تعرّض حزب العمال البريطاني، الذي يقوده جيرمي كوربين، والمعروف بتبنيه لسياسة عامة داعمة للفلسطينيين وللقضايا العربية، إلى هزيمة لم يسجل مثلها منذ عام 1978، في حين سجّل حزب المحافظين البريطاني برئاسة بوريس جونسون، الذي اشتهر بإساءاته للأقليات والمسلمين، انتصارا كبيرا في الانتخابات البريطانية التي أجريت يوم أول أمس الخميس، وهو ما سيسمح للمحافظين بتشكيل حكومة أغلبية واضحة.
غير أن المفارقة الكبيرة في هذا «الزلزال السياسي»، كما وصفه جونسون، هو أن القضايا الأيديولوجية والاقتصادية، التي عادة ما تكون عوامل مؤثرة في أي انتخابات، قد تراجعت، وتقدمت عليها قضايا القومية والهوية، وهو سيف ذو حدين، لأن الدفعة الكبرى التي تلقاها جونسون في إنكلترا على هذا الأساس، خسرها في اسكتلندا، التي فاز فيها الحزب الوطني الاسكتلندي بأغلبية المقاعد، وهو ما سيعطي مصداقية كبيرة لدعوته إلى استفتاء جديد يعطي اسكتلندا استقلالها، ويعيد ارتباطها بالاتحاد الأوروبي، مما يعني أن انفصال بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي سيعني إمكانية تفككها كوحدة سياسية، فما يحق للديك (إنكلترا في هذا السياق)، كما يقول المثل البريطاني، يحق للدجاجة (اسكتلندا).
سيؤمن هذا الوضع المستجد دعما أيضا لدعاة الانفصال عن الاتحاد البريطاني في أيرلندا الشمالية، التي زاد فيها حزب «شن فن» المطالب بالاستقلال (وبالوحدة مع أيرلندا) مقاعده، وقد يتعزز هذا المسار لاحقا في ويلز بحيث تنتهي بريطانيا نفسها وتتحول إلى مملكة تضم إنكلترا فحسب.
على الصعيد العربي فقد كان لافتا ترحيب إسرائيل السريع بفوز بوريس جونسون، واعتبارها ذلك «نقطة تحول» في قضية «المعاداة للسامية»، وهما قولان فيهما مبالغة كبيرة، فالاتجاه الذي يقوده الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لمساواة «معاداة السامية» مع انتقاد إسرائيل أو مناهضة الصهيونية، يمكن أن نرى محاولة شبيهة به في بريطانيا، كما رأيناه في قرارين بائسين في مجلسي النواب الألماني والفرنسي يمالئان إسرائيل واللوبي باعتبار معاداة الصهيونية شكلا من معاداة السامية، ولكن هذه الموجة السياسية اليمينية يمكن أن تتغير، كما يتغير كل شيء في أوروبا والعالم حاليا، أما نسبة تراجع حزب العمال وكوربين إلى «معاداة السامية»، كما ادعت «الحركة اليهودية» البريطانية في تصريح لها أمس، فهو ادعاء كبير حقا كما لو أن كل البريطانيين مشغولون بسلامة إسرائيل أكثر من اهتمامهم بمستقبل أولادهم وبلادهم.
سيركز جونسون وحكومته المقبلة على احتواء التأثيرات الاقتصادية والسياسية لمسائل خروج بريطانيا من الاتحاد البريطاني، ومجابهة خطر تفكك الاتحاد البريطاني نفسه، وبالتالي فإن السياسات الخارجية للمملكة البريطانية لن تكون أولوية، كما يفترض أن يتأثر انتظام بريطانيا ضمن أجندة السياسات الخارجية الأمريكية بأوضاع ترامب نفسه، وبوضعيته بعد خروجه من إجراءات عزله ومحاكمته بتهمتي إساءة استخدام السلطة وعرقلة عمل الكونغرس.
من جهة أخرى، فإن حصول المحافظين على الأغلبية في مجلس النواب سيعني أن جونسون سيكون، للمرة الأولى، قادرا عن التعبير عن سياساته الحقيقية، الداخلية منها والخارجية، صحيح أن الكثير منها يمكن استشفافه من تاريخه الإعلامي والسياسي والبقع السوداء فيه التي تمثلها تصريحاته العنصرية ضد المسلمين والسود، لكن الجلوس على كرسي رئيس الوزراء، حتى في ظل المثال الترامبي الفظيع، سيرتب على جونسون رصانة وقدرة على الموازنة والتدبر وستكون هذه كلها عناصر لحكم التاريخ على رئيس وزراء لبريطانيا لا يشبه أيا من الذين سبقوه، لأن أفعاله وأقواله اللاحقة ستحدد مصير بريطانيا نفسها، التي قد تزدهر من جديد، أو تتفكك للأبد.
القدس العربي