يمر العالم العربي بمرحلة تحول عميقة. إن هذا الكم الهائل من الصراعات والانهيار والتغيير والاضطراب الذي نراه هو دليل على أننا في طريقنا إلى تحولات هائلة. ولكن هل فقدنا إدراكنا وتوازننا أمام ما يدور من حولنا في هذه اللحظة التاريخية؟ يبدو أننا فقدنا طريقنا في مسار التحول (Lost in Transition) لعدم وجود رؤية شاملة أو حركة ثقافية/ اجتماعية أو قيادة بارزة ونافذة لديها فهم واضح لمعالم الأزمة وخريطة طريق للسير إلى الأمام، فيبدو أننا نتخبط جيئة وذهاباً في اتجاهات مختلفة. ولكني على أمل أيضاً أننا على المدى البعيد قد نستعيد توازننا وقد نسير في اتجاه إيجابي. ولكن بعد كم من الزمن وكم من الدمار والخسائر والضحايا؟
إن السبب الرئيسي لمرورنا في مرحلة التحول هذه هو حدوث سلسلة من التحولات في موازين القوى التحتية (power shifts)، فعندما تتحرك القوى المؤثرة تتفكك معها تباعاً الأنظمة السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية السائدة. فنرى مثلاً تراجع احتكار الدولة للقوة وتمكين المجتمعات والشعوب. كما نرى تحولاً في مدى سيطرة المجتمع على الأفراد. وتحولاً مستمراً أيضاً في تمكين المرأة وتراجع سلطة الرجل عليها، كما أن هناك انتقالاً للقوة من جيل الكبار إلى جيل الشباب، ونرى الآن تصاعداً كبيراً في قدرة الشباب على تحدي النظم القائمة. كما نرى أيضاً على المستوى الدولي تحولات في موازين القوى من القوى العالمية إلى القوى الإقليمية.
ولعل أول نتيجة للتغيير غالباً ما تكون الصراع وانهيار النظم وانتشار الفوضى. هذا أمر متوقع، لأن النظام القديم الذي كان سائداً خلال التوزيع القديم للقوى، عندما يبدأ في الانهيار، لن يتم استبداله فوراً بنظام جديد كما أنه لا يمكن إصلاحه بسهولة. فإنه سوف يشتد من أجل البقاء في بعض الأماكن، أو ينهار في أماكن أخرى، وسنرى الصراع والانهيار أولاً، قبل أي شيء آخر.
إن عاصفة التحول هذه تضع مفاهيم جوهرية في تساؤل. ومنها مثلاً ماهية الوطن أو المجتمع السياسي (nation) وما يشكله؟ أين نرسم الحدود؟ هل ترسم على أسس عرقية؟ أم هي ما رسمته حدود سايكس بيكو، أم ترسم على أسس طائفية أو دينية؟
تساؤلات جوهرية أيضاً حول طبيعة الدولة، فـ «داعش» لديه تصور معين لمعنى الدولة. ونظام الأسد لديه نهج آخر لعله نهج توماس هوبز (Thomas Hobbes) الذي يرى أن الحاكم هو الذي يثبت أنه الأكثر قوة ووحشية، فالدولة تمثل القوة المطلقة وليست ملزمة بأي قيود على استخدام القوة في مواجهة الخصوم في الخارج ولا في قمع الشعب في الداخل. اقترح أحد أجنحة الربيع العربي نظاماً ديموقراطياً ليبرالياً، نرى طرفاً منه في تونس اليوم. واقترح «الإخوان المسلمون» نظاماً «ديموقراطياً» أيضاً ولكن تحت سقف وضمن إطار ديني إسلامي وتحت سيطرة حزب «الإخوان» نفسه. ويبدو أن شكل الدولة الذي لا يزال الأكثر انتشاراً حتى اليوم هو نظام الدولة السلطوية المحافظة، إما في شكل الأنظمة الملكية أو الجمهورية.
إذا قارنّا تحولنا بتجربة الغرب نجد أن طريقه نحو التغيير كان طويلاً وعنيفاً. فقد استغرق الأمر مع الغرب أربعة أو خمسة قرون من المخاض لمواجهة هذه القضايا وبتها. وقبل سبعين أو ثمانين عاماً، كانت حالة أوروبا أسوأ بكثير من الشرق الأوسط اليوم: الحروب التي قتل فيها أكثر من ثمانين مليون نسمة، والإبادة الجماعية، والجماعات المتطرفة، والحركة النازية. إلا أن أوروبا تمكنت من التغلب على تلك الصعاب، وفي ما بعد عام 1945، واصلت العمل من أجل حل الكثير من هذه القضايا والتوصل إلى وضع أكثر استقراراً وأماناً. وهذا ما يعطي الأمل في أن الصراعات والفوضى التي نراها اليوم هي عرض من أعراض التغيير، وأننا سنصل، بعد نفق مظلم وطويل، الى مستقبل مختلف.
إلى أين نحن ذاهبون إذن في هذه العاصفة من التحول؟ من المرجح في المدى القريب -والذي قد يستمر سنوات عديدة أوعدة عقود- أن تكون الفوضى والصراع، وردود الأفعال الارتدادية العنيفة، هي العنوان السائد. ولكن على المدى البعيد، أعتقد أن التوازن بين هذه القوى، وعند النظر في ديناميات التغيير وعوامل التحول في السلطة، سوف يفرض في نهاية المطاف شكلا معيناً من النظم التي يمكنها أن تدير هذه التوزيعات الجديدة للقوى.
