كانت لحظة كتابة الدستور العراقي في العام 2005، تكريسا لمعادلة المنتصرين والمهزومين في حسابات السلطة في العراق بعد الاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003، ولم تتسم هذه اللحظة بالعقلانية في إدارة التعددية في العراق، وهو فشل تشترك فيه الأنظمة السابقة جميعها، ملكية وجمهورية. وكانت فكرة «الكتلة الاكثر عددا» التي تحتكر ترشيح رئيس مجلس الوزراء، مجرد انعكاس لمبدأ «الأكثروية» الذي حكم الدستور العراقي، لهذا لم يلتفت أحد إلى التناقض بين أن يكون النظام الذي أقره الدستور نظاما برلمانيا نظريا، وبين أن يحتكر منصب/ شخص رئيس مجلس الوزراء الصلاحيات كافة تقريبا، إلى الحد الذي يجعله قادرا على تحييد سلطات مجلس النواب وصلاحياته، عبر فرض الأمر الواقع، او عبر استخدام المحكمة الاتحادية، كما كان عليه الامر في الولاية الثانية لرئيس مجلس الوزراء الأسبق نوري المالكي.
لقد حرص الفاعل السياسي الشيعي، على ضمان هيمنته المطلقة على القرار السياسي عبر منصب رئيس مجلس الوزراء. لاسيما أنه هو من أدار عملية كتابة الدستور، وهيمن عليها، بمشاركة كردية لم تكن معنية سوى بضمان سلطاتها «كإقليم» بمعزل عن طبيعة النظام السياسي الذي سيحكم السلطة الإتحادية، وما يستتبع ذلك من بناء للدولة «المركزية» ! وذلك بعد المقاطعة السنية شبه الكاملة لانتخابات الجمعية الوطنية التي كلفت بكتابة «الدستور الدائم»، كما اشترط ذلك قانون ادارة الدولة للمرحلة الانتقالية (المادة 61/ أ)، الامر الذي اضطر الامريكان، والجمعية الوطنية نفسها، إلى «انتهاك» قانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية، عبر إشراك أعضاء «سنة» لم يكونوا منتخبين، ولا ينتمون إلى الجمعية الوطنية، إلى لجنة كتابة الدستور لضمان «التمثيل السني»، شكليا على الأقل، في هذه اللجنة.
رئيس الجمهورية، ورئاسة مجلس النواب، والمحكمة الاتحادية، يمارسون لعبة تقاذف المسؤولية لتحديد (الكتلة الوهمية ) التي لا وجود لها أصلا! وهم جميعا يعلمون تمام العلم أن الأمر لا علاقة له بالأحكام الدستورية بل بالسياق السياسي، الذي تحول هذه المرة إلى سياق سياسي مسلح
لحظة كتابة الدستورإذا كانت أول عملية منهجية لانتهاك قانون إدارة الدولة واحكامه من خلال فاعلين دوليين تمثلوا في الولايات المتحدة والامم المتحدة، وفاعلين محليين هم ممثلو الكيانات السياسية وسلطات الدولة كافة، ولو توفرت اليوم محكمة اتحادية حقيقية في العراق، لكان بالإمكان الطعن في دستورية الدستور الدائم بسبب ذلك! وكانت فكرة «الكتلة الاكثر عددا» هي نتاج مباشر لهذا حرص الفاعلون السياسيون الشيعة آنذاك على الهيمنة على القرار السياسي. حينها لم يفكروا في أنهم قد يخسرون صفة «الكتلة الاكثر عددا» بأي حال من الأحوال. وقد أثبتت انتخابات مجلس النواب لعام 2005 ذلك، عندما انحسر الصراع داخل الائتلاف العراقي الموحد «الشيعي» نفسه على مرشح رئيس مجلس الوزراء، بين مرشحي حزب الدعوة والمجلس الاعلى اولا، ثم بين مرشحي حزب الدعوة انفسهم بعد «إجبار» مرجعية النجف المرشح ابراهيم الجعفري على الخروج من المنافسة.
ولكن الواقع اختلف تماما في انتخابات 2010، بسبب الإنقسام الذي حصل بين حزب الدعوة من جهة، والمجلس الاعلى والتيار االصدري من جهة اخرى، الامر الذي اضطر الطرفين إلى الدخول إلى الانتخابات بقائمتين منفصلتين؛ دولة القانون الذي ضم حزب الدعوة وحلفاءه، والائتلاف الوطني الموحد الذي ضم المجلس الاعلى والصدريين. وقد أتاح هذا الإنقسام للقائمة العراقية، التي ضمت تحالفا سنيا برئاسة إياد علاوي، من الحصول على المركز الاول في تلك الانتخابات، وهو ما أجبر رئيس تحالف دولة القانون حينها نوري المالكي إلى استخدام سطوته على المحكمة الاتحادية لاستخرج أسرع قرار في تاريخ هذه المحكمة (تم تقديم الدعوى بتاريخ 21 آذار/ مارس 2010 وصدر القرار بتاريخ 25 آذار/ مارس!)، يعيد تعريف «الكتلة الأكثر عددا» الواردة في المادة 76 من الدستور لتكون: إما الكتلة التي تكونت بعد الانتخابات من خلال قائمة انتخابية واحدة، أو الكتلة التي تكونت بعد الانتخابات من قائمتين أو أكثر من القوائم الانتخابية ودخلت مجلس النواب وأصبحت مقاعدها بعد أداء اليمين الدستورية، الأكثر عددا من البقية، وليس الكتلة التي حصلت على اعلى عدد من المقاعد في الانتخابات! وبعد هذا التفسير «الدلفري»، عمد الفاعلون السياسيون الشيعة إلى التحالف مرة اخرى، على الرغم من خلافاتهم، للحصول على منصب رئيس مجلس الوزراء، والمفارقة هنا أنهم تحالفوا هذه المرة دون الاتفاق على مرشح محدد لمنصب رئيس مجلس الوزراء، وهو الامر الذي ادى إلى تأخير تشكيل الوزراة على مدى 9 أشهر (تم منح الثقة للحكومة يوم 20 كانون الأول/ ديسمبر 2010)!
