فرضت الأزمة الأخيرة الناشبة بين الولايات المتحدة وإيران نفسها على وسائل الإعلام والقنوات التلفزيونيّة، وأصبحت – لعدّة أيّام من إقدام الأمريكيّ على اغتيال قائد الحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني وبعض من رجاله المقربين، والقيادي في الحشد الشعبي أبي مهدي المهندس، في العراق – موضوع الخبر والرأي والتحليل الأثير، لا سيّما في العالم العربي.
ومع ذلك فإن تفاصيل الحدث، وما تبعه من رد إيراني عسكريّ، ناهيك عن موضعه داخل الإطار الكليّ وخلفياته السياسيّة والاستراتيجيّة لم تبد في أي وقت، أبعد منها عن الواقع، كما هي اليوم. وفشلت مئات القنوات التلفزيونيّة عالميّة وعربيّة في تقديم مواد ذي قيمة، رغم جيوش الخبراء المزعومين، وساعات البث التلفزيونيّة الكثيرة، واكتفت بكونها مجرّد مستخدم آخر لمواقع التواصل تنقل ما يفرج عنه أحد الطرفين رسمياً دون تعليق أحياناً، أو بتعليقات منزوعة الدسم والرائحة.
ماذا حدث للإعلام التلفزيوني؟ ولم فقدنا كجمهور ثقتنا بما تقدّمه وسائل إعلامنا عن الحدث، وأين ذهب المراسلون الحربيّون الأشاوس، الذين تواروا عن الأنظار تماماً بعد أن كانوا يتحوّلون علامة ونجوماً لتلك الصراعات – تذكرون بيتر أرنيت مراسل “سي أن أن” من بغداد؟
نظريّة دوّامة الصمت:
الاستقطاب الإعلامي القاتل
عندما توفيت خبيرة الإعلام الشهيرة إليزابيث نيومان عام 2010 تجاهلتها الصحف ومحطات التلفزة التي ما لبثت تغرقنا ببحر من الرثاء على غياب أناس أقل منها مساهمة في خدمة البشريّة بكثير من الممثلين والمغنيّات. لقد اعتبرت نيومان عدّوة للإعلام بعدما وضعت نظريتها عن “دوّامة الصمت”، التي كرّستها علماً في مجال دراسات الإعلام الجماهيري، وكشفت الدّور الخطر لوسائل الإعلام في تكريس الاستقطابات، والتمكين لهيمنة النخب وتغليب نظرتها إلى العالم على وعي الجمهور، وذلك عبر تكرار عرض آراء مجموعة ضيقة من الإعلاميين والمحللين (ذاتهم يومياً على جميع الشاشات وصفحات الصحف) بوصفها رأياً للأكثريّة، على نحو يدفع الأفراد للالتحاق تلقائياً بموقف هؤلاء إيثاراً للسلامة (الجسديّة والمعنوية) أو إلى الصّمت على الأغلب.
وهكذا إن كنت تنتمي لدولة أو طائفة تؤيد إحدى الدولتين المتنازعتين فإنك لتجنب العزلة الاجتماعية لن تفصح بالتأكيد عن رأيك إن لم يتفق مع رأي الإعلام المعبّر عن تلك الدّولة أو الطائفة، لتتناقص مساحة الآراء المختلفة باضطراد وتنتهي الأمور بسيطرة الرأي الواحد – اللون الواحد – السرديّة الواحدة على المجموعة، مع فقدان ثقة الأفراد بالإعلام، وصمت مطبق للأغلبيّة، وهي كلها أجواء تسهّل سيطرة الديكتاتوريّات والأنظمة الفاشيّة النّسق.
لقد أوصلنا الإعلام العربي إلى حالة لا نتوقع معها الاستماع منه إلى شيء جديد أو مختلف، بل مجرّد تعزيز متوقع لوجهات النظر ذاتها، سواء أكنت معها فتشعر بالاستئناس لصوابية رأيك، أو تلجأ إلى الصمت إذا كنت فقدت الثقة بها لشدّة انحيازها.
