مسارات التحول: المعادلات الأمنية الجديدة في النظام الإقليمي العربي

مسارات التحول: المعادلات الأمنية الجديدة في النظام الإقليمي العربي

medium_2016-07-26-f43af80aff

أذكت الأحداث والتفاعلات الجارية في النظام الإقليمي العربي، منذ خمس سنوات، معادلات أمنية جديدة، إزاء تغير بنية القوة بين فواعل النظام، و”تقلب” أنماط التحالفات، وصور الاستقطاب البيني، وتنامي الاختراق الخارجي داخل ساحته، على حساب تهدئة الأوضاع، وتسوية الصراعات، مما راكم أزمات مضاعفة في المنطقة.

وإذا كانت مسوغات بناء معادلة أمنية جامعة لدول الإقليم تجد محفزاتها الجادة إزاء شائكية الملفات المشتركة، فإن اتساع نطاق صراعاتها وأزماتها البنيوية العميقة، وتنامي أدوار فواعل إقليمية، متضاربة المنافع حينا حد الخصومة، ومتنافسة حول مكانة “الدولة المركزية”، مع غياب الإطار الجمعي القادر على حل الخلافات وضبطها، قد أسهم في غلبة الأنماط الصراعية والخلافية على المحفزات المؤسسة للمسارات التفاعلية والتعاونية الممكنة، مما يعني السير بالمنطقة نحو مزيد من عدم الاستقرار.

أولا – أدوار القوي التقليدية والجديدة :

يعتري النظام الإقليمي العربي، منذ زهاء السنوات الخمس تقريبا، تغيرات بنيوية معتبرة في هيكلية موازين القوي الفاعلة داخل ساحته، نظير “تراجع” أدوار تقليدية عن واجهة المشهد، وتصدر أخري ناصية “الهيمنة” “Hegemonos” أو، على الأقل، التطلع لحيزها Aspiring Hegemonos””، مقابل اكتفاء دول “طرفية” بممارسة “الحياد”(1)، وذلك ضمن سياق مسار تحولي، لن تستقر ملامحه، أو تتضح قواعده إلا بعد فترة من الزمن، قد تطول أو تقصر، وفق ديناميات التغيير وسرعتها، والمحددات الداخلية، والإقليمية، والدولية المتداخلة>

ويتصل متغير القوة بين فواعل النظام المحدد لأنماط التحالف، وصور الاستقطاب ببنية قوته الداخلية، التي لا تنحصر في القدرات الكلية للدولة فقط، بل تشمل، أيضا، القدرة المتاحة أو المحتملة لدولة ما على التأثير في تفاعلاته، أو تغيير وتبديل عملية صنع القرار داخل طرف مناظر، أو بين أوساط النظام نفسه، وفق مصالحها وأهدافها(2)، بينما يطرأ الخلل عند اشتداد دور الدولة “المهيمن”، أو “المتطلع للهيمنة”، الذي يمتلك قوة “تقليدية” نافذة كافية للسيطرة على النظام الإقليمي، وتحديد توجهاته وسياساته، والتحكم في تفاعلاته والتأثير داخله، ومدي امتداد سيطرته وطبيعتها، عما إذا كانت عالية، أو متوسطة أو منخفضة، ومواقف أطراف الإقليم منها، أو عند تركز مقاليد القوة، المادية، والعسكرية، والمعنوية، أو ما يسمي “القوة الناعمة”، الثقافية، والإعلامية، والاقتصادية، وغيرها، أو غالبيتها، في إرادة دولة ما، أو عدد محدود من أطراف النظام، باحثة عن مكانة ومنزلة إقليمية ودولية، على حساب الأنماط التعاونية البينية القائمة داخل النظام، أو لدي محاولة دولة، أو دول أخري، من داخل النظام الإقليمي للإحلال مكان “الدولة المهيمنة”، أو ممارسة الدور نفسه، سواء بأدوات مماثلة أو مغايرة، مما يخلق تنافسا على فرض النفوذ، وأنماطا تحالفية، وصراعية، واستقطابية تحتدم وتيرة حدتها عند الاستعانة بطرف خارجي، مما يسمح بالاختراق الخارجي.

وتحضر “إسقاطات” تلك المتغيرات جليا في الساحة الإقليمية العربية، كما في حالتي سوريا والعراق اللتين خرجتا، بإرهاصات أزمتيهما المتوالية، من معادلة القوة العربية لمصلحة انكشاف ساحتيهما أمام التحالفات الإقليمية الدولية المتمايزة، وربما المتضادة، وبالتالي الاختراق الخارجي نظير الأزمة السوريا، الممتدة منذ مارس 2011، التي دمرت البنية التحتية للدولة، وأنهكت ركائز بنيانها، وفاقمت من تحدياتها الإنسانية، إزاء غياب حل سياسي في الأفق القريب على الأقل، مما أضعف قدرتها على أداء دور إقليمي مؤثر كانت تتمتع به قبلا.

وبالمثل، فلا يزال العراق ينوء تحت أنقاض ما خلفه الاحتلال الأمريكي، الذي جري الإعلان الرسمي عن نهايته في ديسمبر 2011، من دولة “فاشلة”، غداة حصارها جوعا لأكثر من عقد، والعبث بكيانها الوطني، ونسيجها المجتمعي، وإذكاء النعرات الطائفية والمذهبية، وتدمير البني التحتية، وفرض دستور، تم الاستفتاء عليه في 15 أكتوبر 2015، ضاعت من بنوده ملامح الهوية الوطنية والعربية الإسلامية لمصلحة المكونات الفرعية(3)، من دون مغادرة ساحتها كليا، عبر صيغ احتلال اقتصادي لاستثمارات شركات أمريكية في مجالات حيوية، وزرع آلاف العاملين، منهم أمنيون، في سفارة الولايات المتحدة ببغداد(4). بينما استكملت حكومة رئيس الوزراء العراقي السابق، نوري المالكي، نذر المحاصصة الطائفية، وتشويه أس المواطنة، من دون أن يحل التغيير الحكومي، في سبتمبر 2014، (بتسلم رئيس الوزراء حيدر العبادي دفة المهام من سلفه المالكي)، كثيرا التصدعات الداخلية الناخرة في استتباب أمن العراق واستقراره نحو السير الدائم على حافة الحرب الأهلية، ونذر “التفكك” الكياني، وسط سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” على مساحات شاسعة من الأراضي العراقية، بما يصعب معه استعادة لحمة الوطن في المستقبل القريب.