بعد انتخابات مجلس النواب في عام 2014، كانت إشكالية «الكتلة الأكثر عددا» مرة اخرى موضعا لنزاع سياسي، بين المالكي وحلفائه من جهة، والفاعلين الشيعة الآخرين من جهة اخرى، الاول يدعي أنه الكتلة الأكثر عددا وبالتالي من حقها ترشيح المالكي لولاية ثالثة، أما الفاعلون الآخرون المدعومون من المرجع الاعلى السيد علي السيستاني، فقد أصروا على عدم ترشيح المالكي، لينتهي الأمر بانشقاق داخلي في حزب الدعوة/ تحالف دولة القانون، أفضى إلى إزاحة المالكي وتكليف الدكتور حيدر العبادي لرئاسة مجلس الوزراء. وقد أصدر المالكي في البداية بيانا أعلن فيه رفضه لذلك، متمسكا بفكرة أنه مرشح الكتلة الأكثر عددا، وبأن على المحكمة الاتحادية ان «تفتي» مرة اخرى في ذلك، ولكن الفاعل الإيراني تدخل هذه المرة في «إقناع» المالكي بالقبول بالامر الواقع!
بعد انتخابات 2018، بدا المشهد السياسي وكأنه سباق غير محسوم على «الكتلة الاكثر عددا» ، بين تحالفي البناء من جهة، والإصلاح من جهة اخرى، لاسيما ان الطرفين الإيراني والأمريكي كانا على طرفي نقيض هذه المرة على عكس المرتين السابقتين (كلاهما كان داعما للمالكي في العام 2010، وكلاهما اتفقا على إزاحة المالكي بسبب تداعيات سيطرة تنظيم الدولة/ داعش على الموصل). وفي نهاية الامر لم تستطع أي جهة إثبات أنها الكتلة الأكثر عددا، بسبب «سيولة» المتحالفين معهما الذين وقعوا مع الجانبين من جهة (وقع تحالف العراق هويتنا بزعامة جمال الكربولي ومحمد الحلبوسي عن نوابهم مع تحالف البناء، في حين وقع محمد الكربولي عن النواب انفسهم مع تحالف الإصلاح)! وبسبب أيضا الاختلاف المتجدد في تأويل قرار المحكمة الاتحادية «الدلفري»، بين ان يكون توقيع رئيس الكتلة لوحده بمعزل عن نوابه كما في تاويل تحالف الإصلاح، او ان يتم الإعتماد على تواقيع رؤساء الكتل ونوابهم معا كما في تأويل تحالف البناء. وهو ما اضطر الطرفين الأقوى في التحالفين، وهما سائرون والفتح، إلى الإتفاق بينهما على تسمية مرشح تسوية دون إعلان «الكتلة الأكثر عددا» صريحة هذه المرة، وقد تواطأ الجميع مع هذه التسوية، حيث قام رئيس الجمهورية بتكليف مرشح التسوية (وليس مرشح الكتلة الأكثر عددا كما يقرر الدستور) وبحضور رئيس المحكمة الإتحادية نفسه لإضفاء «الشرعية» على هذا الانتهاك الدستوري!
اليوم، وبعد ما يقرب من ثلاثة أشهر من حركة الاحتجاج، وبعد أن اضطرت الحكومة للإستقالة، تحولت «الكتلة الأكثر عددا» إلى أحجية حقيقية! فلا أحد يرغب في الإعتراف بانه منذ البداية، كان طرفا في تواطؤ جماعي على انتهاك الدستور عند تكليف السيد عادل عبد المهدي بتشكيل الحكومة، ولا أحد يريد الإعتراف بانه لم تكن هناك أصلا كتلة اكثر عددا صريحة، ومتفقا عليها، في الجلسة الاولى لمجلس النواب كما يقول قرار المحكمة الاتحادية! لذا رأينا رئيس الجمهورية، ورئاسة مجلس النواب، والمحكمة الاتحادية، يمارسون لعبة تقاذف المسؤولية لتحديد (الكتلة الوهمية ) التي لا وجود لها أصلا! وهم جميعا يعلمون تمام العلم أن الأمر لا علاقة له بالأحكام الدستورية بل بالسياق السياسي، الذي تحول هذه المرة إلى سياق سياسي مسلح!
في النهاية، ليست الكتلة الاكثر عددا، سوى مظهر من مظاهر كثيرة لأزمة النظام السياسي في العراق، والتي تطفو مع كل مناسبة سياسية أو صراع على السلطة بين الفاعلين السياسيين، وهو أمر يرفض الجميع الاعتراف به!
القدس العربي