عبّر العديد من عناصر الحركة الجهادية -خاصة الأفراد المرتبطين بشبكات تنظيم “القاعدة” أو “هيئة تحرير الشام”- عن فرحتهم باستيلاء “طالبان” السريع على أفغانستان، معتبرين ذلك تأكيداً أن صبرهم وثباتهم الأيديولوجي سيجلبان لهم حظوةً عند الله. وبغض النظر عن وعود “طالبان” بإبقاء العناصر الإرهابية الأجنبية تحت السيطرة، فإن انتصارها يعزز فعلياً عناصر داخل الحركة الجهادية، وقد يؤدي مجدداً إلى تحفيز مجيء المقاتلين الأجانب إلى أفغانستان.
* * *
يثير سقوط كابول عدداً من التساؤلات حول مستقبل الحركة الجهادية، بدءاً من الخطط التي تدرسها التنظيمات العالمية مثل “القاعدة” و”داعش”، وصولاً إلى ردود فعل الجهات الفاعلة المحلية، مثل “هيئة تحرير الشام” -الجماعة السورية التي تعد حركة “طالبان” نموذجاً لها. ويمكن أن تساعد الإجابة عن هذه الأسئلة صانعي السياسات على تحقيق فهم أفضل للحالة الراهنة وكيف يمكن أن تتغير البيئة في المستقبل.
وضع المقاتلين الأجانب في أفغانستان
في كانون الأول (ديسمبر) 2018، صرّح مسؤولٌ كبير في حركة “طالبان” لشبكة “إن بي سي نيوز” الأميركية بأن “هيئة تحرير الشام” تضم ما بين 2.000 و3.000 مقاتل أجنبي. وجاء معظم هؤلاء الأفراد من باكستان أو شينجيانغ أو طاجيكستان أو أوزبكستان أو القوقاز أو تونس أو اليمن أو المملكة العربية السعودية أو العراق.
وبالمثل، كان سيلٌ مماثل من المجنّدين الأجانب يتدفق للانضمام إلى صفوف تنظيم “داعش” في أفغانستان. ويصعب تحديد رقم محدد، لكن جزءاً كبيراً من قيادته المحلية باكستاني، كما جاءت عناصره من أوزبكستان أو طاجيكستان أو قيرغيزستان أو روسيا أو شينجيانغ أو الأردن أو إيران أو تركيا أو إندونيسيا أو بنغلاديش أو الهند أو جزر المالديف أو الجزائر أو فرنسا.
وتواصل الجماعات الأخرى التي يديرها الأجانب العمل في أفغانستان أيضاً، بما فيها تنظيمات “القاعدة” و”الحركة الإسلامية لأوزبكستان” و”كتيبة الإمام البخاري” و”الحزب الإسلامي التركستاني”. وتعد الجماعة الأخيرة مصدر قلق كبيرا للصين نظراً لجذورها في مقاطعة شينجيانغ في البلاد. وبهذا المعنى، فإن الأحداث في أفغانستان قد تمنح واشنطن وبكين دافعاً مشتركاً للتصدي بشكل منسق لتهديد العمليات الجهادية الخارجية. وتتمتع أفغانستان بتاريخ حافل في تجنيد المقاتلين الأجانب، والشبكات الجهادية الموجودة، وما لا يقل عن بضعة آلاف من المقاتلين المتواجدين بالفعل في الساحة، لذلك من المرجح أن يُلهم انتصار “طالبان” نشوء عملية تحشيد أخرى.
ردود الفعل الجهادية: ابتهاج، صمت، وغيرة
عبّرت العديد من عناصر الحركة الجهادية -خاصة الأفراد المرتبطين بشبكات تنظيم القاعدة أو هيئة تحرير الشام- عن فرحتهم باستيلاء “طالبان” السريع على البلاد، معتبرين ذلك تأكيداً أن صبرهم وثباتهم الأيديولوجي سيجلبان لهم حظوةً عند الله. وفي الوقت نفسه، لم تُدلِ القيادة المركزية لتنظيم القاعدة أو فروعها بأي تعليق رسمي حتى الآن، وهو ما كان ليثير الاستغراب لو لم تكن تفاعلاتها الإعلامية بطيئةً خلال السنوات الأخيرة -وهو أحد الأسباب العديدة التي جعلت تنظيمي “داعش” وهيئة تحرير الشام تتفوقان على تنظيم القاعدة في بعض النواحي. ومع ذلك، فإن الردود التي شوهدت حتى الآن على الإنترنت من المناصرين الفرديين لتنظيم القاعدة وفرعها “وكالة ثبات الإخبارية” تدل على أن التنظيم سيحتفل رسمياً بالنصر في مرحلة ما.