أما مصر، المنشغلة بقضاياها الداخلية أمام معالجة التحديات الاقتصادية والاجتماعية العميقة، ومجابهة التنظيمات المسلحة في سيناء، وتبعات فشل حكم “الإخوان المسلمين”، وصد تدخل الأطراف الخارجية في ساحتها، فسيكون لمسارها المحتقن الأثر الأكبر على اتجاه التحولات في بقية الدول العربية، نظرا للمكانة الاستراتيجية المركزية لمصر في البنية الإقليمية العربية.

بينما انكفأت دول عربية أخري داخل أزماتها العميقة، كما الأردن الغارق في أوضاعه الاقتصادية الصعبة، والتحديات السياسية والإنسانية التي أوجدها اللجوء السوري في أراضيه، فضلا عن محذور “تغلغل” تنظيم “داعش” داخليا، نظير نمو التيار السلفي الجهادي، وانخراط أعداد كبيرة من المقاتلين الأردنيين ضمن صفوفه، وتمركز “جبهة النصرة” قرب الحدود المشتركة مع سوريا، مما يجعله حبيس فكي كماشة تضيق حلقتها، في ظل التوترات بالمنطقة.

وإذا كانت الساحة اللبنانية، مصب تداعيات التجاذب الإقليمي العربي الحاد، منغمسة في أتون استقطاب الفرقاء اللبنانيين حول تشكيل الحكومة، وتداعيات تدخل “حزب الله” في سوريا ومعالجة تنامي بصمات الحركات الجهادية في أراضيه(5)، فإن ساحات عربية أخري منشغلة بمعالجة تنامي النزعات الانفصالية لدي ساحاتها “الأم”، قياسا بانفصال جنوب السودان، والانفصال شبه التام لإقليم كردستان العراق، وتنامي الحراك السياسي في بنغازي ليبيا نحو محاولات العودة إلي خريطة ليبية تقوم على المناطق الثلاث (برقة – فزان – طرابلس)، عدا ما يجري في جنوب ليبيا والجزائر من محاولات لإنشاء دولة للطوارق، كمقدمة لاحتمالات مستقبلية أكثر خطورة.

في حين تبرز مواطن الأزمات السياسية الحادة بالإقليم مع تجليات الهويات الوطنية (القطرية)، والقومية (العربية)، والدينية (الإسلامية) المتصارعة، والنزعات الطائفية والمذهبية المتنامية، و “الولاءات” الأولية التي استبدلت الدين، أو القبيلة، أو العرق بالأمة وعاء حاضنا للهوية والانتماء، وسط تحديات خارجية بارحت مشاريعها الغربية التقليدية المنافسة للنظام العربي، دونما مغادرتها كليا، مثل المشروع الأوروبي – المتوسطي، والاتحاد المتوسطي، والشرق الأوسطي، بشكله التقليدي القائم على التعاون الاقتصادي العربي- الإسرائيلي(6)، لمصلحة مخطط التفتيت على أسس طائفية وعرقية، ومحاولة استثمار التفاعلات المرتبطة بحراك التغيير العربي، والخلافات القائمة داخل وبين الدول العربية الإسلامية لجهة تعميقها، ودفعها إلي مستوي التناقضات الرئيسية، وتفجيرها كلما كان ذلك ممكنا، من أجل تنفيذ مخطط “التقسيم”، أو “التفكيك” بعد السيطرة(7)، مثلما تجلي مع مساعي القوي الإقليمية والدولية لتحويل الصراع في سوريا إلي طائفي مذهبي، وتأجيج الخلافات بين مكونات الشعب الليبي، سواء على صعيد التشدد الديني، أو النزعات القبلية العشائرية، بالإضافة إلي اتهام إيران بالتدخل في شئون البحرين الداخلية، والخليجية عموما، وتأجيج الصراع المذهبي الشيعي.

بيد أن المتغيرات التي أصابت بنية المنطقة قادت إلي صعود أدوار قوي عربية وإقليمية متنافسة، وربما متضادة، حيث حضر دور المملكة العربية السعودية، ومعها المنظومة الخليجية الجمعية، بقوة ضمن أطر النظام، عبر السعي الكثيف لصد ارتدادات حراك التغيير العربي عن ساحتها الداخلية، ومحاولة ملء الفراغ الناتج عن خروج قوي عربية تقليدية من معادلة القوة العربية، بدون التواني عن استخدام الحلول العسكرية لإعادة تشكيل المنطقة، وفقا لمصالحها(8)، كما تجسد، إما بشكل مباشر أو غير مباشر، في الحالات السورية، والليبية، واليمنية، والبحرينية، مما أحدث تقلبات في التحالفات الإقليمية الدولية، وتوترا في العلاقة البينية مع الولايات المتحدة الأمريكية.

يأتي ذلك في ظل صراع إقليمي تركي – إيراني – إسرائيلي للسيطرة على “الدولة المركز” في المنطقة، وتنافس تركي – إيراني تجسد في بناء “كتلة سنية” تقودها تركيا لمواجهة “كتلة شيعية” تقودها إيران، بما قد يعزز تنامي الفجوة الفاصلة بين الجانبين لثنائية السنة – الشيعة، وسط خشية عربية من مسعي إحياء “العثمانية الجديدة” في المنطقة، الذي لم تخفه تركيا، بل جاهرت به علانية، كما جاء على لسان وزير الخارجية التركي الأسبق، أحمد داود أوغلو، في 27 ابريل 2012، حينما قال “إن شرقا أوسطيا جديدا يولد، سوف تقود تركيا موجة التغيير فيه، وستكون في طليعته، وصاحبة فكر يحدد مستقبل النظام الإقليمي الجديد، فهذه مهمتنا ورسالتنا، وستكون تركيا رائدة هذا النظام، والناطقة باسمه”(9). وقد كرر الرئيس التركي، رجب طيب أردوجان، التوجه ذاته، حينما رأي أن “بريطانيا أسست الكومنولث مع مستعمراتها السابقة، فلماذا لا تكرر تركيا زعامتها في الأراضي العثمانية السابقة في البلقان، والشرق الأوسط، وآسيا الوسطي؟”(10). وقد ترجمت تركيا هذا الدور عبر التدخل الصريح في سوريا والمطالبة بتنحية الرئيس بشار الأسد، واستضافة “المعارضة” السورية، و”الإخوان المسلمين” في أراضيها، بما يشي بانتهاء سياسة “العمق الاستراتيجي” التي كان قد أعلنها أوغلو قبل اندلاع الأحداث(11)، وكان يقصد به العمق العربي الإسلامي بالنسبة لتركيا.

