نكبة واحدة تكفي.. شعار فلسطيني جديد يساير المرحلة الراهنة من التطورات السياسية والمسلحة، ذلك أن نكبة 1948 وما واكبها من نزوح وهجرة، سواء إلى الداخل الفلسطيني، أو إلى دول الجوار، كانت كافية للتشرد والشتات على مدى 75 عاماً في غياب تام للضمير العالمي، الذي جعل من حق العودة مجرد شعار، ومن القرارات الدولية في هذا الشأن مجرد حبر على ورق، بالتالي «لن يلدغ المؤمن من جحر مرتين» وهي العقيدة الفلسطينية الآن، سواء في الضفة الغربية، أو في غزة، أو حتى في صفوف المواطنين الفلسطينيين في الداخل الإسرائيلي «عرب 1948».
ما يجري الآن على الساحة الفلسطينية بشكل عام، وفي قطاع غزة بشكل خاص، يؤكد أن الغرب والإسرائيليين معاً لم يستطيعوا حتى الآن الإلمام بالشخصية الفلسطينية سيكولوجياً ودينياً، بالتالي لم يستوعب الإسرائيليون تحديداً أن القبول بأرض فلسطين لإقامة دولة يهودية كان خطأً تاريخياً منذ البداية، في الوقت الذي كانت هناك أطروحات أخرى بديلة، ما بين افريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية، كان أي منها كفيلا بحل مشكلتهم التاريخية المتعلقة بإنشاء وطن، دون أي توترات أو مناكفات.
في الوقت نفسه كان كل هدف الغرب زرع كيان شيطاني في المنطقة بهدف ابتزاز بلدانه، وهو الكيان الذي اعتبرته الولايات المتحدة الأمريكية في ما بعد قاعدة عسكرية أكثر توفيراً في النفقات، حسبما عبر عن ذلك الرئيس الأمريكي جو بايدن أكثر من مرة بقوله: لو لم تكن إسرائيل موجودة لاخترعناها، مشيرا إلى أن دعم بلاده لإسرائيل بمبلغ ثلاثة مليارات دولار سنوياً، هو أنجح استثمار أمريكي على الإطلاق، وأنه بغير وجود إسرائيل كان الأمر يتطلب وجود 40 ألف جندي أمريكي على الأقل بالمنطقة، وما يستتبعه ذلك من نفقات أكثر تكلفة. الشواهد تؤكد أن الغرب والولايات المتحدة معاً لم يكونا أبداً في حاجة إلى هذه القاعدة العسكرية، في وجود قواعد عسكرية في معظم الدول العربية دون أي مشاكل من أي نوع، وهو ما يجعلنا نؤكد أنهم استطاعوا احتلال معظم الدول العربية بصورة أو بأخرى، إلا إنهم حتى الآن لم يستطيعوا احتلال فلسطين، بدليل أن الأراضي الفلسطينية هي البقعة العربية الوحيدة الملتهبة تحت أقدامهم، وستظل كذلك حتى تحقيق عودة الحقوق لأصحابها، مع الوضع في الاعتبار أننا أمام أطول حرب تحرير عرفها التاريخ، لأسباب سيكولوجية ودينية وتاريخية معقدة، إلى حد كبير، تتجاوز النظريات السياسية والحسابات العسكرية. ما سطره الشباب الفلسطيني على الأرض خلال الأعوام الـ75 الماضية، وما سطره بشكل خاص في عملية طوفان الأقصى الأخيرة، كفيل بإعادة النظر – غربياً وأمريكياً- في التعامل مع القضية والشخصية الفلسطينية، من كل الوجوه، ذلك أننا أمام «قَوْم جَبّارِيِنْ» بنص القرآن الكريم، أطفالاً، نساءً، شباباً، شيوخاً، حتى في أحلك اللحظات التي تخلى العرب فيها عنهم، وتخاذل علناً زعماؤهم السياسيون، وتكالبت عليهم القوى الكبرى، مع وصول حاملات طائرات وبوارج وصواريخ وذخائر من كل حدب وصوب، لمواجهة ذلك الشباب الذي يتساوى لديه الموت مع الحياة. من هنا يمكن التأكيد على أن أخطاء الأمس، أو أخطاء النكبة، المتعلقة بالهجرة واللجوء والإخلاء وغيره من هذا القبيل، لم تعد مطروحة أبداً في الفكر الفلسطيني المعاصر، بل على العكس من ذلك، أصبح الفلسطينيون الآن منقسمين بين أطروحتين، الأولى منهما سياسية: وهي إقامة دولة على حدود الرابع من يونيو 1967، التي لا تمثل أكثر من 22% من أرض فلسطين التاريخية، والثانية دينية: تتمثل في نهاية دولة الاحتلال تماماً، انطلاقاً من حسابات تاريخية ونصوص قرآنية وتوراتية، وإقامة الدولة على كامل التراب الفلسطيني، وهو ما يجعل من أفكار رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو المتعلقة بترحيل مواطني غزة، أو مخططات وزير الأمن القومي أيتمار بن غفير بتشتيت مواطني الضفة، أمراً مثيراً للسخرية والتندر. وما يؤكد استمرار أخطاء الفكر الغربي فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، هو ذلك المخطط المطروح حالياً بتوطين بعض الفلسطينيين في شبه جزيرة سيناء بمصر، وهو الأمر الذي رفضه من قبل الرئيس الأسبق حسني مبارك تماما، بل لم يقبل مجرد مناقشته، وكان قد تم عرضه من قبل على الرئيس الراحل جمال عبدالناصر عام 1955، إلا إنه تم رفضه أيضاً من الفلسطينيين بشكل خاص، يقيناً منهم بأن الهدف هو تصفية القضية، وها هو الموقف المصري يبدو في ظاهره ثابتاً (حتى الآن) وإن كان لأسباب ومخاوف أمنية هذه المرة، رغم الإغراءات الأمريكية والغربية، وفي مقدمتها إسقاط جزء كبير من الديون الخارجية التي تمثل بالفعل عبئاً ثقيلاً على الدولة المصرية، الأمر الذي يمثل طوق نجاة للنظام الحالي، الذي بارك رئيسه علناً القضاء على المقاومة، باعتبار أن وجودها يقف حجر عثرة أمام تنفيذ المخطط.
