بنظر رئيس “السلطة الفلسطينية” محمود عباس، تستخدم الولايات المتحدة وإسرائيل نفوذهما السياسي والاقتصادي لإرغامه على القبول بسياسات يعتبرها بغيضة – وإلا أصبح معرّضاً للتهميش الكامل. ومع ذلك، يعتقد عباس أنه تمكّن حتى الآن من الصمود أمام ما لا يقل عن ثلاثة تحديات رئيسية طرحتها أمامه الولايات المتحدة وإسرائيل في الأشهر الأخيرة، ولذلك فهو يؤمن أنه يحقق انتصارات سياسية. وقد لا يجلب شعبه مسافة أقرب نحو قيام دولة فلسطينية، أو يحقق لهم منافع كبيرة، لكنه يرى نفسه من رموز الصمود السياسي. وكونه يترأس حركة تَمَحْوَر دورها على مر التاريخ بالمجابهة والتمرد، فهو يجد في صمودها مكافأةً بحد ذاتها.
وفي حين لا تزال الجهود الأمريكية – وسياسة الضغط التي تمارسها الولايات المتحدة – قادرةً على إحراز نجاحٍ على الجبهة الفلسطينية في استئناف مفاوضات ذات مغزى خلال العامين المقبلين، من المهم معرفة نظرة الرئيس عباس إلى إدارة الرئيس ترامب التي تكاد تصل إلى منتصف ولايتها. وبغض النظر عما إذا كنّا من محبّي عباس أم لا، فمن المهم أن نعرف كيف يُحتمل أن يُفكر بأنه ينتصر عندما يتعلق الأمر بالقضايا التي أثيرت خلال الأشهر القليلة الماضية.
وعند النظر إلى سجل أدائه، تشكّل الأمم المتحدة نقطة انطلاق مناسبة. فسفيرة الولايات المتحدة إلى الأمم المتحدة نيكي هالي – التي أعلنت للتو عن تقاعدها – سارت في طليعة المسعى الذي أطلقته إدارة ترامب لاتخاذ موقف صارم بشأن قضايا اللاجئين والمساعدات للفلسطينيين. ويحظى هذا الموقف بشعبية بين العديد من الأمريكيين الذين يتساءلون عما إذا كانت “وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين” (“الأونروا”) تسعى فعلاً إلى حل قضية اللاجئين الفلسطينيين أم تسعى إلى استمرارها.
ومع ذلك، فمن خلال عدم تقديم خطة أمريكية “بديلة” للمساعدات الإنسانية للفلسطينيين تركز على مجموعات إغاثة أمريكية غير حكومية حسنة النية، بالترافق مع منع جميع المساعدات الأمريكية للسلطة الفلسطينية، قد سهّل على الدول العربية والأوروبية تحفيز عواطف الحماسة والدعم تجاه “الأونروا”. وقد تفاقم ذلك بسبب المخاوف من عدم تمكّن الأطفال الفلسطينيون في الضفة الغربية وقطاع غزة من الالتحاق بالمدارس هذا الخريف. ووفقاً لمسؤولين في الأمم المتحدة فإن جولتين من النداءات الطارئة، إحداهما جرت عند افتتاح الدورة الحالية للجمعية العامة للأمم المتحدة، واللتين جمعتا تعهدات بقيمة 320 مليون دولار لعام 2018، تمكّنتا من تغطية العجز الذي واجهته “الأونروا”.
وبطبيعة الحال، فإن الاختبار الذي ستخضع له هذه البلدان سيتمثل في قدرتها على الحفاظ على هذه المستويات على مدى السنوات القادمة. وقد ائتمنني أحد كبار الدبلوماسيين غير الأمريكيين على رأيه قائلاً، إن “قَطع التمويل الأمريكي عن “الأونروا” أوجد توازناً دولياً جديداً مع دخول الدول الأخرى في المعادلة. فلم تتعطل أعمال “الأونروا” وقد تم تهميش الولايات المتحدة داخل المنظمة.
وكانت الولايات المتحدة تأمل أن يؤدي سحب مساعداتها إلى حدوث تغيّر في سياسة “الأونروا”، وبشكل خاص تعريفها للاجئين، إلّا أن هذا لم يحصل على ما يبدو. وبالمثل، تأمل الولايات المتحدة بأن تؤدي خطوتها إلى الضغط على الرئيس عباس لتغيير موقفه “الرافض للتواصل” مع إدارة ترامب. وصحيحٌ أنه لدى الولايات المتحدة أسباب مشروعة لوقف تمويلها لـ “الأونروا”، لكن النقطة الأساسية هي أن عباس يبدو مستعداً للاستمرار في استخدام “الأونروا” كعصا سياسية، على الأقل حالياً.
وثمة تطورات أخرى يتعيّن على عباس أن يفضلها وهي الإعلان الأخير للرئيس دونالد ترامب الذي قال فيه للمرة الأولى إنه يفضل حل الدولتين بعد رفضه المشهور للإعراب علناً عن تأييده لنهج الدولتين منذ بداية ولايته.
وخلال العام الأول من إدارة ترامب، يقول المسؤولون الفلسطينيون إن عباس كان قلقاً من أن تُغري الولايات المتحدة دول الخليج مثل السعودية للضغط عليه لقبول اتفاق سلام اقترحه الرئيس ترامب. وربما لا تكنّ تلك الدول الخليجية الكثير من الحب أو الاحترام لعباس – بسبب مشاكل مختلفة مع عباس نفسه (من بينها الغضب الإماراتي الراسخ من نزاع عباس مع محمد دحلان) – وبالتالي لم تكن سخية لـ “السلطة الفلسطينية”. ومع ذلك، لم يتجسد هذا الضغط ببساطة على أرض الواقع – وعباس تنفس الصعداء.