بينما تقف إيران في الوجهة المعاكسة، الممثلة بنفوذها الثقيل في سوريا والعراق، هاجسا مقلقا بالنسبة لدول المنطقة، لاسيما السعودية، خصمها التقليدي اللدود، وتركيا، منافستها على استحواذ مكانة “المركز” الإقليمي، خاصة عقب توقيع الاتفاق النووي الإيراني، في 14 تموز 2015، بين طهران والقوي الكبري في فيينا، الذي يعد، وفق مراقبين، نصرا معتبرا لإيران، نظير حصولها على مئة مليار دولار من أموالها المجمدة في البنوك الأمريكية والأوروبية، ورفع غالبية العقوبات الاقتصادية عنها، مقابل خفض نشاطها النووي بتخصيب اليورانيوم، والذي “لا يخرج عن مجرد تأخير إنتاج السلاح النووي لعدة سنوات فقط”(12)، بحسبهم، مما يسمح بتقارب إيراني – أمريكي كان مفقودا طويلا، وفتح فضاءات، سياسية واقتصادية، كانت مغلقة أمام طهران، في ظل محددات سعودية، وتركية، وإسرائيلية، كل على حدة، لصد النفوذ الإيراني المؤثر في المنطقة.

ثانيا – تحالفات إقليمية دولية متضادة:

أفضي استلال دول الإقليم لمقاربات متمايزة، حيال الأحداث والتفاعلات الجارية في منطقة الشرق الأوسط، إلي أنماط أكثر ديناميكية و”تقلبا” من التحالفات الإقليمية الدولية المتباينة، على حساب تهدئة الأوضاع، وتسوية الصراعات، مما سمح بتغيير طبيعة التوازنات، نظير التراوح بين خانتي تلاقي المصالح والقطع معها، وباتساع منسوب الاختراق الخارجي داخل ساحتها، الأمر الذي أضاف أزمات مضاعفة في المنطقة.

وتتراءي مصفوفة تلك التحالفات، ذات المصالح المنسجمة والمتضاربة معا، في المشهد السوري، من دون أن تتوقف عنده فحسب، إزاء تشابك أطره مع الساحة العراقية، حيث وجدت القوي الإقليمية، المتوجسة من النفوذ الإيراني المتعاظم بالمنطقة، في الأحداث السورية فرصة للتأثير في موازين القوي الإقليمية، بعد الانسحاب الرسمي للقوات الأميركية من العراق.

فقد أذنت الأزمة السورية بانهيار المحور التقليدي المصري – السوري – السعودي، الذي كان قائما لسنوات طويلة، لمصلحة تدشين أحلاف مغايرة، في ظل التشبث السعودي، الخليجي، بمطلب تنحية الرئيس بشار الأسد عن السلطة سبيلا للحل، ودعم تسليح “المعارضة” للإطاحة بالنظام السوري، مما قطع حبال “الوصل” العلائقية بين دمشق والرياض نهائيا، وجبَّ معها مسار التضاد للمحور السوري – الإيراني، “حزب الله”، أيضا.

ويدخل في حساب المقادير السعودية ما قد يخلفه بقاء الرئيس الأسد في السلطة دونما رحيل من تبعات سلبية تطول ساحتها الداخلية بالربكة والريبة، إزاء موقفها المضاد له، توازيا مع ثقل هاجسها المقلق من النفوذ الإيراني في الساحتين السورية والعراقية، وصولا إلي التأثير في اليمن، عبر الحوثيين، والخشية من التأليب الإيراني للأقلية الشيعية في الجبهة الشرقية السعودية، أو الإقدام على تخريب منشآتها النفطية لدي ارتفاع حدة التوتر بين البلدين، فضلا عما يشكله البرنامج النووي الإيراني من رافعة قوية لإيران لتضحي الدولة الأقوي في منطقة الخليج العربي، وبالتبعية، تهديدا وازنا لثروتها النفطية، وأمن دولها الاستراتيجي، مما قد يحفزها، لاحقا، على استلاب بعض حقول النفط والغاز في الدول المجاورة، مثل حقل مجنون العراقي الضخم، الواقع على الحدود بين العراق وإيران، أو حقل السفانية السعودي، الذي يعد أكبر حقل نفطي بحري في العالم، أو حقول الغاز القطرية التي تعد ثالث أكبر حقول العالم(13).

وقد دفعت تلك “الهموم” بالسعودية، إلي جانب تركيا، وفق رؤية كلتيهما المنفردة، إلي استحثاث مطلب استلال القوة العسكرية للإطاحة بالنظام السوري، عبر تسليح المعارضة، أو بتدخل عسكري إقليمي أو دولي، لأجل تحويل دمشق من حليف لطهران إلي خصم مضاد، بما يشكل حائط صد لدورها الإقليمي المتعاظم(14)، والذي لن يتأثر كثيرا بنتائج الانتخابات البرلمانية، التي بدأت في فبراير 2016، وحظي فيها الاصلاحيون بمقاعد وازنة(15)، وذلك في ظل إصرار طهران على عدم التراجع عن برنامجها النووي، رغم الاتفاق الذي وقعته مع القوي الدولية أخيرا حول البرنامج النووي الإيراني، ومسعاها لتحقيق هدف الحصول على مكانة القوة الإقليمية الأساسية في منطقة الشرق الأوسط (وفق مشروع رؤية 2020 الذي أعده مجلس تشخيص مصلحة النظام)، وعدم التوقف عن مساعي تعميق دورها في العراق، ووقوفها المؤيد لنظام الرئيس الأسد.