الصمود الفلسطيني والرفض القاطع هو ما سوف يجهض كل محاولات البيع والعمالة والابتزاز والاتفاقيات السرية المطروحة حالياً
وفي هذا الصدد أذكر ما قاله لي شخصياً الرئيس الأسبق حسني مبارك، في منتجعه بالساحل الشمالي، قبل عام من وفاته، بوجود نجله جمال: جاء لي في شرم الشيخ، رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وقال: نريد حلاً جذرياً للصراع مع الفلسطينيين، وقام بفتح خريطة ورقية أمامي، مشيراً إلى جزء من سيناء ملاصق لمدينة رفح متسائلاً: ماذا لو خصصنا هنا ستة آلاف كيلومتر مربع (10% من مساحة سيناء) لفلسطينيي الشتات، وتحصل مصر مقابلها على ستة آلاف كيلومتر في صحراء النقب بمحاذاة الحدود المصرية الإسرائيلية؟
قال مبارك: على الفور طلبت منه لملمة الخريطة ووضعها في جيبه من حيث أخرجها وقلت له الآتي: هل أنت متصور أنني كرئيس دولة أستطيع التنازل عن أرض أو مبادلة أراضٍ أو ما شابه ذلك، ليس من صلاحياتي فعل ذلك على الإطلاق، أرجو ألا تعلن أنك تحدثت معي بهذا الشأن حتى لا يتصور البعض أن هناك مفاوضات جارية، الأمر الآخر هو ألا تسول لك نفسك التصرف منفرداً بأي شكل في هذا الصدد، ذلك أن موضوع الأرض تحديداً هو الذي يجبرني على الدخول في حرب معكم فوراً ودون تردد، ومنذ تلك الواقعة وذلك التاريخ لم يفتحوا هذا الموضوع معي مرة أخرى.
قد يكون النظام الرسمي في مصر في أي من العهود، فيما بعد اتفاقية السلام عام 1979 قد بلغ حداً من التنسيق الأمني مع إسرائيل يثير الريبة، أو يثير غضبة الشارع، وقد تكون هناك علاقات تجارية أو صناعية مرفوضة شعبياً، من خلال ما يعرف باتفاقية «الكويز» التي تضم كلا من مصر وإسرائيل والولايات المتحدة والأردن، وقد تستقبل مصر وفوداً سياحية إسرائيلية في شرم الشيخ، أو دهب، أو غيرهما من شواطئ سيناء بشكل خاص، إلا أن الأمر حينما يتعلق بأرض سالت فيها دماء غزيرة، ودفن فيها أسرى أحياء، فإن الأمر يصبح «شعبياً» محفوفا بالصعاب كقضية وطنية، حتى إن لم يكن النظام السياسي كذلك، غير أن الصمود الفلسطيني والرفض القاطع هو ما سوف يجهض كل محاولات البيع والعمالة والابتزاز والاتفاقيات السرية المطروحة حالياً. وهنا تجدر الإشارة إحقاقاً للحق إلى: أن الشعب الفلسطيني، قيادة وشعباً ومقاومة، هم من أفسدوا ما تسمى «صفقة القرن» منذ أعلن عنها الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، برفضهم التام للمخطط من جذوره، الذي كان يشمل مصر وإسرائيل والسعودية والأردن، ونذكر في هذا الصدد ما قاله الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي خلال لقاء ترامب في البيت الأبيض: (نحن ندعم جهودكم فيما يتعلق بصفقة القرن) ثم ما لبث بعد عدة أسابيع، وبعد أن فوجئ بموقف الشعب الفلسطيني، وما ورد في تقارير أمنية مصرية، راح ينفي تماماً أن هناك ما تسمى صفقة القرن قائلاً: (لا أدري من أين تأتون بهذه المسميات وبهذا الكلام) في دلالة على أن القضية لم تقبل المناقشة على الجانب الفلسطيني، وتحتاج لجهد كبير على الجانب الشعبي المصري. ولأن طوفان الأقصى كان مدمراً، فقد جاء الطرح هذه المرة في حماية حاملتي الطائرات