كان من المُثير أن ما تسرب من “مسودة التفاوض” الأخيرة بين وزير الخارجية الأمريكي جون كيري ونظيره الروسي سيرغي لافروف، لم يتضمن أية مؤشرات لشكل العملية السياسية أو “الحل السياسي” المُتوافق عليه في سوريا!، حيث يُعتبر هذا الأمر عُقدة منشار المسألة السورية.
وهذه المسودة التي جرى التفاوض عليها بين الوزيرين الأمريكي والروسي خلال زيارة كيري الأخيرة لموسكو في مُنتصف شهر يوليو الماضي، تم إطلاع الرئيس الروسي بوتين على محتواها، وتابع خُبراء أمريكيون وروس مناقشة تفاصيلها في اجتماعات مطولة في مدينة جنيف السويسرية. وقيل إنها تضمنت عدة بنود متوازية يجب على الطرفين الالتزام بتنفيذها، وهي الوقف الكامل لإطلاق النار في جميع المناطق السورية، مع تعاون عسكري بينهما لمُحاربة تنظيم “داعش” وجبهة النُصرة سابقاً (جبهة فتح الشام حالياً)، وإنشاء “غرفة عمليات مشتركة” في العاصمة الأردنية تكون من صلاحياتها الإشراف على العمليات العسكرية في سوريا، بالإضافة إلى إعادة إحياء المحادثات التي يقودها المبعوث الأممي ستيفان دي ميستورا. وحسب التسريبات أيضاً، فإن كيري أكد أن البحث في مصير الأسد مؤجل لمراحل لاحقة.
من حيث الانطباع العام، فإن هذا الاتفاق الأمريكي – الروسي الجديد، فيما لو وصل لمستوى إقراره والتوافق على كُل تفاصيله، لا يبدو مُختلفاً عن العديد من التوافقات السابقة بين واشنطن وموسكو، والتي كان الجامع المُشترك بينها هو فشلها.
ويبدو الاتفاق الأخير أيضاً مؤهلاً لمُلاقاة النتيجة والمسار نفسيهما، لأن ثمة ثلاثة عوامل مُركبة مؤثرة بعمق على مآل هذا الاتفاق، وهي عوامل بعموميتها وحيزها الأكبر “سلبية”، أي أنها قد لا تُساعد على أن يصل هذا الاتفاق لما يُظهره الطرفان من رغبة في إنهاء الحرب السورية، وخلق عملية سياسية سورية حقيقية. وتتمثل هذه العوامل في الآتي:
1- عامل الوقت:
يبدو الوقت وكأنه الدافع الرئيسي لإقرار الاتفاق الأمريكي – الروسي بشأن سوريا، ويُتوقع له أن يكون العامل الأكثر حيوية لدفع الاتفاق للتحقق في المُستقبل القريب. فالإدارة الأمريكية الحالية التي لم يبق لها إلا أشهر قليلة، تسعى بكل إصرار لتحقيق شيء ما في الملف السوري، الذي بات الحيز الأكثر قلقاً في “السلام الدولي”، والقضية التي تُتهم بها إدارة أوباما بالسلبية وتجاهل الضحايا وتأثير ذلك على الأمن العالمي.
ويُتوقع أن تسعى الإدارة الأمريكية الحالية إلى أن تكون بالغة الفاعلية في الملف السوري خلال الأشهر القليلة القادمة، على نحو قريب مما فعلته إدارة الرئيس كلينتون في الملف الفلسطيني، إبان أشهرها الأخيرة، عبر مفاوضات طابا التي لم تصل لأية نتيجة. وهو بالضبط العامل (أي الوقت) الذي قد ينقلب كفاعل سلبي يمنع تحقق أي شيء. فإدارة كلنتون، مثلاً، كانت تسعى إلى أن يتم إقرار اتفاق السلام النهائي بين الفلسطينيين والإسرائيليين في مفاوضات طابا، لكن فقط عبر الضغط على الجانب الفلسطيني، دون أي ضغط مواز على إسرائيل، وهو ما دفع القيادة الفلسطينية لرفض جُملة ما طُرح عليها.
