شهدت العاصمة البريطانية لندن انعقاد لقاء قصير جمع زعماء دول الحلف الأطلسي، الناتو، للاحتفال بالذكرى السبعين لتأسيس الحلف، وكذلك لمحاولة رأب الصدع بين بعض أعضائه واختلاف آرائهم حول عدد من الملفات التي تهدد سلامة عمل الحلف. ويجمع المراقبون أن هذا هو الغرض الرئيسي للمحفل وسبب الاستعاضة به عن قمة كاملة ذات جدول أعمال محدد، بالإضافة إلى الخشية من أن يفسد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الاجتماع إذا اتخذ صيغة قمة، وذلك جرياً على عادته منذ انتخابه ومشاركته في قمم الحلف السابقة.
وكان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون قد استبق اللقاء بتصريح تشاؤمي مناقض للأجواء الاحتفالية المنتظرة، حين اعتبر أن الحلف يعاني من «موت سريري» خاصة في ميدان تفعيل المادة 5 من اتفاقية تأسيس الحلف لسنة 1949 والتي تنص على التزام الأعضاء بالأمن الجماعي. ولأن ماكرون قصد أيضاً تعاطي ترامب مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان حول العمليات العسكرية التركية في شمال سوريا، فإن أردوغان اتهم نظيره الفرنسي بأنه هو الذي يعاني من مرض سريري وليس الحلف. هذا مع التذكير بأن ترامب كان أول من شكك في تطبيق المادة 5 ذاتها، ساخراً من فكرة اضطرار الولايات المتحدة إلى الدفاع عن بلد صغير مثل مونتينيغرو يبعد خمسة آلاف ميل عن أمريكا.
لكن عواقب الخلافات تذهب أعمق بكثير من حروب التصريحات والتصريحات المضادة بين ماكرون وأردوغان، قبل دخول المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل على الخط للدفاع عن الحلف، إذ أن ما تشهده الحدود التركية ـ السورية من تنسيق عسكري بين أنقرة العضو في الناتو وموسكو خصم الحلف على أكثر من صعيد، إنما يؤشر على مقدار التصدع الذي يضرب الحلف وبات أقرب إلى مرض عضال يصعب الشفاء منه. تُضاف إلى هذا ملفات مثل صفقة منظومة الصواريخ الروسية إس 400 التي أبرمتها تركيا، أو طلب اليونان مساعدة الحلف في وجه الاتفاقية البحرية التي وقعتها تركيا مع ليبيا مؤخراً، أو ضغط واشنطن لتقليص المساهمة الأمريكية في ميزانية الحلف تحت طائلة التلويح بالانسحاب منه.
ولا يخفى أن الأضواء في العاصمة البريطانية تسلطت على شخص ترامب أكثر من زملائه الـ28، إن لم يكن بسبب ما اعتاد عليه من تعكير أجواء اللقاءات السابقة والتصرّف بطريقة تفتح شهية الإعلام على تغطية الإثارة، فعلى الأقل بسبب ما تعيشه بريطانيا حالياً من ظروف انتخابية استثنائية. فمن المعروف أن ترامب لا يحظى بشعبية في هذا البلد، وأن إعرابه عن دعم حزب المحافظين وزعيمه رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون سوف ينقلب وبالاً على هؤلاء، فما بالك إذا تلفظ بعبارة توحي بأن الولايات المتحدة تنوي الاستثمار في أنظمة الضمان الصحي البريطانية في حال إتمام انسحاب لندن من الاتحاد الأوروبي.
كذلك لا يخفى أن الحلف، في ظل ما يعيشه من انقسامات ومشكلات، لم يعد يملك أي تأثير حاسم في ملفات الأمن الجماعي العالمي أو حتى الأطلسي، وأن الدول الأعضاء فيه تتبع سياسات مستقلة تلبي مصالحها في المقام الأول من دون الاكتراث بمدى الضرر الذي يلحق بالحلف جراء هذه الخيارات. ولهذا فإن لقاء لندن يبدو أقرب إلى عيد الميلاد السبعين للأمراض العضال ذاتها.
القدس العربي