يطلق مقتدى الصدر دعوة للعصيان المدني، ويطلب من أنصاره، ومن “عموم الشعب العراقي، وخصوصاً المتعاطفين مع الإصلاح”، الإضراب عن العمل. وهذا خبر مثير حقاً، ربما كان ذلك واحدةً من “ابتداعاته” التي اعتاد أن يلقي بها علناً، بعد كل عزلة، ثم ينام شهراً آخر ملء جفونه، تاركاً القوم يختصمون جرّاءها، أو جراء أكوام الفضائح التي تتفجر في العراق يومياً. وإذا أحسنّا الظن، فان الصدر يكون قد قرأ، وهو المعروف بأنه يقرأ أكثر من عديد قادة كتل وأحزاب، كتابات المهاتما غاندي الداعية إلى الارتفاع فوق سقف الطائفة أو العرق، وتعلم منه أن “العصيان المدني” أو “اللاعنف” يستطيع أن يفعل ما لم تفعله أسلحةٌ أخرى، أو ربما وضع أحدٌ على طاولته التي يصرّ على أن تكون واطئة، وهو القاعد على بساط، كتاب الأميركي هنري ديفيد ثورو عن “العصيان المدني” الذي يؤكد على حق الفرد في الخروج على حكومته، إذا ما انتهكت العقد المفترض القائم بينها وبينه، والذي يلزمها أن تتبع العدل، ولعله أدرك حكمة أن “لا يجدر بالأفراد أن يستسلموا لحكوماتٍ تتحكّم في مصائرهم، وتجنح عن طريق الصواب. ولهم أن يعصوا أوامرها، ولو أدى ذلك بهم الى السجن”، و “قد يكون رفض مواطن واحد قانوناً جائراً كافياً لحدوث وعي شعبي على واقع الحال، وتحقيق الهدف المطلوب”، وما أكثر القوانين الجائرة في عراق اليوم التي تستدعي زعيماً، مثل غاندي، أو حكيما مثل هنري ديفيد ثورو، لكي يحاول إصلاح الحال وتغيير المآل.
وما دمنا بصدد “التغيير”، فان غاندي نفسه ينصح من يريد أن يتبعه: “عليك أن تكون أنت التغيير الذي تريده للعالم المحيط بك”، وما دام الصدر طامحاً للتغيير عبر دعوته الجديدة “الموظفين المدنيين إلى الإضراب عن العمل يومين، وسواهم من الأهالي، إلى الإضراب عن الطعام يومين أيضا”، معتبرا هذا الخيار “مساهمةً في تفعيل خطط الإصلاح، وإنهاء الفساد الإداري والمالي”، فلماذا لا يكون هو “التغيير” نفسه، بتعبير غاندي، ويعلن انسحابه النهائي من “العملية السياسية” الطائفية، ويسعى إلى تأسيس عمليةٍ سياسيةٍ وطنيةٍ، تتخطى ما هو سائد إلى ما هو حق، وله وزراء ونواب ومسؤولون كبار، لهم قوة فعل لو أراد، كما عنده قاعدة أتباع عريضة في الشارع الشيعي الفقير، تمثل رافعةً إيجابيةً لو أحسن استثمارها، لكنه، على ما يبدو، يريد أن تصل إليه من “العملية السياسية” الماثلة أرباحها وغنائمها، وأن لا تصل إليه خسائرها، هل ثمّة خسائر في العملية السياسية، بالنسبة للقابعين داخلها الرافضين الخروج منها؟.. لا أظن.
الحق أن مقتدى الصدر لم يفاجئنا بخطوته الجديدة، بعد شهر من إيقافه فعاليات ناشطيه، خصوصاً بعد أن فاحت رائحة فضائح النهب المليوني الذي مارسه مسؤولون كبار، وكشفته موجة الاستجوابات البرلمانية والاتهامات المتبادلة والاعترافات الموثقة التي شهدتها الساحة السياسية في الأسبوعين الأخيرين، فقد اعتاد على تصعيد الأمور إلى درجة أن يتوقع المتابع إعلان تمرده على “العملية السياسية”، وخروجه منها في الحال، لكنه سرعان ما يتراجع، عندما يكتشف أن السفينة إذا ما غرقت سوف تطيح كل ركابها. لكن، تظل خطوة الانتقال إلى “عصيان مدني”، وإن على مراحل، هي الخطوة الأكثر تأثيراً وفاعليةً في الآن الحاضر، إذا ما أحسن الناشطون المدنيون تطويرها، على النحو الذي يكفل إحداث تغيير حقيقي، بعد أن عجزت مؤتمرات ومشاريع الخارج في أن ترسي أساساً للتغيير المطلوب.
يظل أيضاً لمقتدى الصدر فضل رمي حجر، كبير هذه المرة، في مياهٍ آسنةٍ تطفح بكل الموبقات، ويكفي أن مبادرته الجديدة دفعت كتلة نوري المالكي “ائتلاف دولة القانون” إلى توصيفها بأنها “انقلاب على الدستور”، كما دفعت حكومة حيدر العبادي إلى تهديد المضربين من موظفي الدولة بالطرد. ويكفي أن الاستجابة للدعوة بدت نشيطة وفاعلة، لكن عراقيين كثيرين، ونحن منهم، يدركون أنهم قد لا يجدون ضالتهم التي يريدون في مبادرة الصدر وحدها، لسببٍ بسيط، هو أن دعوةً من هذا النوع تفرض صياغةً استراتيجيةً فاعلةً، وذات أبعاد واضحة ومعلومة، تضمن الذهاب إلى ما هو أبعد وأكثر كلفة، يصنعها مهاتما غاندي آخر، لم يظهر في بلادنا بعد، وربما لن يظهر قبل وقت طويل، وطويل جداً.
العراقيون و”العصيان المدني”
عبد اللطيف السعدون
نقلا عن العربي الجديد