استطاعت تركيا أن تفلت من فخ 15 تموز (يوليو) بسلام. ولو أن دولة مثقلة بكثير من المشكلات وقعت في الشراك، ونجح الانقلاب الخسيس، لكانت نهاية تركيا الدولة وليس نهاية الديموقراطية فحسب. وأقول إن الانقلاب استهدف تركيا كلها وليس الديموقراطية، لأن النظام ليس ديموقراطياً في تركيا حتى يبدده الانقلابيون ويطيحوه. فنحن منذ نحو أربع سنوات نخدع أنفسنا ونحاول أن نقنع بعضنا بعضاً بأن ثمة ديموقراطية في تركيا ولكن تشوبها بعض المشكلات. وما كان وراء فشل الانقلاب هو موقف الرئيس والحكومة الحازم والصارم، ونزول الشعب إلى الشارع، والموقف التاريخي لأحزاب المعارضة ضد الانقلاب.
فهل كان هذا انقلاباً حقيقياً وفعلياً أم مسرحية؟ منذ ساعاته الأولى خرج البعض ليشكك في جدية ما يحدث ويقول بأنها مسرحية مدبرة. وثمة كثير من الأسئلة التي تشغلنا عن تلك المحاولة الفاشلة، ولم نجد لها جواباً. ومنها، مثلاً، كيف يسع المئات أو حتى العشرات من الضباط والجنرالات أن يخططوا لهذا الانقلاب ويوزعوا الأدوار والمهمات، من دون أن ترصد الاستخبارات حركتهم هذه؟ والأعتى أن من يعقد هذه الاجتماعات السرية هم الجنرالات المتهمون بالانتماء إلى جماعة غولن وهم قيد المراقبة ليلاً نهاراً منذ ثلاث سنوات. وماذا عن توقيت ساعة الصفر للانقلاب؟ وهو توقيت محير. فغالباً ما يشن الانقلاب في ساعات الفجر لوجود أقل عدد من المواطنين في الشارع ما يسهل السيطرة عليهم. أما الساعة العاشرة من مساء الجمعة فهي ساعة السهر والخروج في نهاية الأسبوع! وعوض أن يقطع الانقلابيون الانترنت وأن يسيطروا على وسائل الإعلام، اختاروا الزج بدبابتين في جسر البوسفور لقطع الطريق في خطوة غير مفهومة! وفيما يفترض في الانقلاب أن يستهدف رأس الدولة والحكومة والسياسيين، فضل هؤلاء الانقلابيون الاصطدام مع الشارع والناس. وحملتهم قلة عدد الانقلابيين إلى استخدام السلاح أمام جموع من الناس وأراقوا الدماء وقصفوا البرلمان! والأغرب أنه، وعلى رغم سيطرتهم على الأجواء وإقلاع طائراتهم في الجو، استطاع الرئيس أردوغان أن يتنقل بطائرته الخاصة ويعبر تركيا من الجنوب إلى الشمال من دون قلق! ثم وبعد إعلان فشل الانقلاب، تخرج علينا الحكومة بقوائم أسماء جاهزة لآلاف القضاة والموظفين لتقول لنا إنهم مشاركون في الانقلاب هذا من دون تحقيق أو بحث! نعم هذه كلها أسئلة تحمل على الشك، لكني استبعد تماماً أن يكون الانقلاب مسرحية. فلا يسع أي حكومة أو رئيس الانقياد وراء مثل هذه المجازفة، ولا يمكن لمئات العسكريين أن يقبلوا دخول السجن مدى الحياة وأن يلحق العار بعائلاتهم.
والانقلاب حقيقي. ولكن إما أن تكون الاستخبارات قد كشفتهم ووضعت خطة لإفشال مخططهم من دون أن تزعجهم حتى آخر لحظة من أجل الاستفادة القصوى من فشل الانقلاب، وإما أن الاستخبارات فعلاً كانت غافلة عما يُخطط ويُدبر. وهذا معناه أن أمن البلد كله على كف عفريت وأننا لا نعرف ما يجري بين أيدينا! وربما الجواب على هذه الأسئلة هو غباء الانقلابيين ومبالغتهم في الثقة في أنفسهم وفي قوتهم وسلاحهم. وهم اعتقدوا ربما أن كره كثيرين أردوغان سيحمل زملاءهم في الجيش وجزء من الشارع على تأييدهم! ومثل هذا التفكير طبيعي لمن يضع مصلحته قبل مصلحة الوطن، لكن المواطن الصالح خرج ضدهم بغض النظر عن موقفه من أردوغان. وهذه المحاولة الانقلابية كانت ستقضي على الدولة التركية وليس الديموقراطية، فلا حرية رأي وتعبير في بلادنا، ولا انتخابات عادلة، ولا جامعات حرة، ولا قضاء محايد ولا حقوق إنسان مكتملة. وعلى الأغلب لو نجح الانقلاب لاندلعت في تركيا حرب أهلية: من جهة، انفجار الإرهاب الكردي أو الداعشي، ومن جهة أخرى، سعي معارضي الانقلاب من جماعة الحزب الحاكم إلى زعزعة استقرار الانقلابيين. ومشكلات تركيا لا تحل بالسلاح ولا الانقلاب، وإنما بترسيخ الديموقراطية وترجيح كفتها، وهو أمر لا يملكه الانقلابيون ولا الحكام الحاليون.
لكن هل ثمة أمل بأن يسعى من أُنقذ من الانقلاب ونجا منه إلى توسيع الديموقراطية؟ لا أظن، فسياسات الانتقام بدأت وهي التي ستغلب على المرحلة المقبلة، مع إصرار أكبر على توسيع صلاحيات الرئاسة. وستسير تركيا بخطى أسرع نحو الأسلمة، وبدأت هذه العملية من طريق استخدام المساجد أثناء الانقلاب للدعوة إلى «الجهاد» والنزول إلى الشارع. والانقلاب فشل، لكنه فتح المجال أمام أردوغان ليسير وراء مشاريعه من دون تردد. والخاسر الأكبر هو من يأمل بتغيير ما في تركيا، ينقلُها إلى ضفة الديموقراطية من جديد ويفتتح عصر المصالحة والسلام والطمأنينة.
* كاتب، عن «ديكان» التركية، 17/7/2016، إعداد منال نحاس
نقلا عن الحياة