بيد أن الإحجام الأمريكي عن التدخل العسكري المباشر لحل الأزمة السورية أدي إلي نشوب خلافات سعودية، تعمقت بمرور الوقت، مع واشنطن، بعدما ارتفعت حدتها أخيرا في محطات فاصلة، أسوة بقرار التدخل العسكري، عبر درع الجزيرة، في البحرين، في 16 مارس 2011، لحسم الصراع القائم لمصلحة النظام الحاكم، بدون علم الإدارة الأمريكية وبمواجهة معها، وشن حملة “عاصفة الحزم”، في 26 مارس 2015، باليمن ضد جماعة الحوثيين، والقوات الموالية لهم وللرئيس اليمني السابق علي عبد الله صالح، بعيدا عن المباركة الأمريكية، وردا على توقيع الاتفاق النووي الإيراني الذي عدته الرياض ترجيحا أمريكيا لكفة إيران على حساب دول الخليج العربية، وتقوية شوكتها، لاسيما مع التوافق الروسي – الأمريكي على رفض الحرب العسكرية ضد النظام السوري، بما باعد بين الموقفين الأمريكي والسعودي- الخليجي من الأزمة السورية. فيما أضافت أزمة النفط بعدا آخر للتوتر العلائقي إزاء إصرار السعودية على عدم تخفيض إنتاجها بهدف عرقلة منتجي النفط الصخري الأمريكي، غداة زيادة إنتاجه منذ عام 2011، مما جعل الولايات المتحدة مصدرا ضافيا لمنتجات النفط المكررة، وقاد لتراجع وارداتها من النفط بنحو 5،4 مليون برميل يوميا، خلال عامي 2005 إلي 2014، لاسيما من الدول المنتجة للنفط بالشرق الأوسط (16). وتسعي السعودية، بذلك، إلي ربط واشنطن بالمنطقة لأطول مدة زمنية ممكنة، والحفاظ على علاقاتها بدول مجلس التعاون الخليجي كأداة لموازنة التحالف الروسي – الإيراني المحتمل، وذلك في ظل الانكفاء الأمريكي عن واجهة المشهد الإقليمي العربي صوب أقاليم أخري تحمل مكانة وازنة في منظورها الاستراتيجي، دونما مغادرة الساحة كليا، فهو أمر لم تعد واشنطن قادرة عليه، في ظل مصالحها الاستراتيجية المعتبرة في المنطقة، وأس الحفاظ على الأمن والوجود الإسرائيلي، وحرص الإمساك، علنا على الأقل، بتلابيب ملف الصراع العربي- الإسرائيلي، بعيدا عن المنابر الأممية والأوروبية، رغم غياب رؤية استراتيجية أمريكية واضحة لحله، وإنما إدارته فقط.

محذور “الانسحاب” عقب “الانكفاء” الأميركي من المنطقة، وتوتر العلاقات البينية مع السعودية، دفعا بالأخيرة، مع دول خليجية أخري، إلي التحرك نحو روسيا وأوروبا لتعزيز العلاقات، وبناء تحالفات وتكتلات جديدة، من دون التخلي عن تحالفها مع الولايات المتحدة الأمريكية، الذي تعده ذا طبيعة استراتيجية طويلة الأمد(17). إلا أن اللقاء السعودي- الإسرائيلي الأخير، الذي جري على شكل مناظرة، نظمها معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدني، بين رئيس الاستخبارات السعودية الأسبق، الأمير تركي الفيصل، ومستشار الأمن القومي الإسرائيلي السابق لحكومة بنيامين نتنياهو، الجنرال (احتياط) يعقوب أميدرور(18)، أحدث جدلا ولغطا كبيرين حيال ما إذا كانت “المصافحة” الثنائية العلنية تشير، تباعا، إلي تقارب بيني، قد تتم الاستعاضة السعودية به عن المحاور التقليدية العربية المتغيرة دوما أم لا، وفقا للظروف، في ظل وجود ملفات مشتركة قد تستدعي تعاون الجانبين، وفي مقدمتها ملف إيران، وتنظيم “داعش”، كما قال أميدرور، مقابل تركيز الفيصل على قيمة التلاقي باستلال “حل الدولتين”(19)، وفق المبادرة العربية للسلام التي طرحتها السعودية في عام 2002، سبيلا لحل الصراع العربي الإسرائيلي.

ومهما يكن من اختلاف وجهتي النظر، فإن هذا اللقاء السعودي – الإسرائيلي العلني، الأول من نوعه، خلافا للعلاقة القطرية – الإسرائيلية المفتوحة والمسار الإماراتي – الإسرائيلي الخجول، يشي بتقلبات خطيرة في التحالفات الإقليمية وسط المشهد المضطرب، الذي أدي إلي تراجع الاهتمام بالقضية الفلسطينية، في ظل ضعف الدعم العربي – الإسلامي لها، مقابل الانحياز الأمريكي للاحتلال الإسرائيلي.

غير أن الخط الخليجي للمحاور العلائقية لا يسير في انسجام تام، بما يعمق الفجوة القائمة بين أعضاء مجلس التعاون أمام غياب سياسة خارجية جمعية. فرغم التوافق حول الخطر الإيراني على المعادلة الأمنية الخليجية، فإن سياستها الخارجية لم تكن موحدة. ففي ظل النزاع الحدودي القطري – البحريني، والقطري – السعودي، اندفعت قطر إلي تسخين علاقاتها مع إيران، كقوة موازية للسعودية، ولضرب إسفين ضد البحرين التي تعاني تدخل إيران في شئونها الداخلية، رغم دعم طهران للنظام السوري في مواجهة المعارضة المدعومة قطريا. وفي ظل النزاع الإماراتي – السعودي، ذهبت الرياض نحو تقارب نسبي مع إيران التي تسيطر علي الجزر الإماراتية. ووسط النزاع بين الإمارات وسلطنة عمان، استمرت الأخيرة في الحفاظ على وتيرة علاقاتها المميزة مع طهران، والدفع نحو الحل السلمي للخلاف النووي الإيراني، مستفيدة من علاقة دبلوماسية وطيدة مع الغرب، رغم أن إيران النووية، بالنسبة للمنظور الخليجي، تصبح أكثر عدوانية في سعيها لتحقيق مصالحها في الساحة الخليجية.

