في ظل التصعيد غير المتوقع مؤخرًا بين إيران والولايات المتحدة في العراق، يبدو أن التحديات المستمرة المتعلقة بسوريا أصبحت للوقت الراهن موضع خلاف إقليمي تراجعت وتيرة الحديث عنه. غير أنه بالنسبة لـ “قوات سوريا الديمقراطية”، التي لا تزال تسيطر بشكل متزعزع على منطقة ذات حكم ذاتي شمال شرق سوريا، كانت الأشهر القليلة الماضية بمثابة اختبار لقبضتها على المنطقة.
فخلال الأشهر التي تلت انسحاب الجنود الأمريكيين من الحدود التركية-السورية و”عملية نبع السلام” التركية اللاحقة، التي أُطلقت في 9 تشرين الأول/أكتوبر، أصبح مستقبل شمال شرق سوريا أقل يقينًا بالنسبة لـ”قوات سوريا الديمقراطية” على بعض الأصعدة. فبالإضافة إلى الخسارة الكبيرة السابقة لعفرين خلال عملية “غصن الزيتون” التركية في آذار/مارس 2018، تكون “قوات سوريا الديمقراطية” قد خسرت الآن أيضًا سيطرتها على رأس العين وتل أبيض.
لكن للوقت الراهن، حال اتفاقا وقف إطلاق النار اللذان أبرمتهما تركيا مع الولايات المتحدة في 17 تشرين الأول/أكتوبر ومع روسيا في 22 تشرين الأول/أكتوبر حتى الآن دون تفاقم الصراع وسيطرة تركيا على المزيد من الأراضي شمال شرق سوريا. علاوةً على ذلك، أبرمت “قوات سوريا الديمقراطية” اتفاقًا مع دمشق بوساطة روسية لحماية الحدود السورية، ورغم أنه لم يتبلور إلى إبرام اتفاق ملموس بين دمشق و”قوات سوريا الديمقراطية”، إلا أنه على الأقل كان محفزًا لاستمرار المفاوضات بين الطرفين.
وفي كانون الأول/ديسمبر، أجرى المؤلف مقابلةً مع القائد العام لـ”قوات سوريا الديمقراطية” مظلوم عبدي الذي شرح موقف ومخاوف القوات الراهنة، وكيف ساهم اتفاقا وقف إطلاق النار اللذان يحكمان حاليًا الوضع على الحدود السورية-التركية في الحدّ من خطر شن أي هجوم تركي في المستقبل. وأشار الجنرال مظلوم إلى أنه رغم أن خطر شنّ تركيا لهجوم إما على الجزيرة (محافظة الحسكة) أو كوباني لا يزال قائمًا، إلا أن هذا السيناريو لن يكون سهلًا بالنسبة لتركيا، قائلًا “إنهم يعلمون أننا سنقاتل بشراسة – لكن ثمة اتفاقات أكبر الآن. هناك اتفاقات مع الروس وكذلك مع الولايات المتحدة تمنع تركيا من شنّ هجمات. ويقول الأمريكيون إنه في حال نفذت تركيا هجمات [على كوباني] ستفرض عليها عقوبات – ناهيك عن وجود قوات روسية أيضًا في المنطقة”.
علاوةً على ذلك، بالنسبة للإدارة الذاتية المحلية شمال شرق سوريا، لم تتغيّر الأحوال بشكل كبير خلال الأشهر التي تلت أحدث توغّل قامت به تركيا. ورغم أنها اضطرت إلى إخلاء مركزها في عين عيسى والانتقال إلى الرقة، إلا أن “قوات سوريا الديمقراطية” لا تزال تسيطر على عدد من حواجز التفتيش والمعبر الحدودي مع العراق فيش خابور. ويُعتبر المعبر الحدودي بشكل خاص أساسيًا بما أنه يشكّل منفذًا مستمرًا إلى شمال شرق سوريا أمام الصحافيين الأجانب والمنظمات غير الحكومية من دون الحاجة إلى الاستحصال على تأشيرة دخول من الحكومة في دمشق. وما تغيّر هو أن القوات الروسية شغلت مواقع الجيش الأمريكي، وأصبحت القوات السورية تمدّ خط المواجهة حاليًا بقوات مدعومة من تركيا، رغم أنها لا تقيم حواجز تفتيش. علاوة على ذلك، قامت تركيا بالسيطرة على تل أبيض ورأس العين.