المُراسل التّلفزيوني الحربيّ:
الأسطورة التي لم تكن يوماً
عاش الجمهور ليلة عصيبة – الثلاثاء / الأربعاء- بعدما بدأت الأنباء تتوالى عن القصف الصّاروخي الإيراني. ففي منطقة متأزمة منذ أيّام لحدود التهويل لدرجة نشوب حرب عالميّة ثالثة، لم تمتلك أيّ من التلفزيونات ومؤسسات الإعلام العالميّة أي تواجد فعليّ على الأرض، وكاد عملها يقتصر في غياب مراسلين حربيين لنقل الحدث من الأرض على انتظار البيانات الرسميّة التي يطلقها طرفا الصّراع، وهي بالطبع بيانات مبسترة موجهة تخدم أغراض السياسة والدّعاية أكثر من كونها أخباراً حقيقيّة. وهكذا وبعد مرور 48 ساعة على الحدث، لا تزال الأنباء متضاربة عن حقيقة ما حصل، لدرجة أن بعض الجمهور بدأ يتهامس عن مؤامرة تلفزيونيّة لفقها الطرفان من وراء الكواليس للملمة الأمور والخروج من نفق الأزمة قبل تفاقمها إلى حرب مكلفة لهما معاً. فأين ذهب المراسلون الحربيّون التلفزيونيون – ورفاقهم الصحافيون – إذاً؟ وهل اندثرت هذه المهنة في وقت ما بينما لم يكن أحد يلقي بالاً؟
حسب الصحافي الألماني الرّاحل أودو أولفوخته – في مذكراته التي عنونها بـ”صحافيون للإيجار” – الترجمة الإنكليزيّة صدرت عام 2019 – الحقيقة الصادمة، أن فكرة المراسل التلفزيونيّ الحربيّ لم تكن يوماً إلا أسطورة خادعة يتم توظيفها في إطار البروباغاندا كجزء لا يتجزأ من الصراع العسكريّ، إذ يستحيل على أي فريق تلفزيونيّ أن ينقل أجواء من الأرض دون أن يكون تحت الحماية والرعاية الكليّة لأحد الأطراف المتحاربة، ولذا تنتهي دوماً إلى تقديم تقاريرها كجزء من سرديّة الطرف الرّاعي تضيء على أحداث، وتعتم على أخرى وتختلق ما يتناسب معها حصراً. وهو يقول إن المراسلين التلفزيونيين، إلى جانب إيثارهم السّلامة من خلال العمل في إطار الوحدات العسكريّة، فهم أيضاً كسالى، وغير معنيين منهجياً بالحقيقة. وهو يذكر أنّه في بدايات الحرب الأهليّة اللبنانيّة (1975 – 1990) غرقت قنوات أوروبا التلفزيونيّة في بحر من التقارير المصوّرة عن قتال الشوارع من بيت إلى بيت، والتي كانت ترسلها فرق مراسلين تلفزيونيين مزعومين على الأرض. لكن الحقيقة أن هنالك تفاهماً بين تلك الفرق على أسلوب العمل: إذ يبني كل منها علاقات وثيقة مع إحدى الميليشيات المتنازعة تقوم من خلالها بتسليم كاميراتها لمجموعة مقاتلة تصّور لها مقابل المال مشاهد من الخطوط الأماميّة. وقد كانت تلك الميليشيات تفتعل إطلاق النار أحياناً من أجل إنجاز مادة فيلميّة والحصول على المعلوم في ما إذا لم تتوفر مشاهد حقيقيّة لتصويرها. ولدى استلام المادة المصورة يتم منتجة ظهور المراسل الحربي في إطارها، والذي يكتفي بالتقاط مشاهد له أمام الخراب والدمار مع إضافة شيء من الوقود المشتعل هنا أو هناك لزوم إنتاج تأثيرات دخانيّة أو حتى الاستعانة بأفراد من الميليشيا لإطلاق رصاصهم كخلفيّة صوتيّة للتصوير. وهكذا يكسب الجميع: الأوروبيّون يتفرجون من غرف جلوسهم على مشاهد حيّة لصراع الشعوب (البدائيّة)، والقنوات التلفزيونيّة تتفاخر بإنجازات فرقها “من قلب الحدث”، ويتألق المراسلون الكسالى نجوم إعلام متوجين ويفوزون بالجوائز وترتفع قيمتهم السوقيّة، بينما يتلقى رجال المليشيات ما يكفيهم لشراء سجائرهم ومخدراتهم ليوم أو يومين حتى موعد تقرير (تلفزيونيّ) جديد وهكذا.