وفي المقابل، ابتهج أيديولوجيّو “هيئة تحرير الشام” على الفور بالأنباء القادمة من كابول، لأنهم يأملون في تحقيق الأمر نفسه في دمشق يوماً ما. وكتب أحد كبار عناصرها قصيدةً بهذه المناسبة، قال فيها: “يا إله البشر، نريد النصر/ به تباركون الشام الشريفة/ كما شرّفتموها شرّفوا أرضاً/ تتقوق إلى كسر بشار العميل”. وكتب أيديولوجي آخر يدعى أبو الفتح الفرغلي: “اللهم بارك في رجال “طالبان” الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه وما بدلوا تبديلا. نصر طالبان درس للأمة في الثبات على الحق حتى تحقق النصر”. وبالمثل، أعلن زعيم هيئة تحرير الشام أبو مارية القحطاني: “انتصار طالبان انتصار للمسلمين، انتصار لأهل السنة، انتصار لجميع المظلومين”. وفي منشور آخر، حث أتباعه على اغتنام هذه الفرصة لبناء محور إسلامي بين “هيئة تحرير الشام” وحركة “طالبان” وتركيا وباكستان -وحسب رأيه، فإن هذه الجماعات والدول هي الجهات الفاعلة الوحيدة التي تعيد السياسة الإسلامية والجهاد إلى مكانهما الصحيح، على عكس العديد من الأنظمة العربية التي “انحرفت”.
وفي الأيام أو الأسابيع المقبلة، من المحتمل أن يحتفل المسؤولون “في هيئة تحرير الشام” بالنصر من خلال إقامة معرض محلي أو سلسلة من المنتديات التي تشيد بأهمية ما فعلته “طالبان” وتشرح الصلة بينه وبين الوضع في سورية. وقد أظهر جماعة التنظيم بالفعل فرحتهم في الشوارع، على سبيل المثال من خلال إعطاء البقلاوة للسائقين والمارة في سلقين ومعرة مصرين وحريم والدانا وإدلب.
أما قيادات تنظيم “داعش”، فهي على الأرجح غير مسرورة برؤية “طالبان” وهي تجدد نفسها لتصبح ما يسمى بـ”إمارة أفغانستان الإسلامية”، فهذا النصر يُخمد بريق مشروع الخلافة الذي يرعاه “داعش” في العراق وسورية، لا سيما أن “طالبان” تسيطر الآن على دولة بأكملها، وهو ما لم يحققه “داعش” أبداً. وإضافة إلى ذلك، كانت قوات “طالبان” و”داعش” تقاتل بعضها بعضاً بشكل نشط منذ العام 2015، عندما أعلن تنظيم “داعش” لأول مرة عن وجوده في أفغانستان. ويبدو أن هذه العمليات العدائية ستستمر -حيث ستواصل “طالبان” بلا شك جهودها لقمع عمليات “داعش” في أفغانستان، بينما يظل “داعش” يكره ما يعتبره أوجه قصور في أيديولوجية “طالبان”. وعلى سبيل المثال، يتهم قادة “داعش” حركة “طالبان” بالتساهل المفرط مع حالات “البدعة”. كما زُعم أن “طالبان” قد أوعزت إلى أتباعها بعدم مهاجمة المساجد أو المقامات الشيعية، بل أرسلت عناصر من قِبلها لحضور مراسم شيعية لإحياء ذكرى عاشوراء. ومن المرجح أن يقوم تنظيم “داعش” بشجب الحركة بشدة على هذه الأعمال في عدده المقبل من صحيفة “النبأ” التي يصدرها.
