مضى الآن 20 عاماً منذ قيام التحالف بقيادة الولايات المتحدة الأميركية باجتياح العراق بغية إطاحة ديكتاتورية صدام حسين والدخول في عهد الديمقراطية.
ورغم مئات المليارات التي أنفقت لهذا الهدف ما زالت الديمقراطية في العراق معطلة، ويقاسي البلد الأمرّين لبناء مؤسسات دولة متماسكة، إذ بدلاً من إقامة عهد تسوده الديمقراطية، أدى الاجتياح وما أعقبه من احتلال إلى إطلاق موجة أزمات إثر أخرى، بدءاً من صعود تنظيمات متطرفة مثل “القاعدة” أو “داعش”، وصولاً إلى حال التشنج التي تعيشها البلد والناتجة من تداعيات المواجهة الأميركية – الإيرانية.
وتستمر النزاعات حاضراً في العراق لتشكل واقعاً يومياً، وهي تبدأ من تنافس الجماعات المسلحة على المناطق والنفوذ وتبلغ العنف البنيوي السائد في نظام الفساد، حيث يقوم أفراد النخبة السياسية المسيطرة بالاستيلاء على أموال الدولة، المخصصة في الأصل لتوفير الخدمات الأساسية للشعب، وذاك يقود، مثلاً، إلى تسرب الأدوية المزيفة والمغشوشة إلى نظام الرعاية الصحية.
وأمام حرمانهم من مستوى العيش اللائق، رغم غنى البلاد الكبير بالنفط، حاول العراقيون التحرك عبر تظاهرات حاشدة. لكن، مرة إثر مرة، راح المتظاهرون يتعرضون لقمع عنيف من قبل قوى الدولة، مما جعل العراق اليوم في بعض الأحيان خطراً كما كان في السابق على كل من يريد ممارسة حقه الديمقراطي في معارضة الفساد الحكومي.
في هذا الإطار جمع مركز “تشاتام هاوس” (البريطاني) Chatham House آراء شريحة من العراقيين والمسؤولين والخبراء الدوليين، ممن أدوا أدواراً أو مارسوا تأثيراً في الحرب وضمن الجهود التي أعقبتها لبناء البلد. هذه الآراء المتعلقة بفشل الاجتياح والاحتلال تقدم دروساً مهمة لعدد من النزاعات المختلفة التي يشهدها عالمنا اليوم.
منذ البداية أعطت الولايات المتحدة وحلفاؤها الأولوية للنصر السريع كي يظهروا للرأي العام الوطني (في الولايات المتحدة والدول الحليفة) أن الاجتياح كان ناجحاً. ونتجت من ذلك قرارات متسرعة افتقرت إلى رؤية استراتيجية بعيدة المدى.
والعواقب جاءت وخيمة. سارعت الولايات المتحدة إلى اتخاذ قرار بحلّ الجيش العراقي، وتسريح ما يزيد على 40 ألفاً من كبار موظفي الخدمة المدنية من مهماتهم الحكومية والرسمية، نظراً إلى علاقتهم بحزب البعث. ومثلت تلك القرارات في الواقع تحولاً في هدف الاجتياح، منتقلة من هدف “تغيير النظام” إلى عملية تقويض شاملة للدولة، إذ إن إعادة بناء دولة متماسكة بعد كل هذا سوف يتطلب وقتاً أطول بكثير وجهوداً أكبر مما جرى تصوره قبل ذلك.
وسارعت الولايات المتحدة في هذا السياق إلى الضغط من أجل وضع دستور جديد وإجراء انتخابات وطنية كي تظهر للعالم أن العراق يتحول بسرعة إلى نظام ديمقراطي. لكن، بدل الوصول إلى العراقيين في جميع أنحاء البلاد لتنظيم عملية تمثيل حقيقية والإشراف عليها، اعتمدت القيادة الأميركية على مجموعة صغيرة من العراقيين العائدين من المنافي ممن كان لديهم تصور محدود ورؤية قاصرة تجاه ما ينبغي على العراق الجديد أن يصيره. وأسهم ذاك القرار (الأميركي)، في المدى البعيد، بتكريس استمرار النزاع عبر مفاقمة الانقسامات وتقوية القادة الذين كانوا منفصلين عن المجتمع الذي زعموا تمثيله.
يمكننا من هذه التجربة استخلاص درس أساسي للقوى الدولية الساعية إلى مساندة تغيير الأنظمة أو دعم الانتقالات السياسية في دول أخرى. والدرس هو: العمل لتشكيل نظام جديد مع مجموعة صغيرة من المنفيين الذين عاشوا خارج البلاد، لن يؤدي على الأرجح إلى الديمقراطية.
