جمهورية العصفورية… لماذا يبكي الإيرانيون؟

جمهورية العصفورية… لماذا يبكي الإيرانيون؟

بين عامي 1977 و1978، كان الخوف قد اضمحل من شوارع طهران. فقد قرر أطفالٌ وشبابٌ صغار مواجهةَ امبراطور الدولة الفارسية، الشاه، الذي نصب نفسه ملكَ الملوكِ وشمس الآريين.
لن يقف الشاهُ ساكتاً، وإنما سيطالبُ جنودَه بالفتك بأجسادِ هؤلاء الشباب؛ سيقعُ من بين من وقع في هذه الاحتجاجات شابٌ يُدعى مصطفى كان والده (الخُميني) آنذاك عالِماً معروفاً في قُم بمواقِفه الجريئة ضد السلطة.
ستتحول ذكرى إحياء أربعينَ يوماً على مقتلِ هذا الشاب إلى أعمالِ شغبٍ، هاجم فيها المتظاهرونَ، محلات بيعِ الخُمور وصالات السينما. ومع هذه الحوادثِ، ستحمِلُ ذكرى الأربعين في إيران معنى جديداً في الظروفِ السياسيةِ الإيرانيةِ؛ فبدلاً من أن تُؤشر إلى نهايةِ فترةِ الحزن، بدأت تتحول إلى شعيرةٍ سياسيةٍ، للاعتراضِ على النظامِ. أخذت هذه الأيام تتكاثرُ في عرضِ البلادِ وطولِها، مع اشتداد أعمالِ القمع، وصارت بمثابة كابوس للسلطةِ. يشرحُ عالمُ الاجتماعِ منصور معدل كيف أصبحت دوراتُ هذه الشعائر الدينية تُحددُ التواريخَ والمواعيدَ الدقيقة للانخراط ِفي نشاطاتِ المعارضة.
سقط الشاهُ، لم يصدق حلفاؤه والعالم ما يحدث. وفي يومٍ شباطي، تجمع الملايين ليستقبلوا الخميني.. سيبقى السؤالُ حول ما إذا كانت هذه الثورةُ دينية أم حداثية؟ محل نقاشٍ واسعٍ. كتب سامي زُبيدة، أن هذه الثورة لم تكن سِوى ثمرة نوعٍ من الحداثةِ؛ مع ذلك لم يكن خطابُ السلطةِ على الأقل يوحي بهذا الشيء، كانت الثورة تسيرُ بلغتها الأيديولوجية إلى عوالمِ الأسلاف. سيُخبرنا الخميني القادم كطلقةٍ من القرن الهجري الأول، وفق تعبير الصحافيَ المصري محمد حسنين هيكل، أنه لا يعبأُ بمفاهيم الدولةِ وملفاتِ الاقتصاد، لأن صانعَ التاريخ هو الشهيد، فهو مصدر شرعية هذه الثورة. ولذلك بات الاحتفالُ بذكرَاهم في الساحاتِ العامة شيئاً أساسياً من طقوس الدولةِ، أو الأمة الجديدة. فقد غدا، وفقاً لتحليلِ حميد بوزرسلان، بمثابة صورة عن المسؤوليةِ والتضحيةِ، فهو شبيهٌ بالإمامِ الحُسين، الذي تحول من «شفيعٍ في السماء» إلى ثائرٍ عادلٍ.