في غضون ذلك، بدّل الجيش الأمريكي في الوقت الراهن موقعه بحيث توغّل أكثر في عمق أراضي شمال شرق سوريا – فبين تشرين الأول/أكتوبر وتشرين الثاني/نوفمبر، انسحب الجيش الأمريكي من مناطق قرب الرقة وكوباني ومنبج، وأعاد نشر جنوده في محافظة الحسكة ومنطقة دير الزور الغنية بالنفط. والآن، أصبحت مهمة هذه القوات تتمثل بحماية البنية التحتية النفطية ومواصلة المعركة ضد تنظيم “داعش”.
صمود “قوات سوريا الديمقراطية”
رغم خسارة الأراضي، برزت نتيجة مهمة للقتال ألا وهي إثبات الوحدة بين الغالبية الكردية والأقليات غير الكردية في شمال شرق سوريا، رغم توقعات بحدوث خلاف ذلك. وقد ذكر مسؤولون في “قوات سوريا الديمقراطية” أنه لم تحدث انشقاقات كبيرة في صفوف المقاتلين العرب أو انتفاضة في أوساط السكان العرب في شمال شرق سوريا لدعم سواء قوات النظام السوري أو تركيا في مناطق على غرار الرقة أو دير الزور. وكما قال الجنرال مظلوم، “لقد تمّ تقويض خطط تركيا؛ كانوا يتوقعون أنه فور شن هجوم، ستنتفض المناطق التي يقطنها العرب ضدنا [“قوات سوريا الديمقراطية”]، على سبيل المثال الرقة ودير الزور ومنبج والطبقة”. وعلى نحو مماثل، رغم أن التوقعات أشارت إلى احتمال انشقاق عناصر “قوات سوريا الديمقراطية” من غير الأكراد، ذكر الجنرال أن “ذلك لم يحدث قط، لا بل ازدادت في الواقع وحدة الصفوف. وفيما نحن نتحدث، ينضم مقاتلون عرب إلى “قوات سوريا الديمقراطية” بوتيرة أكثر من الفترة التي سبقت الغزو التركي”.
ولم يكن هذا الجهد الوحيد لحث هذه القوات على التخلي عن “قوات سوريا الديمقراطية”. ففي وقت سابق من شهر كانون الأول/ديسمبر، طلب رئيس “جهاز أمن الدولة” في سوريا اللواء علي مملوك بدوره من القبائل العربية الانضمام إلى صفوف الحكومة السورية. أما مظلوم، فأشار إلى أن الجهدين المبذولين للحث على الانشقاق – سواء من جهة دمشق التي ترسل تهديدات أو تركيا التي تشنّ هجمات – باءا بالفشل، مضيفًا أن قواته “رفضت تلبية نداء” الحكومة السورية، عازيًا السبب إلى نظرة مشتركة: “إن الذين انضموا إلى “قوات سوريا الديمقراطية” يؤمنون بأفكارها وأهدافها”.
تحدي الاعتراف
مع ذلك، يسلّط النداء الذي وجهه علي مملوك الضوء على الواقع المستمر بأن “قوات سوريا الديمقراطية” والحكومة السورية ليستا على وفاق رغم تعاونهما العسكري السابق ضد تركيا. فالمفاوضات بين دمشق و”قوات سوريا الديمقراطية” لتسوية وضع الإدارة الذاتية المحلية شمال شرق سوريا في نظر الحكومة السورية لا تزال جارية، كما أكّد قائد القوات. لكن حتى الآن لا تزال دمشق ترفض الموافقة على أي أحكام تقضي بالاعتراف بـ”قوات سوريا الديمقراطية”، وهي لا تزال مصممة على دمج مقاتليها على أساس فردي في الجيش السوري.
في المقابل، أعلنت “قوات سوريا الديمقراطية” أنها ستنضم إلى الجيش السوري فقط في حال وضع دستور جديد للبلاد يكفل حق القوات بـ”الحفاظ على استقلاليتها في منطقة قيادتها ومؤسساتها”. وأكّد الجنرال مظلوم أن “محادثاتنا مع الروس والحكومة السورية ستستمر فقط ضمن هذا الإطار”.
ولغاية الآن، يبدو أن الرئيس بشار الأسد ليس مهتمًا بإبرام اتفاق مماثل، رغم أن الاتفاق مع “قوات سوريا الديمقراطية” قد يحسّن اقتصاد سوريا المتدهور والحالة المزرية لليرة السورية – التي سجلت مستوى منخفضًا قياسيًا. هذا ولا تزال “قوات سوريا الديمقراطية” تسيطر على موارد نفطية وزراعية كبيرة وتجري صفقات تجارية مع الأكراد العراقيين، ما قد يوفّر تدفقات إلى الاقتصاد السوري ككل في حال التوصل إلى اتفاق ما.