ولا تجد الدوحة حرجا من رابطة التحالف مع طهران، أسوة بأنقرة، حيث يبدو كل شيء ممكنا عند تغليب السياسة البراجماتية على الإيديولوجيا. إذ رغم العداوة التاريخية التركية- الإيرانية التي تعود إلي زمن المواجهة بين “الإمبراطورية العثمانية”، و”الإمبراطورية الفارسية” الصفوية على طول الحدود الحالية تقريبا، ومن ثم الخلاف الثنائي حول الأزمة السورية، والدعم التركي لجماعة “الإخوان المسلمين”، فإنه يمكن لذلك أن يتغير وفق مراقبين(20)، حيث تختلف ديناميكية العلاقة التركية- الإيرانية عن السعودية- الإيرانية، حيث لا تشعر تركيا بالتهديد من إيران على كلا صعيدي “الدولة أو القضية”، بإستثناء التنافس الثنائي على “المركزية الإقليمية”، كما لم تحدث حتي الآن مواجهات جدية بين الجانبين، مما قد يقود إلي مواطن انتفاع اقتصادي متبادل، عقب الاتفاق النووي الإيراني، ومسار التقارب بين طهران وواشنطن في الملف العراقي، بحيث قد تجد تركيا في الساحة الإيرانية تعويضا اقتصاديا معينا، بعد توتر علاقتها مع روسيا، التي تأزمت أخيرا بعد إسقاط تركيا لطائرة حربية روسية ادعت أنها انتهكت مجالها الجوي، وهو الأمر الذي رفضته موسكو، مما دفع بالأخيرة إلي فرض حزمة عقوبات اقتصادية ضد أنقرة، التي لم تتقدم، بدورها، باعتذار عن الواقعة(21)، بما راكم خلافا مضافا إلي تباين رؤية البلدين حيال حل الأزمة السورية، بعد التدخل الروسي العسكري، في 30 سبتمبر 2015، أمام إصرار تركيا على الإطاحة بالرئيس الأسد، قبل التوصل إلي أي حل سياسي في سوريا، وهو سبب كفيل بأن يجبَّ معه مسار التقارب الثنائي.

ولن يكون تحالف هكذا يجمع بين تركيا وروسيا، ستجد قطر مكانا ثابتا فيه، موضع ترحيب سعودي عند حدوثه، لاسيما في ظل التباين الخليجي على مساري المحور المصري- السعودي- الإماراتي، مقابل المحور القطري- التركي. إذ بعدما قاد تولي الرئيس محمد مرسي رئاسة الجمهورية المصرية في 30 يونيو 2012، في أول انتخابات رئاسية تجري بعد ثورة 25 يناير 2011، إلي توتر العلاقات المصرية – السعودية، إلي حد القطيعة، التي استمرت إلي حين قيام ثورة 30 يونيو 2013 وما تبعها من أحداث لاحقة، أسفرت عن عزل الرئيس مرسي، فإن العلاقة الثنائية سرعان ما استردت عافيتها القوية مع دعم الرياض وأبو ظبي السخي للرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، منذ توليه مقاليد السلطة، غداة ارتياحهما من سقوط جماعة “الإخوان المسلمين”، الخصم التقليدي لهما، عن سدة الحكم، مما أدي إلي التضاد مع قطر، التي تقف في الوجهة المعاكسة، حد بلوغ الخلاف الخليجي حافة التهديد بإجراءات عقابية ضد الدوحة، تحت طائلة تلبية مطالب التراجع عن دعم “الاخوان”، ماديا وسياسيا وإعلاميا، والتوقف عن الدعم المالي للحوثيين، ولجماعة الإخوان المسلمين، الممثلة في حزب التجمع اليمني للإصلاح في اليمن، ودعم المجموعات الشيعية الشيرازية الإرهابية في البحرين(22)، فضلا عن الاستياء من المحاولات القطرية المستميتة للإفادة من الوضع الداخلي المصري كمدخل مناسب لترميم عطب “قوتها الناعمة”، وإحياء مشروعها المساند للإخوان، بحسبانه جسرا لتعزيز نفوذها في المنطقة، بدعم تركيا، التي اتخذت، بدورها، موقفا مناوئا من ثورة 30 يونيو المصرية بعدّها “انقلابا” على الشرعية يستوجب إصلاحه.

بينما أرخي التحالف القطري- التركي الوثيق وشائج التوتر العلائقي مع مصر، نظير استضافتهما “للإخوان المسلمين”، ودعمهما السخي لهم، في محاولة فاضحة لتوظيف هذا الوتر الضيق صوب زعزعة الاستقرار في الساحة الداخلية المصرية، وإسناد المسعي التركي لسحب بساط الدولة المركزية الإقليمية لمصلحة إحياء “العثمانية الجديدة”، مثلما تجسد عبر التقليل من شأن جهود القاهرة في استلال قضايا المنطقة، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية، كما اتضح سابقا من خلال الدخول بقوة على خط الجهود المصرية في رفع الحصار، وإعادة إعمار قطاع غزة(23)، ضمن ثنايا التنافس غير الخافي مع ما يسمي “محور الاعتدال” الذي تنخرط فيه السعودية، ومصر، والإمارات، والأردن، مما شكل موضع خلاف مع السعودية والإمارات.

وزاد من ذلك اختلاف المقاربة المصرية للأزمة السورية عن الرؤية القطرية – التركية، صوب الحل السياسي، لاسيما بعد تصريحات وزير الخارجية المصري، سامح شكري، التي دعم فيها الضربات الجوية الروسية في سوريا(24)، وذلك قبيل إعلان الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، عن سحب قواته من سوريا، والذي عدّه البعض تخفيضا، وليس انسحابا(25)، مما دفع باتجاه مؤشرات تقارب مصري – روسي خجول، في ظل مسعي موسكو لشغل موقع واشنطن لدي القاهرة، واستعدادها لملء فراغ علاقتهما، التي أصابها التوتر أخيرا، وذلك عبر التسليح، أو المساعدات، إزاء تعاون عسكري لم ينقطع بموجب الاتفاقيات الثنائية المبرمة، على غرار محاولات موسكو لمد جسور الوصل مع طهران، عبرت عنها زيارة الرئيس الروسي التاريخية إلي إيران(26)، لبحث دعم حليفهما السوري المشترك، رغم التناقض التاريخي الثنائي، وتصاعد الخلاف حول سوريا.

