. وقد صرح وزير النفط العراقي في وقت سابق بأن أرباح إكسون موبيل بالعراق لم تتجاوز 100 مليون دولار سنوياً، وهو مردود ضعيف على حد قوله.
2- بيئة أمنية ضاغطة على الشركات: باتت شركات النفط الأجنبية والعاملين بها مرمى لهجمات متكررة من قبل الفواعل المسلحة بالعراق كالجماعات الإرهابية مثل داعش بالسنوات الأخيرة، وكذلك الميليشيات الشيعية المسلحة المنتشرة في العراق.
وكثيراً ما تضطر شركات النفط لدفع إتاوات للعشائر المسلحة أو حتى بعض الجماعات المسلحة نظير حمايتها وعدم التعرض لها. وسبق أن أجلت الشركات الأمريكية، وعلى رأسها “إكسون موبيل”، موظفيها بعد الهجوم المتكرر على مقراتها في الأشهر الماضية. وعلاوة على ما سبق، فقد أدت الاحتجاجات الشعبية بالفترة الماضية إلى توقف الإنتاج في بعض الحقول في جنوب العراق.
3- نفوذ صيني متزايد بالعراق: تشارك الشركات الصينية بحصص في عدد من الحقول الرئيسية بالعراق. وقد استغلت بكين هذا الوضع، بحسب ترجيحات عديدة، في الحصول على صفقات تجارية احتكارية ويشمل ذلك، حفر آبار النفط، وتطوير المصافي النفطية، بالإضافة إلى العقود الهندسية والإنشائية بقطاع النفط العراقي، وهو ما جاء على حساب مصالح الشركات الأخرى.
وعلى سبيل المثال نالت الشركة الصينية للهندسة والإنشاءات البترولية، المملوكة لمؤسسة البترول الوطنية الصينية، بعقد هندسي بقيمة 121 مليون دولار لتحديث المنشآت المستخدمة في استخراج الغاز خلال إنتاج النفط في حقل غرب القرنة-1 النفطي في عام 2019، والذي تملك إكسون موبيل به حصة رئيسية. فيما تم منح تطوير مصفاة الفاو مؤخراً لتحالف شركات صينية بتكلفة 7 مليارات دولار، وستقوم الحكومة الصينية بتمويل هذا المشروع.
ولقد تزايد النفوذ الصيني بقطاع النفط العراقي بعد أن حلت الشركات الصينية محل الشركات الغربية التي انسحبت من السوق العراقي بالعقد الماضي. وحالياً، تعمل الشركات الصينية بشكل مباشر وغير مباشر في 15 حقلاً نفطياً جنوب العراق. كما تستقبل الصين أكثر من ربع الصادرات العراقية من النفط البالغة حوالي 3 ملايين برميل يومياً.
ومن هذا المنطلق، ترجح تقارير أن الصين لديها سلطة تأثير على سياسة النفط العراقية، والتي تستغلها لصالح تسيير دفة المشاريع النفطية لصالح شركاتها على حساب الشركات الأوروبية والأمريكية. وقد زعم يوسف الكلابي، عضو لجنة النزاهة بالبرلمان العراقي أن السفير الصيني في بغداد يتدخل تدخلاً صارخاً في عمل وزارة النفط وفي قضايا لا تتعلق بالدبلوماسية، أو بحماية المواطنين الصينيين، على حد قوله.
4- التكاليف غير المرئية: عادة ما تخضع المشاريع الأجنبية في العراق لتكاليف خفية تتمثل في عمولات تدفع لبعض المسؤولين الفاسدين. ومن الأمثلة على ذلك، دفع شركات النفط الأجنبية إتاوات للميليشيات المسيطرة على حركة المناولة بالموانئ العراقية نظير الإفراج عن المعدات والآلات النفطية.
5- إعادة العمليات الداخلية للشركات الأجنبية: هناك أسباب أخرى تتعلق بالشركات ذاتها، والتي دفعتها للتفكير في مغادرة لعراق. وتقوم كثير من الشركات النفط الأجنبية بإعادة هيكلة عملياتها والتخلص من أصول الوقود الأحفوري والاتجاه للاستثمار في مجال الطاقة النظيفة تحت ضغط المساهمين، أو حتى التركيز على الغاز على غرار شركة “بي بي” البريطانية.
وفي هذا الإطار أيضاً، انسحب “شل” من العراق في إطار خطتها لإعادة هيكلة أعمالها العالمية، بعد استحواذها على مجموعة “بي جي” (BG)، والتي تتضمن برنامجاً للتخلص من أصول بقيمة 30 مليار دولار، والتركيز على أصول الغاز والبتروكيماويات.
الخيارات العراقية المحتملة:
بالتأكيد، أعلنت وزارة النفط العراقية حرصها على استمرار عمل شركات النفط الأجنبية في العراق، وهذا يبدو مبرراً لما تمتلكه الأخيرة من كفاءات فنية عالية، وإمكانات تكنولوجية متطورة، وعلى نحو يساهم في استقرار الإنتاج النفطي، وتسهيل وصول العراق للأسواق المختلفة، بالإضافة إلى الحفاظ على المصالح السياسية مع القوى الدولية الكبرى. وهنا، فقد صرح رئيس الوزراء العراقي، مصطفى الكاظمي مؤخراً، بأنه يريد أن تحل شركة أمريكية أخرى محل شركة “إكسون موبيل” النفطية إذا ما غادرت العراق.
وفي واقع الأمر، يحتاج العراق إلى تحركات أكثر جدية للحفاظ على استثمارات شركات النفط الأجنبية للعمل بالعراق، حيث يتعين على الحكومة العراقية مراجعة التزاماتها التعاقدية مع تلك الشركات، بحيث تصبح مشاركة الأخيرة في المشاريع النفطية أكثر ربحاً لها، بالإضافة إلى توزيع الصفقات النفطية بشكل يدعم علاقتها مع مختلف الأطراف.
ويمكن التكهن بأن إعلان الشركات الأجنبية الانسحاب من العراق ما هو إلا مناورات للضغط على الحكومة العراقية لتحسين ظروفها المالية والأمنية بالعراق. وهنا، تنبغي الإشارة إلى أن الشركات الأجنبية مثل “بي بي” لن تتخلى بسهولة عن الأصول الاستراتيجية التي تمتلكها بالعراق، وعلى رأسها حقل الرميلة، والذي يساهم بأكثر من ثلث الإنتاج العراقي.
وفي حالة إصرار الشركات الأجنبية على مغادرة العراق، فليس أمام الحكومة العراقية إلا إدارة هذه الحقول من خلال شركات النفط الحكومية، أو أن تسمح للشركات الصينية بشراء حصة الشركة المغادرة، حيث أظهرت الشركات الصينية مرونة عالية في التعامل مع البيئة الصعبة بالعراق، وعلى ما يبدو أن بكين على أتم الاستعداد لانتهاز هذه الفرصة.
المستقبل للدراسات