مع هذه الرمزية الجديدة، كان الشرقُ الأوسطُ يدخلُ مرحلةً جديدةً من تاريخ متخيلاته، تقعُ على النقيض من شبابية سنوات 1950/1970، فقد حل الشيخُ الحكيمُ الذي يشكل ألمه ذاكرةَ شعبٍ بأسره، محل الثوري الشاب والرشيق المتمثل في عبد الناصر أو ياسر عرفات (والتحليلُ هنا لبوزرسلان). وباسم هذه الآلام والأساطير الدينية، سيطلبُ هذا الرجل المعمم من الشبابِ القيام بالتضحية الكبرى، أي «الشهادة» لتصديرها، التي مثلت بالنسبة له شرطاً أساسياً لاستمرارية حكومته؛ فالانتقال إلى الداخلِ أو الاضطرار للانسحاب، كان يعني التحول إلى سلطةٍ قمعيةٍ ترافقها ظاهرةُ تحولٍ بيروقراطي. تطلّب هذا التصدير حرساً مخلصين للثورة، يعملون على نشر رسالته، وعلى تصفيةِ من تبقى من أعداءِ الداخلِ، الذين تمثلوا في البداية بقواتِ الجيش، قبل أن يطالَ الأمرُ لاحقاً بعض مؤيدي الثورة، الذين «ارتدوا» عنها بسبب خلافاتٍ حول «الثورة الدينية» التي كان يسعى لها الخميني.
يروي لنا بهروز قمري في مذكراته المنشورة مؤخراً بالعربية، جزءاً من يوميات إسقاطِ الشاهِ والانقلاب ِعلى المتظاهرين لاحقاً. فقبل الثورةِ بأشهرٍ، كان خامنئي كما يروي قمري، شاباً غير قادرٍ على الخطابة أمام الجماهير «كان قد حرمه جسده الرشيق والطويل والمتمايل، وعيناه الزرقاوان، مع شاربه الصغير وشعره البني الفاتح الأشعث من الوقوف على المنصة كقائدٍ موثوقٍ».. كان أنصارُ اليسارِ الإسلامي وحزب توده أكثر قدرة على الحشد كما يذكر «من عمامة خامنئي السوداء»، بيد أن هذه الأحوالُ ستتغير، فحلفاء الأمسِ باتوا أعداءَ اليوم الموالين للغرب. سيلتقي في أحد السجون بأحد الجنرالاتِ الذي سيهديه يومها سروالَه القديم خاتماً كلامه بعبارة «قد يكون قصيراً قليلاً، لكنه مثل الحياة» ليُساق بعدها إلى قوافلِ الإعدام. في موازاةِ وتيرة الرعب في الداخل، كانت الحربُ مع العراق بمثابة فرصة لترسيخ فكرة الشهادة الإيرانية، بيد أن تجرعَ قائدها السم في نهاية المعركةِ، وارتداء 800 ألف عائلة إيرانية السواد على أولادها الذين قُتِلوا، سيُجبِر إيران على الانكفاء، والعودة إلى قمقمها الجغرافي.

مع اندلاع الانتفاضات العربية، وتحول ساحاتها لاحقاً إلى معاركَ بين أطرافٍ أهليةٍ، كانت إيرانُ ترى أن هذه الدول ليست سوى صنيعة القوة والتوسع الغربي، ولذلك لا بأسَ من انهيارها عبر دعم جماعاتٍ أهليةٍ مسورة بغلافٍ طائفي، في سبيل بناءِ أو توسيعِ رقعة الأمة الشيعية الجديدة.