ولا شك في أن فوضي المحاور “المتقلبة” والتحالفات المتغايرة بين دول الإقليم تصب في خدمة المصالح الإسرائيلية، نحو زعزعة الأمن والاستقرار في المنطقة، وتسويق مزاعم “الواحة الديمقراطية” الإسرائيلية اليتيمة، وسط المشهد الإقليمي العربي المضطرب، بما يطيل، وفقا لمنظورها، من أمد الأزمة في سوريا، ويسهل عملية تقسيمها على أسس طائفية وإثنية، وإخراجها من دائرة الصراع العربي الإسرائيلي، وهو الأمر الذي كشف عنه رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، أخيرا حينما استغل الأحداث السورية لجهة تأكيد “بقاء السيطرة الإسرائيلية على الجولان”(27) السوري المحتل.

ثالثا – التعاون/التعثر في معادلة أمنية جامعة:

تجد مسوغات بناء معادلة أمنية جامعة في النظام الإقليمي العربي حضورها الجاد إزاء تكالب ملفات شائكة ومهددة لزعزعة الأمن والاستقرار الداخلي، وتنامي الاختراق الخارجي في المنطقة، التي تعد الأكثر قابلية للتدخل، بحكم قدراتها وإمكانياتها المحدودة، وضعف تماسكها، لاسيما اقتصاديا وسياسيا، واتساع نطاق وعمق صراعاتها(28)، وأزماتها البنيوية العميقة، وسط التنافس بين قوي إقليمية عربية حول موقع “الدولة المركزية”، والإرث التاريخي للشركات متعددة الجنسية، و”تغلغل” مؤسسات المجتمع المدني الغربية في أوساطها(29)، بما يجعلها محفزات معتبرة لأنماط تفاعلية وتعاونية ممكنة بين ساحاتها البينية.

ويقف تنامي الحركات “الجهادية” المتطرفة، والمتقاطرة تحت “حلم” إقامة الدولة الإسلامية، بموازاة الجماعات المسلحة المتمددة في ساحات عربية بفعل التغذية الخارجية، مالا وسلاحا وعتادا، خطرا جمعيا حاسما لمتطلب المجابهة الإقليمية العربية المشتركة، لاسيما مع سيطرة تنظيم “داعش” على مساحات شاسعة من العراق وسوريا، وبلوغ أياديه الإرهابية حد ساحات إقليمية وغربية متعددة، مما أربك حساباتها السياسية، وقاد إلي تدخل الولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط مجددا، عبر قيادة تحالف دولي مضاد من قرابة 50 دولة عربية وغربية، جري إعلانه بباريس في سبتمبر 2014، متسلحا بقرار أممي، لمحاربة تنظيم “داعش”.

وقد كان حريا بهذا التحالف الدولي أن يشكل فاتحة تقاطر جمعي موحد حول محاربة التنظيم الإرهابي. إلا أن التساؤلات لا تزال تحيط بالإنجاز الذي تحقق لاحتواء تنامي نفوذ “داعش، والقضاء عليه(30)، في ظل افتقاد الإدارة الأمريكية رؤية استراتيجية واضحة لمواجهته(31)، وتنامي حجم التباينات بين أطراف الحلف حول هدف التحالف، وسيادة التناقضات، وتقاطع المصالح بينها، بما يضع استمراريته على المحك.

يزيد من ذلك أزمة النفط التي قد تخلف آثارا عميقة على أنماط التفاعلات في المنطقة. ويتخذ مراقبون من الملف النفطي سبيلا لخيارات: إما التوافق الإقليمي، أو التضاد، أو التوازن البنيوي، تبعا لتوافق سعودي – إيراني قد ينشأ نتيجة ملف الطاقة، إزاء حاجة الرياض له كبديل عن احتياجاتها الداخلية المعتبرة منه، مقابل امتلاك طهران مخزونا هائلا من الغاز الطبيعي، بما يشكل مصدر تقارب ثنائي(32). إلا أن هاجس القلق من نفوذ إيران، الخصم التقليدي للسعودية، قد يعيق مواطن التقارب بين الجانبين، أمام الإصرار السعودي على بقاء معدلات إنتاجها من النفط، تقابله رغبة إيرانية ملحة للتوسع في إنتاجه وتصديره، عقب رفع بعض العقوبات المفروضة عليها، مما يؤدي إلي تعميق حالة الصراع بين البلدين، لاسيما مع المدركات المسيطرة على طهران باستهداف السياسة النفطية السعودية جانب الضغط الاقتصادي عليها، وحرمانها من جني ثمار الاتفاق النووي.

هذا يؤدي، بالضرورة، إلي استحداث محفزات جديدة للاضطرابات في المنطقة. إذ قد تنطوي أزمة النفط على تداعيات سلبية تطول وضعية الدول المنتجة له، مما ينذر بتقويض الاستقرار المجتمعي الذي كانت تتكفل به العوائد النفطية، ويهدد بتدخل أطراف خارجية متضررة من تراجع أسعاره، عبر افتعال التوترات، سواء مباشرة، أو عبر وكلاء إقليميين، للضغط في الاتجاه المضاد(33).

إلا أن استمرار أزمة النفط لفترة تتجاوز الاحتياطيات النقدية للدول النفطية ستشكل ضغطا قد يدفعها للانكفاء الداخلي، ومحاولة معالجة التعقيدات المجتمعية المترتبة على الأزمة، بما يرتبط بمعضلة تنويع مصادر الطاقة بالنسبة للدول الخليجية المنتجة للنفط. وقد تتجه السعودية، وغيرها من الدول النفطية، إلي تقليل الاستهلاك المحلي للنفط، والاعتماد على مصادر الطاقة البديلة، عبر البحث عن حلفاء متقدمين في هذا المجال، مما قد يؤسس لتوازن مبني على تحالفات إقليمية دولية لضبط تفاعلات المنطقة، وتحقيق الحد الأدني من الاستقرار الإقليمي.