أستذكر الجملة المشهورة التي يفتتح بها الروائي والمفكر الروسي ليو تولستوي رواية آنّا كارينينا: «كل العائلات السعيدة تتشابه، لكن لكل عائلة تعيسة طريقتها الخاصة في التعاسة». ما أعنيه بذلك هو أنه في نهاية المطاف قد يستغرق الأمر عقوداً حتى يتم توزيع جديد لسلطة أكثر شمولاً لأطياف المجتمع المختلفة، وأقل أبوية، وأكثر إشراكا لكل الأجيال، وهو النوع الوحيد من النظم الذي يستطيع أن يدوم على المدى البعيد، وهذه هي الأنظمة السياسية الشاملة (inclusive) والخاضعة للمساءلة (accountable)، والأنظمة الاجتماعية المنفتحة على التنوع والتمكين، والنظم الاقتصادية المنتجة التي توفر فرص العمل والتشارك في الثروة.
ويمكن هذه الأنواع من الأنظمة أن يكون لها وجه ملكي، بمعنى أن الأنظمة الملكية القائمة يمكن أن تتطور إلى نوع من الملكية الدستورية. ويمكن أن يكون لها وجه إسلاموي كالذي رأيناه قبل عقد من الزمن في تركيا، والتي بدت وكأنها تتحرك في هذا الاتجاه ولكنها ابتعدت مؤخراً من هذا المسار. ويمكن أن يكون لها وجه ليبرالي ديموقراطي. أما المقاربات الأخرى من أنواع الأنظمة السلطوية أو الاستبدادية، أكانت تحت عنوان ديني أم ملكي أم «وطني»، فهي في رأيي لن تستطيع البقاء على المدى البعيد.
إذا اعتبرنا أن هذا سيكون المسار على المدى الطويل فلماذا نحن لسنا ذاهبين في هذا الاتجاه الآن؟ أحد أسباب ذلك هو وجود وضع إقليمي غير مشجع، فعندما تخلصت أوروبا الوسطى والشرقية من ربقة الاستبداد السوفياتي كان لديها الاتحاد الأوروبي لإرشادها وتوجيهها خلال عملية التحول الديموقراطي والتغيير الاقتصادي، أما نحن فلدينا قوى ودول تدفع في الاتجاه الآخر.
ولدينا أيضاً فضاء سياسي مجوّف، وثورات من دون أحزاب قادرة، ومن دون قيادة ذات فعالية ورؤية ثاقبة، ومن دون مجموعة مثقفين رائدة يمكنها أن تضع للأمور رؤية طليعية من أجل السير الى الأمام، وهذا يرجع إلى حد كبير إلى أن هذه الأنظمة الاستبدادية قامت بتفريغ الفضاء السياسي. ولكننا أيضاً نمر بلحظة من التاريخ العربي الحديث، حيث يوجد القليل من الرؤية لما يجب أن يكون عليه مستقبلنا.
قد يصح القول إنه «في الماضي كان لدينا مستقبل»، أي في مراحل سابقة من القرن العشرين كان لدى مجموعات سياسية وثقافية نافذة تصور واضح عن المستقبل العربي المنشود. في العشرينات من القرن الماضي كانت لدى نخب العالم العربي رؤية للمستقبل العربي. ثم كان للقوميين العرب أو النخب اليسارية في الخمسينيات والستينيات رؤيتها عن الاتجاه الذي يجب أن نسير فيه. وأما الآن، فنحن نعرف ما لا نريد، فقد ثرنا ضد الاستبداد، وضد الظلم الاجتماعي، ولكن من دون رؤية قوية لكيفية إحداث التغيير في مجتمعاتنا ولمعالم الدولة البديلة والمجتمع البديل الذي نريد.
وهذا أمر لا يقتصر على العالم العربي. في كتاب رائع للكاتبة الروسية سفيتلانا بويم تحت عنوان «مستقبل الحنين» (The Future of Nostalgia)، تتحدث عن هذه المرحلة في التاريخ العالمي، وتقول إن القرن العشرين بدأ برؤى طموحة حول بناء المستقبل الأفضل، بينما بدأ القرن الواحد والعشرون بحنين شديد إلى الماضي. إنها تتحدث أساساً عن عهد بوتين في روسيا، ولكن قد ينطبق هذا أيضاً على حملة دونالد ترامب في الولايات المتحدة وشعاره «لنجعل أميركا عظيمة من جديد»، أو على «داعش» وغيره من الحركات الماضوية في إقليمنا.
مع كل هذا، لا بد على المدى البعيد، من أن نجد الطريق السليم ونسير عليه. والأمل هو في جيل الشباب، الذي تشير استطلاعات الرأي المتعددة إلى أن الأغلبية منه تتطلع إلى حكم مسؤول أمام شعبه ومجتمعات تقبل وتشمل كل الأطياف. قد يستغرق ذلك جيلاً أو أكثر ليؤتي ثماره، ولكن هناك دور كبير للمثقفين والمفكرين للتفكير جدياً في ما يجب أن يكون عليه مستقبلنا، على الرغم من قتامة الوضع الحالي. لأن الأسباب الدافعة للتحولات في القوة التي تحدثت عنها ستجد طريقها ولا يمكن عكسها، وسيكون لديها التأثير الأساس في تحديد النظم الاقتصادية والاجتماعية والسياسية القابلة للنجاح والاستدامة في القرن الواحد والعشرين.
بول سالم
نقلاً عن الحياة