المجاهيل المعلومة
على الرغم من أنه لا يمكن لأحد التنبؤ بمسار الأحداث في أفغانستان، إلا أن العديد من التطورات تستحق مزيداً من الاهتمام. فقد أدى استيلاء “طالبان” على البلاد إلى عمليات هروب من السجون أسفرت عن إطلاق سراح عناصر من تنظيم القاعدة. ومن المحتمل أن تكون عناصر في جماعات أخرى قد أصبحت مطلقة السراح أيضاً. وكان لسقوط “قاعدة باغرام الجوية” أهمية خاصة في هذا الصدد، لأنها كانت تحتجز أهم سجناء تنظيم القاعدة. ومن المرجح أن يؤدي هذا التدفق من قدامى المحاربين الجهاديين إلى تحفيز جهود تنظيم القاعدة لإعادة بناء بنيته التحتية المحلية. وفي غياب أي معلومات عن هوية الفارّين، من الصعب معرفة ما إذا كانت الشخصيات المعروفة السابقة ما تزال تعمل ضمن شبكة القاعدة في أفغانستان وباكستان أم لا، أو ما إذا كانت تتكون أساساً من شخصيات أحدث هذه الأيام، سواء كان أعضاؤها مقاتلين محليين أو إقليميين. ولسد هذه الفجوة وتمكين تقييمات أفضل لمستقبل تنظيم القاعدة في أفغانستان، يجب على الحكومة الأميركية رفع السرية عن أسماء الشخصيات الرئيسية المسجونة في “باغرام” والمنشآت الأخرى.
وهناك سؤال ذو صلة، هو كم عدد عناصر تنظيم القاعدة خارج أفغانستان التي ستحاول العودة إليها الآن بعد أن أصبحت “طالبان” في السلطة. ويحظى سيف العدل بأهمية خاصة، حيث يقيم في إيران منذ الغزو الذي أعقب هجمات 11 أيلول (سبتمبر)، وهو يُعد وريثاً محتملاً لزعيم القاعدة أيمن الظواهري. وقد تَعتبر طهران العدل ورقة مساومة مع مسؤولي “طالبان”، لتأمين مصالحها في أفغانستان وضمان رفاهية الهزارة الشيعة المحليين.
ومن بين العائدين المحتملين الآخرين أعضاء تنظيم القاعدة الذين انتقلوا من أفغانستان إلى سورية على مدار العقد الماضي للمساعدة في تعزيز الفروع المحلية للتنظيم -أولاً “جبهة النصرة”، ولاحقاً جماعة “حراس الدين” بعد أن قررت هيئة تحرير الشام التي كانت تدور في فلكها سابقاً التخلي عن تنظيمها الأم والتركيز على أن تصبح سلطة محلية مستقلة. وقامت هيئة تحرير الشام بشكل أساسي بتعزيز سيطرتها من خلال إلحاقها الهزيمة بجماعة حراس الدين في حزيران (يونيو) 2020، ولذلك يشاع أن أفراد الجماعة الأخيرة الذين لديهم روابط تاريخية بالشبكة الأفغانية لتنظيم القاعدة في أفغانستان يسعون للعودة إلى هناك.
وعند التفكير في الطريقة التي قد تتمكن بها الولايات المتحدة وحلفاؤها من منع عودة الجهاديين في أفغانستان، من الضروري تذكر أن البنية الأساسية لمكافحة الإرهاب التي أنشئت منذ أحداث 11 أيلول (سبتمبر) ستمنحهم خيارات أقوى بكثير مما كان يتوفر لهم سابقاً. ومع ذلك، فإن البنية التحتية الاستخباراتية القوية على الأرض، التي اعتمدت عليها واشنطن على مدى السنوات العشرين الماضية، هي اليوم في طور التغير أو الزوال كلياً، وبالتالي قد يكون من الصعب اعتراض العمليات الخارجية المستقبلية التي قد يشنها تنظيم القاعدة والجماعات الأخرى. وبناءً على ذلك، يجب على الحكومة الأميركية مواصلة الضغط على “طالبان” للوفاء بمزاعمها بأن أفغانستان لن تُستخدم للتخطيط لهجمات إرهابية في الخارج -مع الاستعداد أيضاً لتدابير لمواجهة هذا التهديد إذا ثبت أن الحركة غير راغبة أو غير قادرة على الوفاء بتعهدها. وفي كلتا الحالتين، أدت عودة “إمارة أفغانستان الإسلامية” إلى تنشيط كوادر تنظيم القاعدة ومنحت هيئة تحرير الشام نموذجاً يحتذى به في سورية.
الغد