لا نريد أن نحمل الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب مسؤولية نهاية حل الدولتين، لأن هذا الحل انتهى قبل انتخابه بزمن.
ولكننا نظن أن الخطاب القائم على الأقل بشكل رسمي حول حل الدولتين سيختفي تماما ولا يعود جزءا من اللعبة الأمريكية الإسرائيلية التي خدعوا بها قيادة الفلسطينيين فتخلوا عن كل مبادئ الثورة الفلسطينية المعاصرة وميثاقها، وتحولوا إلى جهاز أمني يسهر على أمن إسرائيل مقابل «الدولة الوهم» التي سوقوها لشعبنا على أنها مقبلة لا محالة «شاء من شاء وأبى من أبى»، إلى أن «استبانوا الرشد في ضحى الغد»، وانكشفت الحقائق تماما منذ ارتكب باروخ غولدشتاين مذبحة الحرم الإبراهيمي في رمضان/ فبراير 1994، إلا أن القيادة بقيت متمسكة بالوهم وآثرت العزة بالإثم بدل الاعتراف والاعتذار والانصراف.
لقد عبر الشعب الفلسطيني بطريقة حضارية عن رفضه للخديعة عندما ذهب إلى صناديق الاقتراع عام 2006 فأعطى غالبية أصواته للحزب المنافس ليس بالضرورة حبا فيه أو في أيديولوجيته، بل كرها في السلطة وممارساتها وانفصالها عن الواقع وانتشار قصص الفساد، وفراغ جعبتها من أي مشروع حقيقي للإنقاذ الوطني، بعد الخراب العام والشامل الذي جلبه الأوسلويون معهم، من تقدم منهم ومن تأخر، ومشاريعهم الكارثية التي طال عطبها التاريخ والجغرافيا، الماضي والحاضر والمستقبل، فبدأت مساحة الوطن تضيق وإمكانية قيام الدولة تتلاشى وابتلاع إسرائيل للأرض يتفاقم. ولا أعتقد أن محللا محايدا أو متابعا لتفاصيل الوضع في فلسطين المحتلة مقتنع بأن هناك الآن أي إمكانية لقيام دولة فلسطينية مستقلة وذات سيادة ومترابطة جغرافيا وقابلة للحياة وعاصمتها القدس على الأراضي التي احتلت عام 1967. ففوز دونالد ترامب أو هيلاري كلينتون بالنسبة للفلسطينيين سواء، إذا ما تعلق الأمر بقيام الدولة المذكورة فإمكانيات قيامها أصلا انعدمت قبل الانتخابات الأمريكية الأخيرة بوقت طويل.
وإنعاشا للذاكرة فأول من طرح فكرة قيام دولة فلسطينية مستقلة إلى جانب إسرائيل من الإدارات الأمريكية هو جورج بوش الابن في شهر يونيو 2002 بناء على نصيحة من صديقه توني بلير، الذي اقترح هذه الفكرة لحشد تأييد عربي لغزو العراق. قرار غزو العراق سبق قرار الدولة الفلسطينية، ويبدو أن الحماس العربي لغزو العراق تضاعف بعد كذبة الدولة، أو أنها ورقة التوت التي تغطى بها بعض الملوك والرؤساء العرب لتأييد غزو العراق سرا أو علانية. إذن نتوقع، كما أسلفنا، أن موضوع حل الدولتين سينتهي الحديث عنه في عهد ترامب، ولا يعود مطروحا حتى ولا في أوساط الأمم المتحدة، التي ما زالت تتحدث بخجل عن هذا الحل. فقد ذرف نيكولاي ملادينوف، الممثل الخاص للأمين العام في الأراضي الفلسطينية المحتلة، دموع التماسيح على حل الدولتين في مداخلته الأخيرة أمام مجلس الأمن يوم الأربعاء الماضي وناشد المجتمع الدولي بإنقاذ هذا الحل الذي لا بديل عنه. وكما قال نافتالي بينيت، وزير التعليم الصهيوني المتطرف ورئيس حزب «إسرائيل بيتنا»، بعد انتخاب ترامب «إن عصر الحديث عن دولة فلسطينية انتهى». وهناك عدة أسباب تدعونا لأن نصدق تصريح بينيت ونرى أن مرحلة جديدة في العلاقات الأمريكية الإسرائيلية قد بدأت، وأن التعاطي مع إمكانية قيام دولة فلسطينية مستقلة أسدل عليه الستار. وهذا نزر يسير من أسبابنا:
أولا – عيّن ترامب، نيكي هايلي، حاكمة ولاية كارولاينا الجنوبية، سفيرة جديدة لدى الأمم المتحدة، وهي معروفة بمواقفها المتطرفة ضد الشعب الفلسطيني وضد برنامج المقاطعة، وسحب الاستثمارات والعقوبات (بي دي إس). وكان أول من رحب بهذا التعيين سفير إسرائيل لدى الأمم المتحدة، داني دانون، واعتبر هذا التعيين تعزيزا للعلاقات الأمريكية الإسرائيلية ووصفها بأنها «صديقة مخلصة لإسرائيل منذ زمن طويل». ونعتقد أن محور سياستها سيكون قائما على التصدي لإيران ودعم إسرائيل اللامحدود، بل ستعمل على هدم ما تم اعتماده من قرارات تؤكد حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره وبناء دولته المستقلة.