ويقول أولفوخته إن هذه المنهجيّة التلفيقيّة لم تتوقف على معارك بيروت فحسب، إذ أنّه وجدها حيثما أخذته المهنة: إلى أفغانستان وأنغولا والكونغو وإيران والعراق (إبّان حروب الخليج في الثمانينيات من القرن الماضي) وأنّه التقى دائماً فرقاً تلفزيونيّة تحمل مع كاميراتها عبّوات البنزين لزوم إنتاج خلفيّة مناسبة لمشهد المراسل الذي سيضاف على مواد المتقاتلين وشاهد مراسلين عالميين في مناطق نزاع عدّة يقومون بحركات مسرحيّة ومبالغات أمام ديكورات دمار مفتعل.
أولفوخته، الذي لا يبرّئ نفسه من العمل ضمن الجوقة الإعلاميّة الغربيّة الفاسدة، عمل بنفسه مراسلا صحافيّاً ميدانياً في أفغانستان، وهو لضمان سلامته تلك الفترة تظاهر باعتناق الإسلام وحصل على شهادة موثقة تثبت إيمانه من أحد المفتين الشرعيين لميليشيات (المجاهدين) وتصريح بحمل السلاح لإبعاد الطامعين بخطف ذلك (الكافر) الأشقر إذا لم تسنح له الفرصة لعرض شهادة إيمانه عليهم واكتفى بكتابة تقارير لا تتعارض مع السرديّة الغربيّة، بينما منعت لاحقاً عن فظائع استخدام الأسلحة الكيميائيّة في الحرب بين العراق وإيران – لأن المواد القاتلة كانت منتجات صدّرتها ألمانيا – واختصر بعضها إلى نصوص لا تثير حفيظة أحد.
العالم العربي: ليس جمهوراً
حتى في ملعب الصراع بل حشائش
الصراع الأمريكي – الإيراني، ربّما يكون في الحقيقة أمراً طبيعياً، فهذه أمم كبرى (مع تفاوت نسبي في الأحجام بالطبع) لها مصالحها المتعارضة ونظراتها المتفاوتة حول دور كل منها في فضاءات النفوذ. وبغض النّظر عن حساباتنا المحليّة الضيّقة في العالم العربي، فإن بلادنا جميعها، في انقساماتها وتخلفها الاقتصادي والاجتماعي، ليس لديها دور عمليّ لتكون لاعباً فاعلاً في ذلك الصراع.
وبحكم دوامة الصّمت الهائلة التي تبتلع وعي ناسنا، وانكشاف أسطورة الإعلام المحايد لمصلحة صعود البروباغاندا، فإن مكانة الشعوب العربيّة لم ترتق حتى إلى مستوى الجمهور، الذي يراقب اللعب من المدرجات، بل هي أقرب إلى دور الحشائش، التي يدفع بعضها أثمان صراع الفيلة مباشرة، بينما يكتفي البعض الآخر بمشاهدة الضربات المتبادلة بعيداً، هناك من تحت، دون أن يفهم شيئاً.
القدس العربي
ندى حطيط