بانتفاضتهم ومواقفهم الشجاعة، قدّم الشعب الثائر في إيران والمعارضة الوطنية الإيرانية المقيمة داخل البلاد (غير المعارضة الشاهنشاهية الكراكوزية التي تتحرّك في الولايات المتحدة) خدمة عظيمة للشعب الثائر في العراق ولبنان، من حيث أنهم أكّدوا بأسطع الأشكال أنها لثورةٌ إقليمية ضد الاستغلال والتسلّط اللذين يُمارَسان بحجج دينية و/أو طائفية. فلا ثورة العراق معادية لشعب إيران، بل هي مناهضة للطغمة الرأسمالية الطائفية الحاكمة في العراق تحت وصاية الطغمة الرأسمالية الدينية الحاكمة في إيران. ولا ثورة لبنان معادية للـ«شيعة» كما تحاول القوى الطائفية تصويرها في محاولة بائسة لنأي الجماهير الشيعية عنها وتحويل ثورة المحرومين ضد المستغِلّين إلى صراع بين طوائف المحرومين يقود كلاً منها أرباب التسلّط والاستغلال المنتمين إلى الطائفة ذاتها، وهي حيلة طبقية قديمة طالما لجأ إليها الطغاة. بل إن ثورة لبنان مناهضة للاستغلال والتسلّط ذاتهما اللذين يثور عليهما شعبا العراق وإيران.
وقد أدركت الطغمة الدينية الرأسمالية الحاكمة في طهران خطورة انتفاضة الشعب الإيراني الجديدة في الوقت الذي يثور شعب العراق ضد طغيانها وطغيان أتباعها العراقيين وفيما تهتزّ هيمنة أتباعها اللبنانيين في محاولتهم الحفاظ على النظام الطائفي الرأسمالي مع سائر أرباب هذا النظام. بل أدركت الطغمة الحاكمة في طهران أن لانتفاضة الشعب الإيراني في هذا الوقت بالذات خطورةً مضاعفة، لا تهدّد تسلّطها الداخلي وحسب، بل تسلّطها الإقليمي أيضاً. فلجأت إلى العنف الأقصى في سحق الانتفاضة، بما فاق جولات القمع السابقة التي مارستها ضد شعبها، ساعية سعياً محموماً وراء خنق الانتفاضة في مهدها.
ومما لا شكّ فيه أن التعتيم الكامل والبطش العنيف اللذين أنزلتهما الطغمة الإيرانية الحاكمة على شعبها بسرعة فائقة وبدون سابق إنذار، قد أثارا إعجاب كافة الطبقات الحاكمة الإقليمية. والحال أن إجراءات طهران القمعية استوحت من الكتاب ذاته الذي استوحى منه عبد الفتّاح السيسي في سحق انتفاضة شعب مصر قبل ما يناهز ثلاثة أشهر، وهو الكتاب ذاته الذي استوحى منه المتربّعون على الحكم في بغداد.
أدركت الطغمة الدينية الرأسمالية الحاكمة في طهران خطورة انتفاضة الشعب الإيراني الجديدة في الوقت الذي يثور شعب العراق ضد طغيانها وطغيان أتباعها العراقيين وفيما تهتزّ هيمنة أتباعها اللبنانيين في محاولتهم الحفاظ على النظام الطائفي الرأسمالي مع سائر أرباب هذا النظام
وكانت النتيجة في إيران رهيبة حقاً، حتى باعتراف وزير الداخلية الذي جاء تقريره ليؤكّد عن غير قصد على أهمّية الوثبة الشعبية. فحسب تقرير الوزير الإيراني، شملت الانتفاضة 29 محافظة من أصل 31، أي مجمل البلاد تقريباً، وقد هاجم المتظاهرون بين ما هاجموه 731 مصرفاً و50 قاعدة عسكرية و183 سيارة شرطة وتسعة «مراكز دينية». وفي هذه الأرقام دلالة بليغة على إدراك الشعب الثائر أنه يتصدّى لنظام رأسمالي استبدادي يمارس تسلّطه متحجّجاً بذرائع دينية. وقد جاء القمع شرساً للغاية حسب الأرقام الواردة من الداخل بعد المجزرة، إذ يُقدّر عدد القتلى بحوالي خمسمئة، سقطوا في أقل من أسبوع من البطش الدموي، ويُقدّر عدد الجرحى بما يزيد عن ألفين وعدد المعتقلين بسبعة آلاف (وهو يفوق الآلاف الأربعة التي جرى اعتقالها خلال الهبّة المصرية).
هذا وإزاء وحشية السلطة الإيرانية، ارتفع صوت أبرز وجهين في المعارضة الوطنية الديمقراطية لنظام «ولاية الفقيه»، ألا وهما مهدي كروبي، أحد قادة الثورة على شاه إيران إلى جانب الإمام الخميني قبل أربعين عاماً، ومير حسين موسوي، أحد رجال ثورة 1979 البارزين ورئيس الوزراء طوال سنوات الحرب بين النظام الإيراني ونظام صدّام حسين العراقي. وقد وقف الرجلان، كروبي وموسوي، على رأس الحراك الديمقراطي الإيراني الذي هبّ احتجاجاً على التزوير الانتخابي قبل عشر سنوات، وهما خاضعان للإقامة الجبرية.
قال مهدي كروبي في تصريحه بتاريخ 28/11: «في الأسبوع الماضي، شهدنا احتجاجًا واسع النطاق على قرار النظام الأخير برفع أسعار البنزين بشكل مفاجئ. اعترض الاحتجاج على الضغط الاقتصادي والسياسي والاجتماعي الذي بلغ ذروته على شعبنا الحبيب. أما الحكومة، للأسف، فبدلاً من سماع أصوات المتظاهرين، قمعتهم بقسوة، كما فعلت قبل عامين. وقد مات الكثيرون، للأسف، وجُرح عدد أكبر وجرى اعتقال الآلاف…. نحن نعلم أن إعادة فرض الولايات المتحدة لعقوبات من طرف واحد لم يكسر ظهر الأمة فحسب، وخاصة المحرومين فيها، بل وفّر أيضًا الأساس لحرب اقتصادية شنّتها السلطة على طريقة حكم القاجاريين بما أدّى إلى تفاقم الفساد والتمييز في جميع أقسامها». (القاجاريون هم سلالة من الشاهات سيئة الصيت حكمت بلاد فارس من القرن الثامن عشر حتى عام 1925.)
أما مير حسين موسوي، فقد جاء في تصريحه بتاريخ 30/11: «إن المواجهة العنيفة والدموية للناس الغاضبين المتواضعين الذين خرجوا إلى الشوارع للاحتجاج على قرار غير عقلاني مضاد لمصالح المستضعفين… تشبه تماماً المذبحة الوحشية التي ذهب الشعب ضحيتها في عام 1978. كان قتلة ذلك العام يمثّلون نظاماً لا دينياً، أما قتلة هذا العام فيمثّلون حكومة دينية. آنذاك كان الشاه هو القائد الأعلى، أما اليوم فهو الفقيه الأعلى… إن الجرح في جسد الأمة لن يلتئم سوى باعتقال القتلة والمسؤولين عن هذه الجريمة ومحاكمتهم العلنية، وليس بالسعي وراء تفسيرات غبيّة لمسبّبات هذه الجريمة الفادحة».
القدس العربي