مع اقتراب عام 2016 من نهايته، تتجه أنظار المختصين الاقتصاديين إلى رصد الحصيلة الكلية للعام الذي أوشك على الانتهاء، والتعرف على معدلات النمو المحققة، على أمل أن يستجلوا منها المستقبل، ويتكهنوا بقدر الإمكان بما سيحدث في العام المقبل.
ويبدو هذا التقليد مستقرا في الأدبيات الاقتصادية منذ سنوات، سواء تعلق الأمر بكل بلد على حدة أو بكل إقليم أو قارة أو حتى بالنسبة إلى الاقتصاد العالمي، لكن الوضع مختلف بعض الشيء هذا العام، فعدم استقرار الاقتصاد الدولي، والتقلبات السريعة والعنيفة في عديد من المؤشرات الاقتصادية، بل والغموض الذي يكتنف العلاقات المستقبلية بين اللاعبين الأساسيين في الاقتصاد العالمي، وتحديدا الولايات المتحدة الأمريكية والصين، ترك بصماته على قدرة المختصين على استجلاء المستقبل الاقتصادي، ويزداد الأمر جدلا عندما يتعلق الوضع بشرق وجنوب شرق القارة الآسيوية، فالحراك الاقتصادي والسياسي في تلك المنطقة من العالم يمكن قراءته وتفسيره من زوايا متعددة، بما يقود إلى نتائج مختلفة ومتباينة في كثير من الأحيان.
“الاقتصادية” سعت إلى التعرف على ملامح الصورة المقبلة للاقتصاد الآسيوي خلال العام المقبل من خلال استطلاع آراء مجموعة من المختصين والاقتصاديين في المملكة المتحدة، الذين أجمعوا على أن النزعات الحمائية تشكل أكبر تحد للاقتصادات الآسيوية في 2017.
يقول البروفيسور هكتور مار الرئيس السابق لقسم العلوم الاقتصادية في جامعة ساري، “إنه لكي نفلح في رسم تفاصيل الوضع الاقتصادي المقبل في آسيا، علينا أن نحدد مجموعة المؤشرات الرئيسية التي أنجزها الاقتصادي الآسيوي هذا العام، وأهمها بالطبع معدل النمو، وبصفة عامة فإن وضع الاقتصاد الآسيوي خلال عام 2016 كان مستقرا، على الرغم من أن المعدلات المحققة في نهاية العام كانت أقل بشكل طفيف من التوقعات”.
وأضاف هكتور مار أن “معدل النمو الذي ستنتهي إليه آسيا هذا العام – وفقا لبنك التنمية الآسيوي – سيبلغ 5.6 في المائة أقل من التوقعات السابقة وهي 5.7 في المائة، والسبب في ذلك هو تراجع معدل نمو الاقتصاد الهندي من توقعات أولية بأن يبلغ 7.4 في المائة إلى نمو فعلي محقق بلغ 7 في المائة فقط، بسبب تراجع الاستثمارات وانخفاض النمو الزراعي وتضرر قطاعات الأعمال الصغيرة والمتوسطة من سياسات الحكومة بمنع تداول بعض فئات العملات النقدية”.
وأشار هكتور مار إلى أنه بالنسبة إلى الصين فمعدل النمو المحقق هذا العام 6.6 في المائة، ويتوقع في عام 2017 أن تحقق 6.4 في المائة، وبالنسبة إلى بلدان شرق آسيا باستثناء اليابان التي تدخل ضمن الاقتصادات الرأسمالية عالية التطور وليس ضمن الاقتصاد الآسيوي، فإن منطقة شرق آسيا حققت عام 2016 نموا بمعدل 5.8 في المائة، وسينخفض المعدل العام المقبل إلى 5.6 في المائة.
وأوضح هكتور مار، “على الرغم من أن أغلب التوقعات تشير إلى ارتفاع أسعار النفط بعد توصل أعضاء منظمة “أوبك” إلى قرار تاريخي بخفض الإنتاج العام المقبل، فإن معدل التضخم الآسيوي سيظل منخفضا ولن يقفز كثيرا، إذ بلغ هذا العام 2.6 في المائة، ولن يتجاوز 2.9 في المائة العام المقبل”.
وتبدو ملامح المشهد الاقتصادي الراهن والمقبل كما حددها البروفيسور هكتور مار الأرضية التي يبني عليها الدكتور تي بي تولتش المختص في الاقتصاد الآسيوي رؤيته للعام المقبل، حيث يعتبر أن التحدي الأبرز للاقتصادات الآسيوية خلال العام المقبل سيتمثل في طبيعة العلاقات الاقتصادية والتجارية المقبلة بين واشنطن وبكين. وأشار تولتش إلى أن نذر تلك الحرب التجارية تلوح في الأفق الآن أكثر من أي وقت مضى، وتلك الحرب إذا ما اندلعت فلن تقف حدودها عند العلاقات الثنائية بين البلدين، إنما ستمتد إلى عديد من جوانب الاقتصاد العالمي، وتحديدا الاقتصادات الآسيوية.