الأمريكيتين، فورد وإيزنهاور، وبوارج وسفن بريطانية، ومُسيرات ألمانية، وتهديدات فرنسية وإيطالية، إلا أنه تجاهل فلسطينيي الشتات، على عكس ما كان مطروحاً في السابق، وتحدث عن فلسطينيي غزة باعتبارهم الشوكة الماثلة الآن في الحلق الإسرائيلي وجيشه المتغطرس، أسقطوا هيبته، كسروا غروره، سحلوه في الوحل، بما لن يستطيع معه أبداً أن يرفع رأسه من جديد، ما جعله يلقي قنابله وصواريخه على المدنيين العزل على مدار الساعة، علّ وعسى يسترد شيئاً من كرامته المبعثرة دون جدوى، وكان رد الفعل الفلسطيني – الغزاوي هذه المرة- الرافض للتوطين في مصر، أو لمجرد عبور الحدود مؤقتاً، أقوى من ذي قبل. ويأتي ذلك رغم أن هذا الرفض جاء تحت وقع الانفجارات والتفجيرات والقصف بالطائرات والمدفعية، على المنازل والمستشفيات وحتى سيارات وطواقم الإسعاف، وهو ما لا يتحمله بشر بأي حال من الأحوال، إلا أن كل ذلك يؤكد ما ذكرناه سابقاً من أن إنشاء دولة إسرائيل جاء في المكان الخطأ، وسوف يظل الأمر كذلك، ويظل الصراع قائماً ما دام هذا الكيان مستمرا في غيه، وما دامت القوى الكبرى لم تفطن إلى أن استمرار هذا الوضع بمثابة نزيف مادي لها من جهة، وخصم من رصيدها الأخلاقي أمام شعوبها وأمام العالم من جهة أخرى، ذلك أن مظاهرات الاحتجاج الشعبية الواسعة التي شهدتها العواصم هناك تؤكد مدى الفجوة بين الشعوب والحكومات، فيما يتعلق بالسياسات الخارجية على أقل تقدير.
وعلى الجانب الآخر، فإن الشعوب العربية، وبسبب تطور وسائل الاتصال، ووسائل التواصل الاجتماعي بشكل خاص، أصبحت هي الأخرى ركناً أصيلاً وفاعلاً، بل رقماً صعباً، في معادلة الاتفاقيات والتنازلات، ذلك أن الضغوط الشعبية الواضحة جداً خلال الأزمة الحالية، تجعل من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، تجاوز الخطوط الحمر فيما يتعلق بهذه القضية، التي كانت يوماً ما قضية العرب الأولى، قبل أن تتوارى في العقدين الأخيرين، لأسباب تتعلق بأزمات عديدة عانت منها معظم الدول العربية من المحيط إلى الخليج، بدءاً من الغزو الأمريكي للعراق، وقلاقل الربيع العربي في كل من مصر وسوريا وليبيا وتونس على وجه الخصوص، وأحداث اليمن ولبنان، وغير ذلك من اضطرابات، إلا أن الطوفان الأخير، أحيا القضية من أوسع الأبواب، ليس على المستوى العربي أو الإقليمي فقط، وإنما دوليا وأممياً.
من هنا تصبح التنازلات مستحيلة بالفعل، وفي مقدمتها ما يتعلق بالتوطين هنا أو هناك، خصوصاً مع ذلك الزخم الشعبي المقبل أيضاً من خارج دول المنطقة، وفشل الإعلام الصهيوني في فرض إرادته وتزييفه للحقائق من أرض الواقع، وهو الأمر الذي يفرض حتماً على المحتل، عاجلاً أو آجلاً، الخضوع والاستسلام، كما كل أشكال الاحتلال والاستعمار، التي مرّ بها العالم عبر التاريخ، وفي مقدمتها تلك الدول التي تحاول اليوم حماية ذلك الاحتلال الأخير، إلا أن الحالة الفلسطينية، ولأنها مختلفة من حيث قدسية الأرض ونوعية البشر، فإن ضريبة التحرر الوطني هناك أيضاً من الطبيعي أن تكون مختلفة من حيث كلفتها المادية والبشرية، مع اليقين بأن النصر مقبل لا شك فيه، فهو وعد الله، ولن يُخلف الله وعده.