كان يوماً متميزاً في تاريخ العراق الحديث، حين توّج فيصل بن الحسين ملكاً على العراق يوم الـ23 من أغسطس (آب) 1921، في حوش مبنى السراي الذي يحمل بين جدرانه تاريخ ولاة عثمانيين أداروا منه حكم ثلاث ولايات مختلفة في تضاريسها ومكوناتها البشرية، أغلبهم قُتِل على يد أحد أتباعه ليسيطر من بعده على السلطة، بعد أن يأخذ للسلطان العثماني هدايا ثمينة ويرافقه وفدٌ من الأعيان المؤيدين له، ليحصل على فرمان الباب العالي.
ظلت عينا الملك فيصل تتنقلان بين الحاضرين على قلتهم خلال حفل التتويج، تخفيفاً من الشكوك التي ساورته على قدرته في إدارة بلد غريب عنه لم يمضِ على قدومه إليه أكثر من شهرين قليلاً، على الرغم من التأييد الشعبي شبه المطلق الذي حظي به في الاستفتاء على تبوئه العرش.
يتطلعُ إلى أتباعه المخلصين الذين جربهم في السراء والضراء، أولئك الضباط العراقيون السابقون في الجيش العثماني الذين تخلوا عنه وانضموا إلى قواته المتمردة، إنهم الآن مثلما كانوا سابقاً في سوريا عمود قوته، ولا بد أنهم سيسهمون في تصليب عود دولته الفتية.
تتلاقى عيناه بعيني بيرسي كوكس مندوب الانتداب السامي، لكأنه يقرأ فيهما ارتياحاً لقرب انتهاء مهمته في هذا البلد، بعد أن شكَّل له حكومة، وزراؤها ينتمون للمرة الأولى إلى هذا البلد، ورسم خريطة مأمونة الجانب لمملكته من كل الدول المحيطة بالعراق.
كأني أراه يستحضر هذا العالم الذي شاهده خارج جدران السراي، فحال عبور المدينة التي تشبه واحة صغيرة للحضر، حتى تظهر الصحراء متدرجة في تشكيلاتها البشرية، على ضفاف دجلة والفرات يعيش مزارعون قدامى، يطلق عليهم “الحرّاثة”، وهم الآن أصبحوا يخدمون عشائر استوطنت قبل عقود، يطلق على أبنائها “أهل الغنم”، ووراءهم تأتي عشائر مقاتلة ما زال بعضها مقيماً في الصحراء، ويطلق عليها “أهل الإبل”، وهي تأتي من وقتٍ إلى آخر، إلى أرض السواد لتحصيل الإتاوات ممن سبقهم في القدوم إلى وادي الرافدين وفقد روحية القتال.
وبفضل هؤلاء كان الخراج يجمع للباب العالي من المزارعين المنتمين إلى عشائر أضعف أو من دون عشائر مثل سكان الأهوار الذين يطلق عليهم بـ”أهل الجواميس”، الذين يقع عليهم عبء زراعة الرز وصيد الأسماك وإنتاج الألبان.
لا بد أن الملك فيصل كان واثقاً جداً بقدرته على تذويب هذه الشرائح الاجتماعية المتصارعة وصهرها في أمة يفتخر بها العرب مستقبلاً، وتكون نواة لدولة عربية أكبر، فللتغلب على الروح العشائرية القائمة على رفض سلطة الدولة والسعي لتحقيق تفوقها على غيرها، سيكون الجيش الذي تأسس قبل أشهر قليلة، الأداة التي تتفوق الدولة بواسطتها على نوازع شيوخ تلك العشائر المقاتلة أو شبه المقاتلة.
حتى مع الاستقبال الفاتر الذي تلقّاه من رجال الدين في النجف وكربلاء فإن الملك فيصل كان واثقاً من إقناع الأهالي الشيعة بالانخراط في مؤسسات دولته الناشئة، وليس مستبعداً أنه اعتبر انتماءه إلى شجرة العائلة العلوية نقطة موحدة تجمع السُّنة والشيعة بعد التهميش الذي عاشه الأخيرون خلال قرون الحكم العثماني.
هو بالتأكيد سيحتاج إلى القوة العسكرية البريطانية لتحقيق استتاب الأمن داخل حدود دولته، لكن ذلك لن يطول، فالضباط العراقيون الذين تمردوا على إسطنبول وانضموا إليه، أثبتوا ذكاءً وجلداً سيساعده كثيراً في تحقيق حلمه باسترجاع الهلال الخصيب الذي سُرِقَ من والده بعد خيانة لندن ما وعدت به، فقرر سياسيوها مع حلفائهم الفرنسيين تقسيم أراضيه بينهم.
كم يخطئ المرء إذا نظر إلى هذا الرجل النحيل ذي الوجه الحاد كالنصل والقامة المستقيمة كقصبة مديدة، في تقدير عمره الذي لم يكن يتجاوز الثامنة والثلاثين. فالجدية والحزن الشفيف اللذان يغلفان عينيه يبثان شعوراً بالهيبة دون ترهيب في نفوس المحيطين به، ويعطيان انطباعاً زائفاً بأنه رجلٌ تجاوز سن الستين.