النزاع في فنزويلا أو إيران يتضمن ديناميات مماثلة، فتقوم حكومات متشكلة في المنفى أو شخصيات معارضة، بالعمل في تعاون وثيق مع الولايات المتحدة ضد الوضع القائم (داخل فنزويلا أو إيران)، إذ تمثل المعارضة السياسية المنفية مصدر المشورة الوحيد للاعبين الدوليين، فإن السياسات الناتجة ربما لا تعبر تماماً عن حاجات المجتمع الحقيقية في الدول المعنية.
الولايات المتحدة وحلفاؤها ارتأوا أن التسوية السياسية المستندة إلى صفقات تقوم بها النخبة ستقود إلى الديمقراطية وإلى إنهاء النزاع. لكن بدلاً من حصول ذلك، أدى الأمر إلى ترسيخ نظام فساد حيث قام المسؤولون العراقيون، عبر مختلف ألوان الطيف الإثني، الطائفي، بتجيير خزائن الدولة لحسابهم الخاص، ولم يتركوا من المال العام سوى القليل كي يوزع على المجتمع الذي يبقى اليوم محروماً من الخدمات الأساسية والضرورية.
وفي نزاعات أخرى عدة، من ليبيا إلى لبنان وكولومبيا، يدعم اللاعبون الدوليون المناقشات والتحاور مع النخبة التي غالباً لا تمثل الشرائح السكانية الأوسع، وهي بالدرجة الأولى تتبع مصالحها الاقتصادية الداعمة لبقاء أنظمة الفساد التي تضر بالناس العاديين.
على مدى أكثر من عقدين أنفقت مليارات الدولارات في إطار مساعدات التنمية ومشاريع الاستقرار في العراق، لكن ذلك لم يؤد إلى تحسينات في حياة المواطنين اليومية. وفي جميع أنحاء العالم يستمر المانحون في تمويل مشاريع التنمية التي تفشل بأخذ الديناميات السياسية والأمنية والمجتمعية في الاعتبار. وذاك يعني أن كثيراً من المشاريع، كالمدارس والمستشفيات وغيرها، لا تحظى برؤية استدامة على المدى البعيد.
ورغم خطاب “انتهاء المهمة” المشؤوم الذي ألقاه الرئيس جورج دبليو بوش بعد خمسة أسابيع فقط من الاجتياح، فإن ثمة درساً يمكن استخلاصه من تجربة العراق يشير إلى أن العملية السلمية لبناء الدولة أو إعادة بنائها لا يمكن تحقيقها بالوسائل العسكرية. وذاك درس فشل الرئيس ترمب بعد أكثر من عقد، في تعلمه، وذلك حين أعلن انتصاره العسكري على تنظيم “داعش”. ساعدت حملة القصف الأميركي بنجاح في طرد عناصر “داعش” من المناطق التي سيطروا عليها، لكنها فشلت في معالجة أي من الأسباب العميقة التي أدت في الأصل إلى ظهور ذاك التنظيم.
شبح حرب العراق المثيرة للشقاق جعل الولايات المتحدة ودولاً أخرى تخشى وتتردد إزاء التدخل المباشر في النزاعات “عبر إرسال جنودها” (إلى الميدان) والقيام بتدخلات غير متسقة. هذا التردد يمكن رؤيته في الدور الدولي غير المترابط في ليبيا وسوريا التي دمرتها الحرب، إضافة إلى المشهد الأكثر فجاجة المتمثل في الانسحاب المفاجئ للجنود الدوليين من أفغانستان وحجب المساعدات عن ذاك البلد، وفي بؤرة الحرب الأهلية المحجوبة والمتواصلة في اليمن.
المشكلات المستمرة في بناء الدولة بالعراق يمكن ردها إلى قرارات قامت بها الولايات المتحدة وقادة عراقيون كانوا في المنفى، مباشرة عقب الاجتياح. فيما يمكن رد مسؤولية مشكلات أخرى إلى مسؤولين عراقيين وحلفاء دوليين في السنوات التي تلت، إذ إن فهم الأخطاء التي حصلت يمكنه توفير الدروس ليس فقط للعاملين اليوم في العراق، بل أيضاً للعاملين في مناطق نزاع أخرى حول العالم – ويبقى لنا أن نراقب إن كان سيجري التعلم من كل ذلك.
اندبدنت عربي