ويرجع مسعي التوازن إلي مكانة منطقة الشرق الأوسط في توازنات القوي العالمية، نظير مخزون النفط الهائل فيها، خلا تراجع أهميتها النسبي على أجندة بعض القوي الدولية، مما قد يجعلها مسرحا تنافسيا متعاظما على النفوذ والتحالفات بين قوي دولية مختلفة، مثل الصين التي تعتمد بشكل كبير على نفط الشرق الأوسط، الذي يمثل نحو 43 من واردات النفط الأجنبي لها، فضلا عن اعتمادها على واردات الغاز الطبيعي المسال من قطر. بينما تحاول روسيا تأكيد وجودها في الإقليم، عبر تكريس تحالفات تساعدها في تحقيق أهدافها. ويمكن أن تضيف أزمة النفط الحالية حافزا آخر لتدعيم تحالفها مع طهران بهدف الضغط على الرياض، إزاء تضرر موسكو من أزمة النفط الحالية، نتيجة إصرار السعودية على عدم تخفيض إنتاجها(34).

وفي خضم التنافس الصيني- الروسي على المنطقة، ليس متوقعا المغادرة الأمريكية الكلية عن ساحتها، بغية تطويق نطاق التوتر فيها، حفاظا على مصالحها الاستراتيجية، وحماية حليفها الإسرائيلي، فضلا عن حاجتها، على المديين القريب والمتوسط، إلي عشرة ملايين برميل من النفط السعودي يوميا، حتي مع ثورة النفط الصخري الأمريكية(35).

إن مواطن الفرقة تلك تعد نماذج حية على غلبة الأنماط الصراعية أو الخلافية، في حدها الأدني، على المحفزات المؤسسة لأشكال من التفاعلات الممكنة داخل النظام الإقليمي العربي، والتي دارت حولها تجارب تكاملية تاريخية غير مكتملة، في ظل مؤسسة الجامعة العربية التي لم تستطع آلياتها وأذرعها الجمعية بلوغ المستوي المطلوب من التعاون بين دولها. بينما يعد مجلس التعاون الخليجي مثالا حيا على نمط تعاوني ناجز في بعض الجوانب، وسط خلافات معتبرة تعتري منظومته الداخلية، رغم الحرص الجمعي على الإبقاء عليه دون تفكيكه، ولكن من دون نجاح مساعي تحويله إلي “اتحاد”، حتي الآن، نظير الخلافات الحدودية، وغياب سياسة خارجية جمعية، وتنامي النزعة القطـرية عند بعض الدول الخليجية لاحتلال موقع “الدولة المركز” في المجلس، وسيادة المصلحة الوطنية، أحيانا، على المصلحة الجماعية، ومخاوف الدول الصغري من تقديم تنازلات في مجال الاستقلال والسيادة، علاوة على وجود رفض لفكرة “الاتحاد” داخل بعض مكونات النسيج الاجتماعي في عدد من دول المجلس، بالإضافة إلي عدم وضوح مفهومه، مما يثير تساؤلات عند البعض حول مدي استعداد الدول الأعضاء للتنازل الجزئي عن السيادة الوطنية، ومدي توافر الإرادة السياسية لإحداث النقلة نحو “الاتحاد”، وعما إذا الانضمام إليه سيكون جماعيا أم مرحليا، كونفيدراليا أم فيدراليا، وسبل مجابهته للتحديات الخارجية، ومطالب الإصلاح السياسي الداخلي.

ويزيد من عمق الأزمة ترسيخ إشكاليات قائمة في النظام الإقليمي العربي، ومنها اتجاهه نحو “العسكرة”، وليس للاعتماد المتبادل والتكامل الاقتصادي بين دوله، مما أدي إلي سيادة أعلى درجات العسكرة، وأخطر أنواع الحروب، ومعظم القواعد العسكرية، على حساب تفاعلاته التنموية والتكاملية، وتحويله إلي كتلة، أو جماعة اقتصادية سياسية قادرة على التفاعل الإيجابي مع المجتمع الدولي(36)، وسط علاقات اقتصادية وتجارية بين أطرافه لا تتعدي 11 من حجم تجارتها الخارجية(37)، وقولبة مفهوم الأمن القومي ليصب في حماية أمن النظام، وبقائه أولا مع غياب مفهوم الأمن غير التقليدي(38)، وتشبيك التحالف مع الخارج، مقارنة مع الداخل، مما جعله عرضة للاختراق الخارجي، إزاء كثافة صراعاته البينية، وهشاشة تماسكه، وتعرضه لموجة عاتية من الانقسامات الداخلية على أسس طائفية وعرقية مذهبية.

الخلاصة:

ليس هناك ما يشير إلي قرب بناء معادلة أمنية جامعة في النظام الإقليمي العربي خلف المنعطف القادم على الأقل، نظير غلبة الأنماط الخلافية والصراعية على الأشكال التعاونية والتفاعلية الممكنة، وتنامي التحالفات الإقليمية الدولية المتمايزة، وربما المتضادة، على حساب التهدئة والاستقرار في المنطقة، مما يعني، في المحصلة، السير الدائم بها نحو مزيد من الاضطرابات والاحتقانات المتوالية.

ورغم توافر المحفزات المؤسسة للتعاون، ضمن معادلة أمنية جمعية، إزاء شائكية الملفات المشتركة، فإن المشهد الإقليمي العربي المضطرب، منذ زهاء السنوات الخمس تقريبا، أفرز تغيرات في بنية القوة، وتوزيع هيكليتها بين فواعل النظام، تناوبت خلاله أدوار القوي الإقليمية العربية بين التراجع والصعود، مقابل الانكفاء، فضلا عن ارتفاع منسوب الاختراق الخارجي، بما يرجح استمرار عدم الاستقرار في المنطقة.

الهوامش:

1- K. J. Molsti, “Toward a Theory of Foreign Policy, Making the Case for Role Analysis”, in Steven Walker, (ed.), Role Theory and Foreign Policy Analysis, (Durham, Duke University Press, 1987), p.46.

2- Louis J. Cantori and Steven L. Spiegel, The International Politics of Regions: A Comparative Approach, op.cit., pp. 14-17.

