إن من السذاجة بمكان التقليل من شأن العدوان الأمريكي على العراق الذي أدى لاستشهاد عشرة اشخاص بينهما قائدان ميدانيان، إيراني وعراقي، ودفع المنطقة، وربما العالم خطوة كبيرة على طريق الحرب.
فقد فاجأت العملية الأمريكية مساء الخميس الماضي العالم الذي كان ما يزال يعيش اجواء العام الميلادي الجديد متطلعا لسنة من الأمن والاستقرار والحب بين أبناء هذا الكوكب. أدى العدوان الأمريكي الذي استخدمت فيه طائرات مسيرة لمصرع كل من الجنرال قاسم سليماني قائد فيلق «القدس» التابع للحرس الثوري الإيراني، وأبي مهدي المهندس، نائب رئيس الحشد الشعبي العراقي. أمريكا تنظر للكيانين (الحرس والحشد) أنهما اكبر معوق لسياساتها في الشرق الاوسط، وتخطط ضدهما منذ زمن. ومن المؤكد أن أنباء وصول سليماني قادما من دمشق قد بلغت الأمريكيين الذين كانوا متأهبين لتلك اللحظة خصوصا بعد استهداف سفارتهم في بغداد قبل ايام قليلة.
وسوف تتواصل التكهنات عن كيفية وصول معلومات تحركات السيد سليماني المعروف بحذره الكبير للاستخبارات الأمريكية، وليس مستبعدا التعرف عليها خصوصا إذا كان المصدر من موظفي المطار سواء في سوريا او العراق. والواضح أن الاجراءات الأمنية لم تنجح هذه المرة لأسباب سوف تكون هي ايضا موضوع نقاش وبحث في الدوائر الاستخباراتية العالمية خصوصا الإيرانية والعراقية.
لغة الموت تتحدى ثقافة الحياة دائما، وكثيرا ما دفعت البعض الى حافة اليأس من إمكان تحول الولايات المتحدة الأمريكية، خصوصا بقيادة دونالد ترامب، الى قوة من اجل الخير. فعلى مدى سبعة عقود تكرست صورة أمريكا الدموية التي انسلخ قادتها من قيم الإنسانية والعدل وتحولوا الى سفاكي دماء على أوسع نطاق عرفته البشرية.
خمسة وسبعون عاما مضت على اول استخدام للقنبلة الذرية عندما قصفت القوات الجوية الأمريكية مدينتي هيروشيما وناغازاكي اليابانيتين وحولتهما في غضون دقائق الى ركام خال من البشر. كان ذلك كافيا لتحريك «العالم الحر» لتشكيل جبهة عالمية لمواجهة هذا التحدي الذي هو الأكبر للبشرية. تبع ذلك تدخلها المباشر في الحرب الكورية ومقتل عشرات الآلاف فيها، ثم حرب فييتنام التي أدت لقتل اكثر من مليون من الفيتناميين واكثر من 58 ألفا من الأمريكيين. حرب بعد أخرى بدون وازع من ضمير برغم تشكيل هيئة الأمم المتحدة التي يفترض أن تمارس دور الرقابة الدولية وتسعى لمنع الحروب. وعلى مدى ثلاثة ارباع القرن تواصلت التدخلات الأمريكية في كافة انحاء العالم، من أمريكا الجنوبية الى أفريقيا والشرق الأوسط الى جنوب شرق آسيا. فاليابانيون يستذكرون دائما ما حدث لآبائهم قبيل نهاية الحرب العالمية الثانية وكيف أن أشلاء سكان المدينتين المذكورتين تبخرت نتيجة القصف الذري غير المسبوق. وتشتكي شعوب كثيرة من التدخلات الأمريكية في شؤونها. فبعد فيتنام حدثت أزمة الكويت في 1990 التي تدخلت أمريكا فيها بشكل مباشر لاخراج القوات العراقية من الأراضي الكويتية. ولكن ذلك لم يكن بدون ثمن، فالشرطي الدولي الذي يمارس دورا محوريا في أمن الخليج، لا يعبأ بالتكلفة البشرية الناجمة عن تدخلاته.
الواضح أن الاجراءات الأمنية لم تنجح هذه المرة لأسباب سوف تكون هي ايضا موضوع نقاش وبحث في الدوائر الاستخباراتية العالمية خصوصا الإيرانية والعراقية
ومنطق الجنرالات الأمريكيين يوحي بغياب الحدود الأخلاقية عن السياسات الأمريكية خصوصا العسكرية منها. برغم ذلك لم تتراجع الشعوب عن مطالبها او مواقفها خصوصا ازاء التدخلات الخارجية او الاستعمارية.
