الباحثة شذا خليل*
إن ارتفاع سعر الذهب إلى ما فوق 4,400 دولار للأونصة لا يُعد مجرد خبر سوقي أو موجة مضاربة عابرة، بل هو إشارة اقتصادية عميقة تعكس ضغوطاً هيكلية متراكمة داخل النظام المالي العالمي. تاريخياً، لا يصل الذهب إلى مستويات قصوى إلا عندما تتراجع الثقة بالعملات، وتضعف مصداقية السياسات النقدية، وتتزامن ذلك مع توترات جيوسياسية واسعة. وما نشهده اليوم ينسجم تماماً مع هذا النمط.
الذهب كمؤشر للقلق النظامي
يتميّز الذهب عن باقي الأصول بكونه لا يرتبط بمخاطر ائتمانية ولا يعتمد على وعود الحكومات أو سياسات البنوك المركزية. الإقبال المتزايد عليه يعكس شكوكاً متنامية حول استقرار النظام المالي ككل. وارتفاعه بأكثر من 68 بالمئة خلال عام واحد يشير إلى إعادة تسعير عالمية للمخاطر، لا إلى رد فعل مؤقت.
أسعار الفائدة والديون وثمن الثقة
أحد المحركات الأساسية لارتفاع الذهب هو توقّع خفض أسعار الفائدة في الولايات المتحدة. فمع تراجع العوائد على السندات والودائع، يصبح الذهب أكثر جاذبية كمخزن للقيمة. الأهم من ذلك أن مستويات الدين العالمي بلغت حدوداً تاريخية، ما يدفع الحكومات إلى الاعتماد على أسعار فائدة منخفضة لإدارة أعباء الدين، وهو ما يؤدي عملياً إلى تآكل العوائد الحقيقية للمدخرات. في هذا السياق، يتحول الذهب إلى أداة حماية من هذا التآكل الصامت للثروة.
البنوك المركزية والتحول الهادئ بعيداً عن الدولار
من السمات البارزة في هذه المرحلة تصاعد مشتريات البنوك المركزية من الذهب. هذا السلوك استراتيجي وليس مضاربياً. فزيادة الاحتياطيات الذهبية تهدف إلى تقليل الاعتماد على الدولار الأميركي، والتحوّط من تقلبات العملات، وتخفيف مخاطر الضغوط الجيوسياسية. ويعكس ذلك انتقالاً تدريجياً نحو نظام نقدي أكثر تعددية، يكون الذهب فيه مرساة محايدة.
الجغرافيا السياسية وتفكك التجارة وارتفاع علاوة المخاطر
التوترات الجيوسياسية، والحروب التجارية، والعقوبات الاقتصادية، كلها عوامل زادت من حالة عدم اليقين العالمي. هذه العوامل تُربك سلاسل الإمداد، وترفع كلفة الإنتاج، وتضعف التخطيط الاستثماري طويل الأجل. ارتفاع الذهب هنا هو استجابة مباشرة لعالم تتراجع فيه قابلية التنبؤ بالسياسات وتتزايد فيه المخاطر السياسية.
ضعف العملات وتوقعات التضخم
يساهم ضعف الدولار الأميركي في دعم أسعار الذهب عبر خفض كلفته على المشترين الدوليين. وفي الوقت نفسه، يعكس الذهب مخاوف من تضخم مستقبلي أكثر مما يعكس التضخم الحالي. فالعجوزات المالية المتزايدة، والإنفاق العسكري، وضغوط الالتزامات الاجتماعية طويلة الأجل، كلها تغذي مخاوف تآكل القوة الشرائية للعملات. ويؤدي الذهب دور التأمين ضد هذا الخطر.
الانعكاسات على الاقتصاد العالمي
غالباً ما تتزامن الأسعار القياسية للذهب مع سلوك استثماري دفاعي يركز على الحفاظ على رأس المال بدلاً من التوسع. في الاقتصادات الناشئة، قد يؤدي ذلك إلى خروج رؤوس الأموال، وضعف العملات، وارتفاع كلفة الاقتراض. أما في الاقتصادات المتقدمة، فيعكس هشاشة الثقة وحساسية الأسواق لأي خطأ في السياسات. كما أن صعود الفضة والبلاتين بالتوازي يشير إلى ضغوط أوسع في أسواق السلع واختناقات في جانب العرض.
الخلاصة
إن تجاوز الذهب مستوى 4,400 دولار ليس حدثاً عرضياً، بل مرآة لاقتصاد عالمي يواجه ديوناً مرتفعة، وتراجعاً في مصداقية السياسات النقدية، وتفككاً جيوسياسياً، وغموضاً حول آفاق النمو. رسالة سوق الذهب واضحة: العالم لم يعد يُسعّر الاستقرار، بل يستعد لمرحلة طويلة من عدم اليقين الاقتصادي والسياسي. وفي هذا السياق، لم يعد الذهب مجرد أداة تحوّط، بل أصبح حكماً صريحاً على مسار الاقتصاد العالمي.
وحدة الدراسات الاقتصادية / مكتب شمال امريكا
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية
