لو كان رفعت الأسد أقل طموحاً، لما تم نفيُه إلى أوروبا سنة 1984 إثر الخلاف على السلطة الذي دبّ بينه وبين شقيقه حافظ، ولربّما كان متربّعاً اليوم على رأس النظام السوري خليفةً لأخيه. فلولا الصراع بين الشقيقين على إدارة شؤون قهر الشعب السوري وتسخيره واستغلال خيراته، لما انتهى الأمر بأحدهما إلى الخضوع للمحاكمة في دولة يسود فيها حكم القانون ويحرص قضاؤها المستقل على معاقبة السرقة والجريمة مهما عظمتا، بل بشدّة أكبر كلّما عظمتا. والحصيلة أن ما لم يستطع الشعب السوري أن يشاهده في بلاده بعدما تحوّل حلمه بالتخلّص من نير آل الأسد إلى كابوس بقائهم في الحكم، وذلك إثر تدمير البلاد وتنفيذ مجزرة هائلة بأهلها وتهجير ما يزيد عن نصفهم بين نازح في الداخل ولاجئ إلى الخارج، ما لم يستطع الشعب السوري أن يشاهده في بلاده سوف يتمتّع على الأقل برؤية جانب منه، ولو كان بسيطاً، من خلال محاكمة عمّ بشّار الأسد التي بدأت في باريس يوم الإثنين.
وقد رُفعت ضد رفعت قضيتان أمام القضاء الفرنسي: إحداهما رفعتها منظمتان أهليتان مختصتان بمحاربة الفساد والأخرى رفعتها منظمة أهلية مختصة بمعاقبة مرتكبي الجرائم ضد البشرية. والكل يعلم مآثر «جزّار حماه» في معاملة المدينة المنكوبة في عام 1982 بما بدا لاحقاً وكأنه نبذة أوّلية عمّا لحق بكامل الأراضي السورية بعد المجزرة المذكورة بثلاثين عاماً.
أما ما جناه رفعت الأسد من خلال مشاركته في الحكم العائلي لمدة أربعة عشر عاماً بين تولّي أخيه للسلطة بالانقلاب على يسار البعث في عام 1970 ونفيه إلى خارج البلاد، وحتى ولو اقتصر الأمر على ما أودعه العمّ في الخارج بالطريقة المعهودة لدى كافة أعضاء أنظمة الحكم الدكتاتورية الذين يدركون أن استمرارهم على رأس بلدانهم ليس بالمضمون إلى الأبد، فإن ما كشفته حتى الآن التحقيقات الممهّدة للمحاكمة بليغٌ بما فيه الكفاية في إعطاء صورة عنه.
حجم الاختلاس والنهب اللذين تعرّض ويتعرّض لهما الشعب اللبناني قد تعاظم باطّراد في ظلّ هيمنة النظام السوري وتوابعه على لبنان منذ اجتياحه للبلاد في عام 1976 بضوء أخضر أمريكي وإسرائيلي
فإن حجم النهب الذي يُتّهم به العمّ تكفي للتدليل عليه ممتلكاته العقارية التي تمّ حبسها احترازياً في فرنسا واسبانيا إثر بدء ملاحقته بتهمة اختلاس المُلك العام في سوريا وتبييض الأموال في الخارج. في فرنسا، يملك العمّ قصراً في الريف مع اسطبل من الخيول وقصرين في باريس وحوالي أربعين شقة بقيمة إجمالية تُقدّر بتسعين مليون يورو. أما في اسبانيا، فأملاكه تزيد عن خمسمئة وتُقدّر قيمتها الإجمالية بما يناهز سبعمئة مليون يورو.
والجدير بالتنويه أن هذه الثروة، التي لا يشكّل ما ذكرنا سوى قسم منها إذ لدى العمّ ممتلكات أخرى في بلدان شتّى، إنما جمعها قبل نفيه. وقد حاول محاموه التذرّع بأنه تلقّى هبات من المملكة السعودية في السنوات اللاحقة لخروجه من سوريا، غير أن قاضي التحقيق أثبت أنها بلغته بعد مراكمة ثروته وهي «هبات» لا يزيد مجموعها عن 25 مليون دولار، أي ما هو أقل بكثير من الثروة العظيمة التي جناها العمّ من خلال مشاركته المحدودة زمنياً في اختلاس المُلك العام في بلاده.
فإن محاكمة رفعت الأسد إنما هي محاكمة رمزية لنظام آل الأسد بأسره، وهو النظام الذي سمح لشقيق الحاكم والحاكم بأمره أن يشارك في نهب الشعب السوري طيلة أربعة عشر عاماً. ويمكننا أن نتصوّر ما كانت محاكمة سائر أفراد آل الأسد وآل مخلوف المتسلّطين على رقاب الشعب السوري سوف تفسح عنه لو أتيح لهذا الشعب الضحية أن يُسقط حكمهم ويُحيلهم إلى المحاكمة مع سائر أقربائهم وأعوانهم.
هذا ولا عجب من أن يكون حجم الاختلاس والنهب اللذين تعرّض ويتعرّض لهما الشعب اللبناني قد تعاظم باطّراد في ظلّ هيمنة النظام السوري وتوابعه على لبنان منذ اجتياحه للبلاد في عام 1976 بضوء أخضر أمريكي وإسرائيلي، علماً بأن الاختلاس والنهب كانا أصلاً عظيمين في لبنان الذي طالما تباهى حكّامه باقتصاده «الحرّ» بمعنى تحرّر الرأسمالية فيه من أي ضوابط ورقابة. هذا النظام الرأسمالي الجشِع هو ما يثور الشعب اللبناني ضده اليوم، ولا شكّ في أن الشعب السوري سوف يثور من جديد ضد رديفه في سوريا والحكم العائلي السفّاح الذي يرعاه، وهذا في مستقبل هو أقرب مما يظنّ من يتأمل اليوم بالأطلال التي تحوّل إليها قسم عظيم من الأراضي السورية بفضل تمسّك العصابة الحاكمة بمصدر أرزاقها.
القدس العربي