وأوضح تولتش أن بعض القرارات الاقتصادية التي ستتخذها الإدارة الأمريكية لا تهدف إلى إيذاء الصين عمدا، لكن إلحاق الضرر بالصين سيكون من نتائجها، فمثلا رفع أسعار الفائدة الأمريكية، الذي من المتوقع أن يقوم المجلس “الاحتياطي الفيدرالي” بزيادتها ثلاث مرات العام المقبل، سيؤثر حتما في رؤوس الأموال الأجنبية في الصين، ويدفعها إلى الانسحاب، وسيشعل مناخا من التقلبات الاقتصادية في آسيا، ومن ثم سيتراجع معدل النمو الاقتصادي، مضيفا أنه “نظرا للعلاقة الوثيقة بين الاقتصاد الصيني والاقتصادات الآسيوية الأخرى، فإن ذلك سينعكس على معدلات النمو الآسيوية”.
ووفقا للدكتور تولتش فإن التوقعات القلقة تجاه الوضع الاقتصادي الآسيوي تتفق مع التقديرات الواردة من البنك المركزي الصيني، إذ تشير البيانات الرسمية إلى أن احتياطي الصين من العملات الأجنبية تراجع الشهر الماضي، إلى أدنى مستوى له خلال أكثر من خمس سنوات، حيث بلغ 3.121 ترليون دولار بمعدل سحب شهري 45.7 مليار دولار، ويبدو أن هذا الاتجاه سيتواصل خلال العام المقبل.
لكن المختص الاستثماري جيمس مارتن يعتقد أن عام 2017 سيتسم بالنجاح لبعض القطاعات الاقتصادية الآسيوية، وفي مقدمتها قطاع الأسهم، حتى إن اتصفت ملامح الاقتصاد الكلي بالارتباك أو معدلات نمو منخفضة مقارنة بعام 2017.
ويرى مارتن أن الأسهم الآسيوية ستشهد في الغالب ارتفاعا في الأجل القصير، وذلك بالتزامن مع ارتفاع الأسهم الأمريكية، بسبب الزيادة المتوقعة في الإنفاق العام في عهد الرئيس ترمب، وعلى الرغم من أن زيادة معدل التضخم المتوقع في آسيا، وارتفاع أسعار صرف الدولار، والتوجهات الحمائية للسياسة التجارية الأمريكية، قد تنعكس سلبا في بعض الأحيان على الأسهم الآسيوية، إلا أن الاتجاه العام سيصب في مصلحتها، لاستقرار معدلات النمو في الصين، والاستثمارات الضخمة في مجال البنية الأساسية في عديد من بلدان منظمة آسيان والهند.
ويضيف مارتن قائلا “إن بنك مورجان ستانلي يعتبر الأسهم الهندية سوقا جذابة للاستثمار عام 2017″، ويتوقع أن يصل مؤشر “سينسيكس” في نهاية عام 2017 إلى 30 ألف نقطة، كما أن الأسهم الكورية رغم الأزمة السياسية التي تشهدها البلاد حاليا ستزيد خلال العام المقبل بنحو 21 في المائة، أما بلدان منظمة آسيان فهي تقف حاليا عند حدود 690 نقطة، لكن يتوقع أن تقفز عام 2017 إلى 710 وفقا لمؤشر “إم إس سي آى” لبلدان جنوب شرق آسيا.
إلا أن التفاؤل تجاه مسيرة سوق الأسهم الآسيوية العام المقبل، لا يدفع الدكتورة سارة وليم أستاذة الاقتصاد الدولي في جامعة كمبريدج، إلى تغيير قناعتها بأن الأسواق الآسيوية ستشهد العام المقبل سلسلة من الهزات الاقتصادية، التي قد لا تظهر نتائجها في الأجل الملموس، إنما ستترك بصمات واضحة على الاقتصاد الآسيوي على الأمد الطويل.
وتوضح وليم أن أحد أبرز التحديات التي ستواجه الاقتصادات الآسيوية خلال العام المقبل، هي النزعات الحمائية التي قد تهيمن على الاقتصاد العالمي، وهذا سيضع الاقتصادات الآسيوية أمام مجموعة من الخيارات الصعبة.
ويتوقع أن يشهد عام 2017 ملمحين أساسيين في آسيا، الأول مزيد من التنسيق والتعاون الاقتصادي بين المجموعات الآسيوية المختلفة، خاصة الناشئة منها للتغلب على الموجة المقبلة من الحمائية الاقتصادية، والملمح الثاني أنه يصعب الجزم حاليا بطبيعة القرار الذي سيتخذ من قبل الاقتصادات الناشئة في هذا الشأن، وأعني هنا: هل ستتقرب الاقتصادات الآسيوية من الاقتصاد الصيني أم الاقتصاد الياباني، فالنزعة الحمائية التي يتبناها الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترمب لا تبدو نزعة ذات طابع شمولي، إنما يبدو المستهدف منها الصين على وجه التحديد، وهنا سيكون على الاقتصادات الآسيوية خلال هذا العام، أن تقرر ما إذا كان عليها أن تضرب بالموقف الأمريكي عرض الحائط، وتواصل تفاعلها الاقتصادي مع الصين، أم أنها ستقرر خفض علاقاتها مع الصين مقابل تعزيز العلاقات الاستثمارية والتجارية مع الولايات المتحدة واليابان التي يعتبرها البعض وكيلا عن واشنطن في المنطقة، وهذا يعني أن عام 2017 سيمثل عاما محوريا في إعادة صياغة طبيعة العلاقات الاقتصادية المستقبلية في آسيا للعقد المقبل على الأقل.