3- انظر نص الديباجة في دستور جمهورية العراق، أغسطس .2005

4- عبدالحسين شعبان، تضاريس الخريطة السياسية العراقية، المستقبل العربي، العدد 333، نوفمبر 2006، ص.58

5- علي الدين هلال، حال الأمة العربية (2013-2014): مراجعات ما بعد التغيير، المستقبل العربي، العدد 242، يونيو 2014، ص ص11-.12

6- محمد السيد سليم، ضغوط ما بعد الثورات: الانكشاف المتزايد للنظام الإقليمي العربي، السياسة الدولية، العدد 192، أبريل 2013، ص.50

7- سالم توفيق النجفي، أزمة الدولة القومية المعاصرة: التفكيك والاندماج، المستقبل العربي، السنة 30، العدد 340، يونيو 2007، ص44-.45

8- محمد بسيوني عبدالحليم، توازنات جديدة: تراجع أسعار النفط وتحولات الدور والمكانة في الشرق الأوسط، السياسة الدولية، ملحق تحولات استراتيجية، العدد 204، أبريل 2016، ص.34

9- انظر في ذلك، سليم، ضغوط ما بعد الثورات: الانكشاف المتزايد للنظام الإقليمي العربي، مرجع سابق، ص.51

10- المرجع نفسه.

11- أحمد داود أوغلو، العمق الاستراتيجي: موقع تركيا ودورها في الساحة الدولية، ترجمة: محمد ثلجي وطارق عبد الجليل (بيروت: الدار العربية للعلوم، ناشرون، الدوحة: مركز الجزيرة للدراسات، 2011).

12- ممدوح سلامة، استعادة الفشل: استراتيجية الدفاع عن الحصص وتقويض اقتصادات دول “أوبك”، السياسة الدولية، ملحق تحولات استراتيجية، العدد 204، أبريل 2016، ص.14

13- المرجع نفسه.

14- Joseph Holliday, “The Struggle for Syria in 2011: An Operational and Regional Analysis”, Middle East Security, Report 2 (December 2011), p.23.

15- باتريك شميدت، داخل انتخابات الإعادة في إيران، معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدني، 25 أبريل 2016. على الرابط التالي:

http://www.washingtoninstitute.org/ar/policy-analysis/view/inside-irans-runoff-election

16- مالك عوني، ما بعد التفكك: هل انتهت صلاحية الشرق الأوسط؟، السياسة الدولية، ملحق تحولات استراتيجية، العدد 203، يناير 2016، ص4-.5

17- جمال عبدالله، خيارات دول الخليج لمواجهة التدخل العسكري الروسي في سوريا، مركز الجزيرة للدراسات، الدوحة، 3 نوفمبر 2015. علي الرابط:

http://studies.aljazeera.net/ResourceGallery/media/Documents/2015113112310147734/3/11/2015Gulf-Russian-Syria.pdf.

18- تقرير بعنوان: الفيصل وأميدرور: المضي قدما بالعقل العربي والمال اليهودي، موقع سي إن إن العربية، 6 مايو 2016. على الرابط التالي:

http://arabic.cnn.com/middleeast/06/05/2016/prince-turkey-saudi-israel-iran-threat

19- المرجع نفسه.

20- جيمس جيفري، احتمالات حصول تقارب تركي – إيراني، معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدني، 1 مايو 2015. على الرابط التالي:

http://www.washingtoninstitute.org/ar/policy-analysis/view/possibilities-for-a-turkish-iranian-rapprochement

21- إسقاط الطائرة الروسية: بوتين يفرض عقوبات اقتصادية على تركيا، بي بي سي، 28 نوفمبر 2015. على الرابط:

http://www.bbc.com/arabic/middleeast/151127/11/2015_russia_beefs_up_defences_in_syria

22- جريدة الخليج، أبو ظبي، 14 أغسطس 2014.

23- جريدة العرب اللندنية، لندن، 14 أغسطس 2014.

24- ما مصير العلاقات المصرية – السعودية بعد دعم القاهرة للتدخل الروسي في سورية؟، وكالة فرانس 24، 5 أكتوبر 2015. على الرابط:

http://www.france.24com/ar/20151005%D8%A7%D9%84%D8%B3%D8%B9%D9%88%D8%AF%D9%8A%D8%A9-

25- أندروجيه تابلر، قواعد اللعبة التي تمارسها موسكو في سوريا، معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدني، 21 أبريل 2016. على الرابط التالي:

http://www.washingtoninstitute.org/ar/policy-analysis/view/moscows-playbook-in-syria

26- القدس العربي، لندن، 24 نوفمبر 2015.

27- نتنياهو: الجولان جزء من إسرائيل إلي الأبد، موقع العربية، 17 أبريل 2016.

28- محمد السعيد إدريس، تحليل النظم الإقليمية: دراسة في أصول العلاقات الدولية الإقليمية، (القاهرة: مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، 2001)، ص.124

29- انظر في ذلك، سليم، ضغوط ما بعد الثورات: الانكشاف المتزايد للنظام الإقليمي العربي، مرجع سابق، ص.50

30- مايكل سينغ، السعي لإعادة تقييم الاستراتيجية الأمريكية تجاه سوريا وضد تنظيم “الدولة الإسلامية”، وول ستريت جورنال، 18 نوفمبر 2015.

31- وحيد عبدالمجيد، سياسة أوباما .. أخطاء وأخطار، جريدة الاتحاد الإماراتية، 4 نوفمبر 2015.

32- عبدالحليم، توازنات جديدة: تراجع أسعار النفط وتحولات الدور والمكانة في الشرق الأوسط، مرجع سابق، ص.33

33- المرجع نفسه، ص.34

34- المرجع نفسه.

35- المرجع نفسه.

36- محمد السعيد إدريس، مستقبل النظام العربي: بين التطورات الجديدة في هيكلية النظام العالمي وتداعيات الثورات العربية، القاهرة، المركز العربي للبحوث والدراسات، 13 يناير 2013. انظر الموقع الإلكتروني للمركز على الرابط التالي:http://www.acrseg.org/36537

37- عبدالمنعم المشاط، تأثير الثورات العربية في العلاقات الإقليمية في الشرق الأوسط، السياسة الدولية، ملحق اتجاهات نظرية، العدد 189، يوليو 2012، ص.30

38- مصطفي علوي، الثورات العربية وإشكاليات التعاون في مجالات الأمن غير التقليدي، السياسة الدولية، ملحق تحولات استراتيجية، العدد 186، أكتوبر 2011، ص ص36-37

د. نادية سعد الدين
مجلة السياسة الدولية