الأمر نفسه سيجري فيما لو جربت إدارة أوباما تحقيق شيء ذي معنى في هذا الحيز الزمني الضيق، لكن فقط عبر المزيد من الضغط على الأطراف الإقليمية والمحلية المُعارضة، من دون أن تجرؤ على فعل شيء حقيقي تجاه موسكو والنِظام السوري. كما أن استغلال حرج الإدارة الأمريكية بالوقت، قد يتحول إلى ورقة ضغط في يد روسيا والنِظام السوري، لأنهما يدركان عُمق هشاشة الموقف الأمريكي بالأساس، علاوة على ضيق المساحة الزمنية المُتاح التحرك فيها.
يُضاف إلى كُل ذلك، ما يُمكن اعتباره تفاوت حظوظ المُرشحين الرئاسيين الأمريكيين خلال الأشهر الثلاثة القادمة، فارتفاع حظوظ فوز المُرشحة هيلاري كلينتون سيدفع الإدارة الأمريكية الراهنة إلى المزيد من الاسترخاء تجاه “حل مُستعجل”، وترك الأمر برُمته للإدارة الديمقراطية القادمة. على العكس من ذلك، فإن وضوح مواقف المُرشح الجمهوري دونالد ترامب تجاه القضايا الشرق الأوسطية، والمُتوقع أن تكون مواقف راديكالية، قد يكون دافعاً لروسيا والنظام السوري للتفكير بجدية لخلق مسار تأسيسي للحل مع الإدارة الأمريكية الحالية. طبعاً العكسُ أيضاً صحيح، فيما لو ظهرت مواقف ترامب وكأنها مُترددة مثل الإدارة الحالية في حسم موقفها من المسألة السورية.
2- عامل القُدرة:
رُبما كان الطرفان الأمريكي والروسي يحملان “نوايا حسنة” من حيث المبدأ لحل المسألة السورية، لكنهما يُدركان مدى نسبية قُدرتهما على فرض حل بذاته على حلفائهما الإقليميين والمحليين السوريين.
ويُحذر الروس في الاجتماعات الثُنائية من خطورة انزلاق النِظام السوري تماماً إلى الحضن الإيراني، وهي أداة لإغراء الأطراف الدوليين بالقبول باللاعب الروسي في المسألة السورية. من هذا المنطق، فإن السياسة الروسية تسعى إلى توازن رهيب في تعاملها مع الأزمة السورية، فهي تُدرك أن المزيد من الضغط غير المُتزن قد يؤدي إلى الرفض العلني من قِبل النظام السوري للهيمنة الروسية، والعودة للاعتماد على العامل الإيراني فحسب، وهو ما حدث فعلاً في الأشهر التي رافقت انعقاد اجتماعات جنيف 3. ويعلم الروس أن ذلك سيفقدهم نفوذهم في العلاقات الدولية، والذي برز وتصاعد مع تنامي الدور الروسي في سوريا.
ولأن الروس يُدركون ذلك تماماً، فإنهم حذرون في الثقة بمدى قُدرتهم على فرض رؤيتهم على النظام السوري، خصوصاً في مسألة المُستقبل السياسي لبشار الأسد، التي تُشكل النقطة الأكثر ديناميكية في تحديد النِظام السوري للوحة تحالفاته، حيث يضمن الطرف الإيراني له ذلك بشكل علني وعملي أكثر مما يفعله الطرف الروسي.
أغلب الظن، فإن موسكو ستلجأ إلى خلق ثلاث ديناميكيات للتعامل الحذر مع قُدرتها هذه. من جهة، سيلجأ الروس إلى تطمين الإيرانيين بأن قبولهم بالخيار السياسي لا يعني خسارتهم نفوذهم في المنطقة، خصوصاً عبر ضمان الأمن العسكري الإيراني بالأسلحة الروسية، وثانياً عبر إغراء النظام السوري بأن الطرف الروسي سيضمن له أكثر مما تشكله قوته الفعلية على الأرض، وسيضمن استمرار مؤسسات حُكمه، أو أغلبها في أسوء الأحوال. وأخيراً، فإن الروس سيدفعون إلى أن تتفهم الولايات المُتحدة والقوى الدولية موقفها الحرج، حتى لا تمارس على الروس المزيد من الضغوط.