ومنذ زيارة ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان إلى البيت الأبيض في ربيع هذا العام، فَقَدَ مصطلح “من الخارج إلى الداخل” الذي كان رائجاً في الماضي بريقه. إذ ازداد تدريجياً رفض هذه الفكرة القائلة بأن الأطراف الأخرى خارج الدائرة الإسرائيلية -الفلسطينية المباشرة تستطيع أن تسهّل الدعم العربي لخطة سلام يقترحها ترامب أو حتى تستبقها من خلال علاقات ثنائية مبتكرة، حيث أوضح الأمير محمد بن سلمان بأن الولايات المتحدة لا تستطيع الاعتماد على السعوديين لليّ أذرع الفلسطينيين [من أجل قبول اقتراح لحل ما]. وقد يكون هذا هو الحال حتى لو لم تنقل الولايات المتحدة سفارتها إلى القدس، لكن المسؤولين العرب يشيرون بالتأكيد إلى هذا الأمر كعامل تعقيد.
وهناك عاملان من المرجح أن يعززا هذا التراجع في الضغط العربي الخارجي على “السلطة الفلسطينية” هما الفتور في العلاقات الأمريكية -السعودية – الذي تجلّى على الأقل في الخطاب العلني الذي ألقاه ترامب في تجمع لمؤيديه مؤخراً وقال فيه إن المملكة العربية السعودية لا يمكنها أن تصمد لمدة أسبوعين بدون الولايات المتحدة – فضلاً عن الأزمة الأخيرة التي أحاطت بقضية اختفاء الصحافي السعودي جمال خاشقجي ومقتله على ما يبدو.
أما النقطة الثالثة التي يشعر فيها عباس بالنجاح فهي عدم دفعه أي ثمن سياسي من جراء عدم اكتراثه لحالة البؤس التي يعيشها قطاع غزة. فهو لم يكتفِ بعدم المشاركة في ضمان التمويل القطري لزيادة إمداد الكهرباء لسكان غزة من أربع إلى ثماني ساعات يومياً حتى نهاية عام 2018 فحسب، بل اعترض على الأمر أيضاً، وأوقف مساعدات “السلطة الفلسطينية” إلى غزة.
وفي الواقع أن استراتيجيته واضحة، وهي زيادة وضع غزة سوءاً من أجل الضغط على «حماس» للدخول في مواجهة عسكرية مع إسرائيل، الأمر الذي من شأنه أن يكسر الجمود الحاصل. وهذا من شأنه أن يحقق فوائد مزدوجة: حيث سيضعف خصمه «حماس» على المستوى العسكري، وسيسمح لعباس بالاستمرار بفعل ما يحبّه، أي توجيه اللوم علناً على إسرائيل باعتبارها المُضحّى بها. إن لوم إسرائيل كـ “متنمّرة” هو ما يُمكّن عباس من تعزيز الرواية الفلسطينية في أوروبا كونها الضحية. إنها خطوة متهكّمة لكنها فعالة.
ولم يقتصر الأمر على “عدم” دفع عباس ثمن عدم اكتراثه بغزة، لكنه فعل ذلك في الوقت الذي رفض فيه المحاولات والوساطة المصرية لإيجاد سبيل لإعادة “السلطة الفلسطينية” إلى غزة. وبالنسبة لعباس، غزة هي فخّ. فمن وجهة نظره، ما لم تسلّم «حماس» أسلحتها، فهو الذي يملك السلطة، و«حماس» هي من يتحمل مسؤولية تحسين الظروف المعيشية البائسة في غزة. غير أن هذا الموقف المفهوم بشأن نزع سلاح «حماس» يجب أن يقابل بخطة ملموسة من جانب مصر فيما يتعلق بكيفية تحقيق هدف ما، لكنّ ذلك لم يحصل.
وبصرف النظر عما إذا كان الأمر متعلقاً بـ “الأونروا”، أو بالعرب وترامب، أو بغزة، يعتقد الرئيس عباس أنه تجنّب دفع التكاليف السياسية عن تحدّيه للولايات المتحدة، حتى لو كانت واشنطن قد قطعت بالفعل مساعداتها الاقتصادية. وبالطبع، فإن مناوراته السياسية لم تساعد الشعب الفلسطيني بالضرورة. فحل الدولتين يبدو بعيداً جداً. ولا يزال ائتلاف رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو مستمراً بأعمال البناء خارج الحاجز الأمني. بالإضافة إلى ذلك، فإن [احتمالات] خلافة عباس البالغ من العمر 83 عاماً هي أكثر قتامة من أي وقتٍ مضى.
إنّ العامل المشترك في الخلافات المتعلقة بـ “الأونروا” ودَوْر الدول العربية ووضع غزة هو “قياس” عباس للنجاحات من خلال ما لم يحدث – أي استناداً إلى قدرته على الحفاظ على الوضع القائم في تلك المجالات المختلفة في محاولة لإحباط [ما تقوم به] الولايات المتحدة. وللأسف، في الشرق الأوسط، غالباً ما يتم الخلط بين الصمود والنجاح السياسيين وبين المكاسب الاستراتيجية. إلا أن الأمرين مختلفان. فالرئيس عباس في غمرة حياته، ليس لديه أي أوهام بأنه على شفير النصر الاستراتيجي، وبالتالي يواسي نفسه بتلك التصرفات المتمثلة بعدم التعاون. ولكن حتى واقع كونه رئيس حركة يرتبط تعريفها الذاتي على مدى عقود كثيرة بفكرة تحدّي القوى الخارجية، فإن هذا المبدأ التنظيمي قد أثبت حتى الآن أنه حافزاً غير كافياً للاقتراب بصورة أكبر من هدف إقامة الدولة.
معهد واشنطن