أظهرت سفيرة الولايات المتحدة في العراق، ألينا رومانوسكي، قدرا من التفاؤل، وهي تبلغنا أن انتخابات مجالس المحافظات المقرّر إجراؤها منتصف الشهر المقبل (ديسمبر/ كانون الأول) ستكون “حرّة ونزيهة”، منطلقة من “الشراكة الأميركية – العراقية الشاملة”، وهي العبارة التي اعتادت أن توشّح بها تغريداتها، وكانت في تغريدة سابقة قد أشارت إلى “أن الديمقراطية قد تتّخذ شكلا فوضويا في بعض الأحيان”، وواضح أنها بذلك قصدت التجربة التي زرعتها حكومة بلادها في العراق، والتي لا يختلف اثنان في أنها نشرت الفوضى والاضطراب في مختلف مرافق الحياة والمجتمع، وتسببت في معاناة شاملة طوال الأعوام العشرين المنصرمة. ولعل وهماً خامر رومانوسكي، وتصوّرت أن انتخابات المجالس المحلية يمكن أن تشكّل خشبة إنقاذٍ للعملية السياسية التي أوشكت على الغرق، مستندة إلى “أن على من يريد أن يحرّك الجبل أن يبدأ بحمل حجارة صغيرة” التي قال بها الحكيم الصيني كونفوشيوس، أو قد تكون قد فكّرت في أن تمنحنا، نحن الغرقى، جرعة من الوهم الذي تشكل عندها في أن القادم سيكون أفضل، لكن الأمر لا يبدو كما أرادته وبشّرت به، وربما لم يصل إلى علمها بعد أن العراقيين فقدوا ثقتهم في اللعبة الديمقراطية الهجينة التي عاشوها، وأن نسبة كبيرة يقدّرها بعضهم بأكثر من 90% ممن يحقّ لهم التصويت قرّرت مقاطعة الانتخابات، وفي مقدّمتها أتباع مقتدى الصدر الذي رأى أن المقاطعة “تقلّل من شرعية الانتخابات دوليا وداخليا، وتقلّل من هيمنة الفاسدين والتبعيين على العراق”. ويلتقي مع الصدريين في هذا الموقف قسم كبير من شباب “حراك تشرين”، وكذلك مستقلّون كثيرون، وناشطون جدد، وحدهم الشيوعيون الذين لم يتمكّنوا من إيصال أحد من أعضاء حزبهم إلى البرلمان مع بعض الأحزاب الصغيرة سوف يشاركون على قاعدة “ما لا يُدرك كلّه لا يُترك جله”. وبالطبع، ستكون المشاركة الكبرى في الانتخابات لجمهور أحزاب “الإطار التنسيقي” والمليشيات المرتبطة بها، وربما أيضا لم يصل إلى علم رومانوسكي أن من عقد العزم على ممارسة لعبة الصناديق سيفعل ذلك نتيجة ضغوط أو تهديد أو مقابل تلقّيهم رشوة مالية أو عينية، أو لوقوعهم تحت طائلة فتاوى مصنوعة، تحثّهم على إعطاء أصواتهم لمرشّحين محددين.
ونعرف، نحن، كما عرفنا في كل عملية انتخابية سابقة، أن النتيجة لن تتغيّر، أغلب المقاعد ستكون لمن يدين بالولاء والطاعة لممثلي الأحزاب (الإسلاموية) الحاكمة التي أتاحت الولايات المتحدة لها فرصة الاستحواذ على السلطة والمال والقرار، مع التصدّق ببعض المقاعد على دعاة معارضة مفترضة أدخلوا في السباق الانتخابي لإعطاء نكهة ديمقراطية تعزّز ما ترمي إليه رومانوسكي وأصدقاؤها من المسؤولين العراقيين، ونعرف أيضا من متابعتنا حملات المرشّحين الانتخابية الماثلة أن ليس ثمّة تنافس حقيقي على برامج وخطط مطروحة للجمهور يستطيع على أساسها الناخبون أن يقرّروا بثقة لمن يعطون أصواتهم.
لا أمل وراء انتخابات المجالس المحلية، ولا حتى في الانتخابات النيابية “المبكّرة”
ونعرف كذلك أن الذين أعطوا تصويتا أعمى، في مرّاتٍ سابقاتٍ، لمن اعتقدوا أن بإمكانهم أن يحقّقوا لهم بعض ما يطمحون له على طريق الإصلاح والتغيير اكتشفوا متأخّرين أن أصواتهم ذهبت سدى، وقد سئموا من حصيلة عقدين تدهورت فيهما البلاد إلى مستوياتٍ من البؤس لم تمرّ بها من قبل، أكّدتها منظمات دولية معنية، إذ وضعت في تقاريرها الدورية التجربة العراقية في أسفل تجارب الدول من حيث اكتمالها ونضوجها، حيث اللعبة الديمقراطية السوية غائبة، والمؤسّسات الدستورية مجرّد هياكل تغير اتجاهاتها حسب اتجاهات الريح السائدة، وحيث السلطات الثلاث خاضعة لنفوذ وفاعلية “الدولة العميقة” التي صنعتها طهران، وأوكلت لها حماية مصالحها، وحفظ أمنها القومي.
وقد أدرك أولئك المصوّتون أن الشخصيات المعارضة والداعية إلى التغيير التي صعدت إلى البرلمان في أكثر من دورة لم تلبّ طموحاتهم، ولم تنجح في إيجاد الحلول لمشكلاتهم، فضلا عن نشوء قناعة لديهم بأن المجالس المحلية نفسها ليست سوى حلقة زائدة تكلّف ميزانية الدولة مبالغ طائلة، وتفتح بابا آخر لنهب المال العام يكرّس ظاهرة الفساد التي لم تستطع أية حكومة في الأعوام العشرين السالفة أن تقضي عليها أو أن تحدّ من انتشارها في أقل تقدير.
وبالمختصر المفيد، لا أمل وراء انتخابات المجالس المحلية، ولا حتى في الانتخابات النيابية “المبكّرة” التي أوردها محمد شيّاع السوداني في منهاج حكومته ثم طوى صفحتها، أما جرعة الوهم التي سعت رومانوسكي إلى أن تداوينا بها فقد تبدّدت في الفراغ، حيث ليس في إمكان جوقة عطارين إصلاح ما أفسدته الأعوام العشرون.