مدينةُ الموتى

بعد الحرب، تنحت صورُ الشهداءِ قليلاً عن لغة السياسيين لصالحِ لغةٍ أخرى حول ضرورةِ الإصلاحِ الاقتصادي مع رفسنجاني، والرئيس خاتمي لاحقاً. إلا أن هذا الهدوء لن يستمر سوى لعقدٍ أو أكثرَ بقليل. كان العراقُ يتعرضُ للغَزو، وهو ما سيفسح المجال «لصحوةٍ جديدةٍ للشيعة»، وفق تعبير ولي نصر. كانت مدينةُ بغداد والعراقيون يعيشون في قلب لحظة الصدمةِ والذهول، لا من الحرب التي اعتادوا وقعها، بل من نتائجها، التي أدت إلى محوِ الدولة الوطنية، لصالح اندفاع طرازٍ جديدٍ من الأساطيرِ ورافعي شعاراتها. كان أحفادُ صاحب العصر والزمان الإمام المهدي يعودون للعراق من البوابة الإيرانية. لن يعود موسم المناحة الجماعية بُعيد الاحتلال الأمريكي مجرد موسمٍ أو طقسٍ ديني، بل أضحى موسماً سياسياً يُعلَن فيه عن انتصار ثقافة جماعة أهلية بعينها. ومع عودة هذه الطقوس والأساطير، وتقلبات الوضع في المنطقة، وسراب سياسات خاتمي الإصلاحية، الذي بقي بحسب الكثيرين رجلاً لا يبحثُ عن معارك مع المحافظين، ما أفقده ثقَة مؤيديه، كانت القيادة الإيرانية المُحافِظة تبحث عن شخصٍ آخر يُلائم المرحلة الجديدة. في عام 2005، برز دور ابن الطبقة الفقيرة أحمدي نجاد، القريب من خامنئي، ليقود «ثورةً إسلامية ثانية» تُتَممُ الأولى وتقتلعُ أسبابِ انحرافها (الإصلاحيين)، كما يحلم بدورٍ جديدٍ للحرس الثوري خارج حدوده الجغرافية، التي بقيت محدودة في السابق (لبنان).
الأهم من ذلك، أن هذه العودة ترافقت مع عودة صورِ الشهداء من جديد إلى الساحات الإيرانية، إذ سيقر نجاد، وبعد توليه الحكمَ مُباشرةً، إعادة تسمية نحو 4700 ساحة عامة بأسماء مقاتلين من الحرس الثوري، مِمن سقطوا في الحرب ِالعراقية الإيرانية. كان بعثُ هذه الأسماء وصورها، بمثابة إلحاق مجتمع الأحياء والحضور بمدينة أهل الغيبة والعلم، وفق ما وصل إليه عالمُ الاجتماع اللبناني وضاح شرارة، فقد كانت هذه الرؤية تعكس تأثراً بالطقوسِ الشيعيةِ التي تتحدث عن «الأمة العالمة»، التي سيعثر عليها المهدي المنتظر، اذ تمتاز هي وأهلها بأن «قبورَ موتاهم في أفنيتهم، وعلى أبواب دورهم وبيوتهم». ولم تكن عودةُ الموتى تكشفُ عن جانبٍ ميثولوجي/ديني حكمَ عقلية نجاد والحرس الثوري وحسب، بل أيضاً عن رسالةٍ مفادها أنه في ظل هذه القناعات لا ضرورة للسياسة.
في مقابلِ حكايا عالم الموتى والأحزان هذا، واستمرار النظام الإيراني في سياساته النووية وتظاهراته المليونية في قُم والنجف، كانت صورٌ أخرى للإيرانيين تحاولُ مزاحمةَ صور الشهداء، في ظل الانفتاح الذي عرفه العالم. فخلافاً لصورةِ الفتاة الإيرانية المنقبة الحاملة للسلاح، التي لا توحي ملامحها بأي جانبٍ أنثويٍ يبعثُ على الفرح، أظهرت الصورةُ الجديدةُ ملامحَ فتياتٍ إيرانياتٍ جميلات بلباسٍ آخر، وحجابٍ يُظهِر خصلاتهن، كما أظهرت صوراً لشبابٍ وهم يرتدون سراويل علمانية، ويترددون على محالِ الماركات الحديثة؛ سيُدرِك النظامُ الإيراني هذه المعادلة في انتخابات عام 2009، من خلال السماح بتحويلِ الأجواء الانتخابية إلى موسمٍ طقسي يسمحُ للجماعة الخمينية بإعادةِ تجديدِ نفسها؛ فالمواسم بحسب علماء الأنثروبولوجيا هي بمثابة فرصة تُتيح لأفراد الجماعة قلبَ الأدوارِ مؤقتاً، وممارسةَ الإسرافِ في كل شيء تقريباً، وهو ما سيظهرُ من خلال السماح لتأييدٍ واسعٍ لكروبي، والسماح بنقد الإيرانيين للنظام بشكل لاذع، قبل أن يقوم في اليوم التالي بقمعهم.