والى ما قبل ثلاثة عقود كانت الشيوعية قادرة على تشكيل رأي عام عالمي ضد ما كانت تسميه «الامبريالية الأمريكية». ولكن تراجع المشروع الشيوعي والاشتراكي وتقلص مساحاته في الحياة العامة الغربية ساهم في تخفيف المعارضة الشعبية للسياسات الأمريكية. وتزامن صعود اليمين المتطرف في الغرب في السنوات الاخيرة مع وصول دونالد ترامب الى البيت الأبيض، الأمر الذي أحدث خللا خطيرا في التوازن الدولي خصوصا على مستوى العلاقات الدولية والتوجهات الأمنية والتدافعات الاقتصادية. ومع صعود التطرف اصبحت السياسات الأمريكية احد عوامل تشجيعه فأصبح عاملا جديدا لتحولات فكرية لدى الرأي العام، بعيدا عن الانفتاح والليبرالية. فالمواطن الغربي تحول الى مستهلك محدود الدخل لا يستطيع القيام بأعباء الحياة المادية، فأصبح أكثر اعتمادا على «المعونات الاجتماعية» التي توفرها الدولة، وأقل ميلا لما يمكن أن يسمى «نضالا» من أجل العدالة في العالم. هذا التراجع القيمي مدعوم بتفاعل متسلسل يعمق الابتعاد عن قيم الخير ودعم المظلوم والتصدي للظلم، الأمر الذي يساهم في تحويل سياسات ترامب الى نهج سياسي مقبول وطبيعي، واعتباره أنه «المطلوب» في الوضع الراهن. وعلى صعيد العالم العربي، نجم عن التراجعات القيمية عزوف عن القضايا الجوهرية للأمة ابتداء بالحرية وتقرير المصير وإقامة حكم القانون مرورا بالاستقلال الحقيقي والحفاظ على ثروات الأمة وامكاناتها وحمايتها من الجشع الغربي خصوصا الأمريكي، وصولا الى تبني قضية فلسطين بمركزيتها في الوجدان الإسلام ي. ومع تعمق سياسات الطائفية والتطرف والتسطح الثقافي وتراجع الوعي، اصبحت حالة «اللامبالاة» السمة الأساسية لدى الكثيرين. فلم يعد هناك اهتمام بما يجري على الساحتين العربية والإسلامية، فكأنما الجميع أصبح تحت تأثير التخدير الذي تبثه الأنظمة السياسية المحلية والدولية.
الأمر المؤكد أن الضربة التي منيت بها «جبهة المقاومة» بالضربة الأمريكية الاخيرة كانت قاسية جدا، برغم توقع حدوثها منذ فترة. وبالاضافة للخسارة الناجمة عنها بقتل عشرة كوادر إيرانية وعراقية يتقدمهم كل من قاسم سليماني وابي مهدي المهندس، فان ظهور أمريكا بمظهر المنتصر على جبهة عربية ـ إسلامية يساهم في اضعاف هيبة الجهات المتصدية للهيمنة الأمريكية والإسرائيلية، الأمر الذي ينعكس سلبا على الرأي العام العربي والإسلامي الذي تعرض لنكسات كبيرة في العقود الاخيرة. هذا لا يعني ان جبهة المقاومة سوف تستسلم، كما لا يعني أن الأمة عقمت عن انجاب قادة عسكريين ميدانيين اكفاء، بل ينطوي على قدر من الشعور بالاحباط، الأمر الذي يأمل منفذو العدوان أن يؤدي لضرب معنويات من تبقى من حاملي راية الإسلام السياسي. أما إيران نفسها فمن الارجح ان تمتص هذه الضربة الموجعة، بلحاظ تاريخها المعاصر. ففي العام 1981 تمت تصفية 73 من قادتها في ضربة واحدة عندما استهدف الإرهابيون اجتماعا للحزب الجمهوري كانوا مجتمعين. وبعد عام واحد حدث تفجير آخر أدى لقتل رئيسها آنذاك، محمد علي رجائي، ورئيس وزرائها محمد جواد باهنر. كما اغتيل العديد من رموزها في السنوات الاولى بعد الثورة ومن بينهم عدد من العلماء مثل الشيخ مرتضى مطهري ومحمد مفتح وآية الله دستغيب وسواهم. واستطاعت إيران كذلك استيعاب الحرب مع العراق التي استمرت ثمانية اعوام (1980-1988). فالدول القوية لا تسقط او تتأثر كثيرا بمقتل بعض قادتها، مهما كانت قوتهم. مع ذلك لا يمكن التقليل من ألم الضربة التي وجهت لإيران مساء الخميس الماضي. فالجنرال قاسم سليماني كان معنيا بأغلب ملفات المنطقة من خلال قيادته فيلق القدس. وكان له دور متميز في تشكيل عدد من حكومات العراق وتنظيماته العسكرية بعد سقوط النظام السابق.
الامر المؤكد ان قاسم سليماني ساهم شخصيا، من خلال موقعه الرسمي كقائد لفيلق «القدس» في ترسيخ جبهة المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي في الوقت الذي كان العديد من الدول العربية يسعى للاعتراف به ويقود مشروع التطبيع معه. وأخيرا إن الضمير الانساني يقتضي القيام بحملة سياسية وايديولوجية تتجاوز الحدود والأديان والايديولوجيات لمحاصرة أمريكا سياسيا واجبارها على التراجع والتوقف عن سياساتها التي أتعبت أعداءها وأحرجت أصدقاءها ولم تنقذ حلفاءها.
القدس العربي