ثانيا- عندما كانت تعاني حملة ترامب من تراجع وجفاف مالي تقدم الصهيوني العريق الملياردير شيلدون أديلسون وقدم من المال ما مكن ترامب من إنقاذ حملته وإيصاله للنهاية، مقابل شروط تتعلق بدعم مطلق لإسرائيل. وقد قابل أديلسون كافة المترشحين عن الحزب الجمهوري واحدا واحدا ليختبرهم. وعندما التقى دونالد ترامب بتاريخ 13 مايو قدم له مبلغ مئة مليون دولار. وبما أن لكل شيء ثمنه فهذه المبالغ لها ثمن سياسي ليس له شخصيا، بل لإسرائيل.
ثالثا- من المتوقع أن يتغير الخطاب الأمريكي خلال ولاية ترامب حول المستوطنات. ومع أن إدارة أوباما بقيت متمسكة بموقف ولو لفظي حول لاشرعية المستوطنات وكونها تشكل عقبة للسلام، فالخطاب الجديد حول الاستيطان بشرنا به أحد مستشاريه الإسرائيليين، جاسون غرينبلات، الذي صرح لراديو إسرائيل بعد انتخاب ترامب قائلا «من المؤكد أن ترامب لن يشجب بناء المستوطنات، أو يقول إنها تشكل عقبة في طريق السلام لأنها ليست عقبة في طريق السلام». وأكد غرينبلات أن ترامب لن يفرض شيئا على إسرائيل لا تقبل به.
رابعا- هناك نية حقيقية لدى ترامب والثلة التي تحيط به من غلاة الصهاينة والمتطرفين البيض بنقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس. فقد صرح المحامي ديفيد فريدمان، أحد مستشاري ترامب المغالين في صهينتهم، بأن مسألة نقل السفارة إلى القدس ليست مسألة وعد في حملة انتخابية فحسب، بل «إن لدى ترامب كل النية لتنفيذ ذلك العهد». ودعني أتنبأ قليلا بأن لا شيء يردع ترامب عن تنفيذ هذا القول إلا إذا عرف أن هناك ثمنا باهظا وموقفا صلبا وحازما من الفلسطينيين والعرب والدول الإسلامية ومحبي السلام.
خامسا- سيكون ترامب أكثر صلابة في موقفه مع إيران قد يصل حد إلغاء الاتفاق النووي كما وعد، وهو ما سيلقى ترحيبا شديدا من دول الخليج، خاصة السعودية. هذا الموقف سيدفع باتجاه تعزيز التحالف مع إدارة ترامب في موضوع إيران، الذي فشلت السعودية أن تقيمه مع إدارة أوباما بهدف التخلي عن الاتفاق النووي ورفع العقوبات عن إيران. فإذا ما بدأ ترامب إدارته بإعادة النظر في الاتفاق النووي مع إيران فسيدفع بهذه الدول إلى التقارب أكثر معه من جهة، ومع الكيان الإسرائيلي من جهة أخرى، وسيصبح تطبيع العلاقات علنيا وعلى حساب الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة. لقد تغيرت الأولويات كثيرا لهذه الدول منذ ثورات الربيع العربي، فحملت السيف وحقيبة الدولارات لتجهض كافة الثورات وتشوه صورة الجماهير الهادرة في الشوارع بطرق سلمية وحضارية تطالب بالحرية والكرامة والديمقراطية، واستبدلتها بجماعات متطرفة تكفيرية تجعل من الديكتاتور العربي «الأم تيريزا» مقارنة مع الدواعش وتفريخاتها. ثم وجدت نفسها أمام تغول إيراني يطرق الأبواب الداخلية في دولها. استصرخت بأوباما فلم يلبّ النداء وها هي تجد ضالتها في ترامب.
سادسا وأخيرا- تهويد القدس سيتم وبسرعة مهولة وبدون ضجيج أو اعتراض. وقد يكون قرار مجلس بلدية القدس يوم الأربعاء الماضي ببناء 500 وحدة سكنية في مستوطنة رامات شلومو شرق القدس هو محاولة لاختبار إدارة ترامب المقبلة ومؤشر لما هو مقبل. وإذا ما تم تنفيذ هذا البناء في منطقة (ياء 1) فسيقطع الاتصال بين شمال الضفة وجنوبها تماما.
إن مسؤولية التصدي لهذا التوجه الخطير وإفشاله ليست مسؤولية المجتمع الدولي، كما يصر كبار المفاوضين وصغارهم، بل مسؤولية فلسطينية أولا وعربية ثانيا وإسلامية ثالثا، ثم يأتي دور المجتمع الدولي المحب للسلام. أما أن يـُعكس هذا التراتب فهو تهرب من المسؤولية يصب في النهاية لصالح تنفيذ تلك الخطوات والبرامج التي ستدفن معها إمكانية قيام دولة فلسطينية مستقلة على الأقل في المدى المنظور.
محاضر في مركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة رتغرز بنيوجرسي