كذلك الولايات المُتحدة ليست بأفضل حالٍ من الطرف الروسي في مسألة نسبية قُدرتها على فرض رؤيتها على الأطراف المحسوبة عليها. ببساطة لأن المسألة السورية بالنسبة للفاعلين الإقليميين الأكثر حيوية، المملكة العربية السعودية وتُركيا، إنما هي مسألة أمن قومي، لا يُمكن للدولتين أن تخوضان معها حسابات غير دقيقة. أما بالنسبة للسوريين المناوئين لنِظام بشار الأسد، فإن الوضع أكثر حساسية، بمعنى أنها مسألة حياة أو موت، ولا يُمكن لأي طرف أن يفرض عليهم ما لا يُناسب حِساباتهم.
3- عامل الموقفين الإقليمي والمحلي:
يوحي الاتفاق الأمريكي – الروسي بأنه قائم على “توافق وسطي” بين الطرفين السوريين المُتحاربين، مثل الاتفاقات السابقة بينهُما. لكنها كانت تفشل دوماً في مُطابقة الحلقتين الإقليمية والمحلية السورية (النظام والمعارضة) على ما توافق عليه واشنطن وموسكو.
إقليمياً، فإن الإيرانيين يرفضون أي توافق معقول في المسألة السورية. ويظهر ذلك جلياً في سلوكهم في تفكيك المفاوضات اليمينية التي كانت ستشكل بوابة لحل ما مُشابه في الحالة السورية؛ وهو عموماً سلوك ناتج عن نشوة إيرانية بالمزيد من الرغبة في النفوذ الإقليمي، خصوصاً في ظل الانشغال التُركي بداخله “المهترئ” بعد فشل انقلاب يوليو الماضي، وانشغال السعودية أيضاً بحسم الحرب اليمنية وإعادة الشرعية هناك بعد الانقلاب الحوثي.
وعلى عكس الإيرانيين، تأتي مواقف المملكة العربية السعودية وتركيا، ليس فقط لظروف كُل مُنهما في اليمن والداخل التُركي، لكن أيضاً لأنهما تُدركان أن “الحل الوسطي” سيسحب من إيران ونِظام الأسد الكثير من أوراقهما الحيوية، وأهمها ورقة استحواذهما على “مؤسسات الدولة السورية”.
داخلياً، تبدو “معركة حلب” وكأنها التي ستُحدد مصير قبول الطرفين الداخليين بحل ما للأزمة. ففي مرحلة تقدم النظام السوري والميليشيات الموالية له في عملية حِصار حلب، فإن الأمر كان يُغير موقف النظام في اتجاه القدرة على الحسم العسكري على مستوى معقول، وبالتالي الرفض التام لأي حلٍ سياسي. لكن مُنذ أيام، وبعد الهجمة المُضادة التي تخوضها قوى المعارضة على عملية حِصار حلب، فإن النظام السوري سيعترف، لنفسه أولاً، بأنه يواجه مُشكلة حقيقة، وأن جميع الخيارات فشلت في إيجاد حسم عسكري، وأن اللجوء إلى حل سياسي ما هو أفضل المُمكن. وطبعاً ستبقى الأسابيع القادمة في مسار عملية “حرب حلب” هي العامل الأكثر فاعلية في تحديد خيار النظام السوري في ذلك الاتجاه.
أما الأطراف السورية المعارضة، فثمة خلافات بينها بشأن موقفها من حل سياسي متوافق عليه بين الطرفين الروسي والأمريكي. لكنها مُجتمعة سترفض أي توافق لا يضمن تحديداً واضحاً لمُستقبل الرئيس بشار الأسد.
رستم محمود
مركز المستقبل للابحاث والدراسات المتقدمة