انتفاضاتٌ وعصبياتٌ محليةٌ شيعيةٌ

مع اندلاع الانتفاضات العربية، وتحول ساحاتها لاحقاً إلى معاركَ بين أطرافٍ أهليةٍ، كانت إيرانُ ترى أن هذه الدول ليست سوى صنيعة القوة والتوسع الغربي، ولذلك لا بأسَ من انهيارها عبر دعم جماعاتٍ أهليةٍ مسورة بغلافٍ طائفي، في سبيل بناءِ أو توسيعِ رقعة الأمة الشيعية الجديدة. وكان هذا الدعمُ يعني دوراً أوسع للحرسِ الثوري وجناحه المعولم «فيلق القدس». ستبرزُ في هذه الحرب صورُ قادة إيرانيين، وهم يتجولون في عددٍ من الدول العربية، وكأنهم يركبون حيواناً أسطورياً، يُتيح لهم الانتقالَ كالبرق من بغداد إلى اليمن إلى دمشق ودير الزور، ما سيُعزز ويضخم من صورة الإمبراطورية الشيعية وجنودها، التي لا يمكن أن تكون أمة بدون أن تمتلكَ أبطالاً خارقين، يقودون شبابَ الأمة للشهادة والموت، في سبيل بناء حصونها وتمِتينها، وتضخيم مكانة الحرس الثوري الإيراني ودوره السياسي والاقتصادي.
مثل قاسم سليماني «بطل» هذه المرحلة، الذي نجح في تضخيم مكانة فيلق القدس. غدا بمثابة «لورنس الشيعة» الذي يحمل مشروعاً عقيدياً وليس مشروعاً سياسياً (وهو ما تمثل في الأيام الأخيرة عبر القول بأنه لم يُفكر بمنصبٍ آخر سوى خوض البداوة الجهادية وفق تعبير أوليفيه روا) يُقاتل من خندق إلى آخر، ومن ساحة لأخرى، بدون أن تخترقَ رصاصاتُ العدو جسدَه.

الإمامُ يبكي لورنسه

مع قتل سُليماني وصورته الأسطورية، عادت صورُ الموتى لتفرِض نفسهَا من جديد على الساحة الإيرانية والعراقية؛ وهي الساحات التي ستعرف قبل أشهرٍ من عملية القنص؛ دعوات لسياسات فرح جديدة. سيتقدم الإمامُ مشهدَ الصلاة، لكن قبل ذلك سيخلعُ بردتَه المقدسة ليلف بها ما تبقى من جسدِ سُليماني «الشهيد» وفق الرواية الإيرانية؛ سيبكي الإمامُ ومن يقف خلفه من ملايين الشيعة في إيران والعراق، والضاحية الجنوبية، لا حزناً على بطلهم «الخارق»، بل كذلك على استهداف الأمة الشيعية.
سيحتارُ المحللونَ حول ردة فعلِ الإيرانيين أو النظام، هنا ستغيبُ الرؤية الميثولوجية أو الدينية للحرس الثوري، الحاكم الفعلي للبلاد عن التفسيرات العربية. لن يتوقع إلا القلة أن إيران سترد، وبغض النظرِ عن طبيعةِ الرد وطقسِ إخراجه، فإن ما وقع به العرب، هو أنهم لم يستطيعوا أن يفهموا أن مسارَ العقودِ الأخيرة، لم يساهم حقيقةً في دفع القادة الإيرانيين للتفاوض، بل ساهم، على عكس ذلك، في توسع طموحاتِهم الجنونية، وهو ما قد يبرز غداً من خلال المزيد من التدخلات لإضعاف الدول العربية لصالح مشروع عقدي/ أسطوري، أو عبر مزيدٍ من صور الموتى في الساحات العامة، بالشكل الذي يضمنُ لها قمعَ المتظاهرِين في طهــــران، فهؤلاء، وفقاً لرواية اليوم والغد، ليسُوا سِوى عملاءَ للغرب الذي بقيَ يتآمرُ عليهم، وهو ما يعني استمرار يوميات البُكاءِ؛ ففي ظل جمهورية العصفورية الإيرانية ومجانينها (الحرس الثوري) وتصوراتهم الدينية، لا مكان سوى للأحزان.

محمد تركي الربيعو

القدس العربي