فالحياة الغنية التي عاشها متنقلاً ما بين الصحراء والمدينة، وما بين العمل المكتبي بصفته نائبا في البرلمان العثماني، والقتال في البوادي تحت ظروف قاسية، أهّلته لخوض أعسر رهان: النجاح في تذويب كل هذه العناصر المتنافرة مع بعضها البعض أفراداً وجماعات في كيان واحد يطلق عليه حقاً بأنه “شعب”.
مع ذلك، لم تكن المهمة سهلة عليه، فالتهميش الذي عاشه أبناء وادي الرافدين قروناً عديدة، وإدارة بلدهم على أيدي الأغراب دائماً جعلتهم عاجزين على فهم ضرورة الهرمية في إدارة الدولة والالتزام بتعليمات رئيسه، وعاجزين على القبول بشخص منهم يكون حاكماً عليهم.
خلال القرون الأربعة التي أعقبت احتلال العراق على يد سليمان القانوني وطرد الشاه إسماعيل صفوي الذي أراد الاستفادة من اعتناقه المذهب الجعفري وفرضه على الشعب الإيراني قسراً، بمصادرة العراق وضمه إلى إمبراطوريته الصاعدة، ظل الصراع بين الكيانين الكبيرين: العثمانيين والصفويين ومن خلَفَهم يدور على أرض العراق، وظلت العشائر موضع استغلال هاتين القوتين المحاذيتين للعراق شمالاً وشرقاً.
وسط ألغام كثيرة ظلت تبرز في طريقه طوال سنوات حكمه الاثنتى عشرة، وخلالها حاول الملك فيصل الأول بحلمه وصبره بناء الجسور مع كل الأطراف المتصارعة فيما بينها، فأمام “الوطنيين” الذين كانوا يريدون خروج الإنجليز تماماً من العراق، دون التفكير بعواقب ذلك على مستقبل بلد ما زال طيراً لم ينبت على جناحيه الريش بعد، فتركيا ما زالت مُصرة على اقتطاع الموصل من العراق وفرض سلطتها على مناطق أخرى في العراق مثل كركوك، وكان بعض الأغوات الكرد يطمحون بتكوين دولتهم أو بالانضمام إلى تركيا، بينما كان العديد من المشايخ العرب حريصين على إضعاف الدولة وجعلها أداة بيدهم.
فلو أن بريطانيا خرجت من العراق آنذاك مثلما كان “الوطنيون” يريدون لكان العراق ككيان جغرافي واجتماعي انهار تماماً، ولاحتلت الدولتان المحيطتان بالعراق: تركيا وإيران أجزاءً كبيرة منه (مثلما رأينا حين انسحاب الجيش الأميركي من العراق، بعد احتلاله وحل دولته وجيشه إثر غزوه عام 2003)، ولدخلت العشائر العربية في معارك لا نهاية لها على الأرض والماء.
أمَّا الساسة الإنجليز فكانوا ملتزمين بإضعاف فيصل الذي ظنوا أنه سيكون دُميتهم في العراق حين رشحوه ودعموه ليكون ملكاً عليه، وذلك من خلال دعم شيوخ العشائر الرافضين الانضواء تحت مظلة الدولة الناشئة.
عندما قام فيصل يوم الـ31 يوليو (تموز) 1921 (أي قبل تتويجه بثلاثة أسابيع تقريباً) بزيارة مشايخ الدليم وعنِزة على الفرات، قال هؤلاء له: “يا فيصل إننا نقسم على الإخلاص لك لأنك مقبول للحكومة البريطانية”.
غير أن فيصل كان حريصاً على تحقيق حلمه بجلب كل المكونات للانخراط في مشروع بناء وطن جديد، إذ دفع باتجاه تنظيم دورات مكثفة قصيرة لإشراك الشباب الشيعة في الوظائف الحكومية جنباً إلى جنب مع الكرد، وضم العديد منهم إلى الجيش الناشئ، فهو كان يعتبر الجيش الضمانة الوحيدة التي ستقوي عود دولته وتصهر كياناته المتعددة.
بعد اعتلائه العرش بفترة قصيرة اشتكى الملك في مذكرة وزّعت على عدد قليل من الذين يثق بهم من أن “في هذه المملكة أكثر من 100 ألف بندقية، في حين أن الحكومة لا تملك غير 15 ألفاً”، (وكم تشبه حال العراق اليوم ما كان سائداً آنذاك، فالسلاح الذي تملكه الميليشيات اليوم يفوق ما في يد الجيش والشرطة معاً).
خطوةً خطوةً، ومن دون أن يقطع الخيط الرابط بالسلطات البريطانية، نجح فيصل في تقليص مدة المعاهدة التي تسمح لبريطانيا بوجود عسكري لها، وإنهاء الانتداب عام 1932 وإدخال العراق في عصبة الأمم المتحدة.
ومع تنامي الجيش المتجاوز الأطر الدينية والاثنية والعشائرية بدأت قوة رؤساء العشائر تضعف تدريجياً.
كتب فيصل عام 1933 إلى مساعديه الأقرب إليه مذكرة يقول فيها: “يجب أن لا يحس الشيوخ والأغوات بأن قصد الحكومة محوهم، بل بقدر ما تسمح لنا الظروف يجب أن نطمئنهم على معيشتهم ورفاههم”.
أشار تقرير سري للاستخبارات البريطانية صدر آنذاك إلى اعتقاد مشايخ السليمانية الموالين للبريطانيين أن الدعاية المضادة الانتداب التي كان يقودها منافسوهم التي استهدفت تقوية موقع فيصل في المفاوضات الجارية مع الحكومة البريطانية قد “أُطلقت بأمر مباشر من الملك، وأن الأموال التي أُنفقت فيها جاءت منه شخصياً”.
لا بدّ من التذكير بمشروع دولة الهلال الخصيب التي قطعت اتفاقية سايكس بيكو الطريق عليه، غير أن الملك فيصل كان حريصاً على تحققه بطريقة مبطنة، فالفلسفة التي أقيمت عليها مناهج التاريخ المدرسية بفضل تربويين عرب ذوي توجه وحدوي مثل ساطع الحصري، تصور القرون الأربعة التي كان العراق تحت الحكم العثماني بأنه جزء من فترة مظلمة بدأت منذ غزو هولاكو بغداد عام 1258، والحقيقة هي أن التدهور بدأ منذ القرن العاشر، بعد ضمور الخلافة العباسية وسيطرة البويهيين أولاً على مقادير البلاد وتبعهم السلاجقة لأكثر من قرنين، وما رافقته الفتن من تدهور في العناية بنظام الري، وامتلاء الأنهار وفروعها بالطمي.
كذلك، فإن التاريخ الذي قُدِّم للطلبة كان يمجّد الدولتين العربيتين الأموية والعباسية دون ذكر الفترات المضطربة والفتن التي سادت حقبتيهما، فالطلاب كانوا يقرؤون عن طارق بن زياد وموسى بن نصير وفتوحاتهما لشمال أفريقيا والأندلس، لكنهم لم يعرفوا أن بن نصير قُتِل عند عودته إلى دمشق، وأن طارق بن زياد عاش بقية حياته شحاذاً أمام المسجد الأموي.
هذا الافتتان بتاريخ وهمي ساعد على تنمية الحركات القومية لاحقاً، بطريقة عمياء، إذ جُذب قادتها إلى صورة وهمية عن تاريخ تسوده فترات متألقة، لكنها مملوءة ببقع مظلمة، ولذلك لم تكسب الأجيال من دراسة تاريخها قدرة على النقد والفهم الموضوعي لأحداثه.
غير أن فيصل، كان يفكر بجمع سوريا (التي نصّب ملكاً عليها فترة قصيرة) والأردن وفلسطين اللتين كانتا تحت حكم أخيه الملك عبد الله، ولعل هذا كان خطاً أحمر وضعته اتفاقية سايكس بيكو ووعد بلفور.
عند سفره عام 1933 إلى برن في سويسرا كان الملك فيصل الذي لم يتجاوز بعد الخمسين، في صحة جيدة، ولم تكن مراجعته لمستشفى هناك إلا من أجل إجراء فحوص عامة، جاءت وفاة الملك فيصل بعد حقنه بإبرة، وكانت تقارير الأطباء السويسريون قبل وفاته بيومين تؤكد أنه بصحة جيدة، ولا يعاني أمراضاً خطيرة.
أرجعت الممرضة البريطانية المرافقة له سبب الوفاة إلى التسمم بالزرنيخ الذي أُذيب في الشاي الذي شربه قبل وفاته بست ساعات، ولم يسمح بإجراء تشريح لجثمانه لمعرفة سبب الوفاة الذي زعم أنه كان بسبب إصابته بالسكتة القلبية.
يذكر طبيبه الإنجليزي هاري سندرسن بأن آخر أقوال فيصل كانت: “لقد قمتُ بواجبي، فلتعش الأمة (العراقية) من بعدي بسعادة وقوة واتحاد”.
وكم كانت هذه الخسارة مكلفة على بلد لم يعرف منذ فترة طويلة ماذا يعني العمل التراكمي اليومي الطويل، وما يعنيه الانضواء تحت قيادة غير متسلطة، وفي كلتا الحالتين نجح هذا الرجل في تجاوزهما.
كأنَّ موته فتح “صندوق بندورا” المملوء بالشرور حسب الأسطورة الإغريقية، ليُدخل العراق في خضم صراعات دموية لا أول لها ولا آخر.
وها نحن نعود إلى الهدف الأول الذي كان يحرّك الملك فيصل الأول بشعار المتظاهرين الشباب في بغداد: نريد وطنا.
اندبندت العربي