قضية اللجوء
فضلًا عن ذلك، تواجه “قوات سوريا الديمقراطية” بشكل أساسي في الوقت الحالي نوعًا آخر من التحديات التي تهدّد حدودها: إعلان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عن رغبته علنًا بوضع مليون لاجئ سوري موجودين حاليًا في سوريا ضمن مناطق سورية خاضعة لسيطرته.
وبرأي الجنرال مظلوم، “إن هدف أردوغان هو جلب مواطنين من غير السكان المحليين وإرغامهم على الاستقرار، وتشريد الشعب الكردي والديمقراطيين من ديارهم – وبعدها استقدام مرتزقة من أولئك الذين تمّت إعادة توطينهم لاستخدامهم بغية تخريب وحدة الشعب السوري، واستخدام السوريين لتطبيق أجندات أردوغان في سوريا”. ولفت قائد “قوات سوريا الديمقراطية” إلى أن الظروف الأساسية الضرورية لإعادة توطين اللاجئين السوريين لم تتوافر بعد: “أولًا، لا بدّ من إنهاء الحرب السورية كي يتمكّن الجميع من العودة إلى ديارهم”.
ولطالما قالت “قوات سوريا الديمقراطية” والإدارة المحلية إنهما تنتهجان سياسة تقوم على السماح لأي لاجئ يتحدّر في الأصل من المنطقة الخاضعة لـ”قوات سوريا الديمقراطية” بالعودة والاستقرار فيها مجددًا. غير أن قائد هذه القوات شدّد على أن غالبية السوريين في تركيا هم من مناطق دمشق وحمص ودرعا جنوبًا. ويعتبر الجنرال مظلوم أن خطة تركيا لإعادة التوطين لن تعود بالفائدة سواء على سكان الإدارة الذاتية المحلية أو على الذين يعاد توطينهم، بما أنه، بحسب رأيه، هؤلاء اللاجئين المتواجدين حاليًا في سوريا “لا يريدون الاستقرار شمال شرق سوريا”.
ومن شأن خطة مماثلة لإعادة التوطين أن تخفف من وطأة الضغوط للتوصل إلى حل سياسي يسمح للاجئين بالعودة إلى منازلهم في سوريا، وقد أصر الجنرال على إتمام عملية مماثلة لحل الأزمة السورية.
في المقابل، ستساهم خطة تركيا لإعادة التوطين بدورها في تشريد المزيد من السوريين الأكراد من عفرين ومناطق أخرى خاضعة لسيطرة تركيا حاليًا، ما يقوّض بالتالي الدعم الذي تحظى به “قوات سوريا الديمقراطية” في هذه المناطق. وأعرب المفوض السامي للأمم المتحدة لحقوق الإنسان في تقريره الصادر في حزيران/يونيو 2019 عن مخاوفه من إمكانية أن يغيّر السماح للعرب بالاستقرار في منازل الأكراد في عفرين بشكل دائم التركيبة الإثنية في المنطقة. وتخشى “قوات سوريا الديمقراطية” من أن يؤثر السيناريو الذي يتبلور أساسًا في عفرين أيضًا على المناطق التي سيطرت عليها تركيا حديثًا، رغم أن وزير الدفاع التركي نفى هذه الاتهامات.
إقامة توزان بين روسيا ودمشق
رغم ما جرى مؤخرًا، لا تخشى “قوات سوريا الديمقراطية” حاليًا من تهديد روسيا لها بمنح الضوء الأخضر لتركيا لشنّ هجوم على كوباني أو مناطق أخرى بغية الضغط عليها لتقديم المزيد من التنازلات إلى دمشق كما حصل في كانون الثاني/يناير 2018. فحينذاك، سمحت موسكو لتركيا بمهاجمة عفرين ما إن اتضح أن الأكراد لا يريدون تسليم عفرين إلى دمشق.
والآن، قد تسعى روسيا إلى الوصول إلى المناطق الغنية بالنفط الموضوعة حاليًا تحت حماية الولايات المتحدة، لكن الجنرال مظلوم يستبعد تبلور هذه الاهتمامات لتصبح أفعالًا ملموسة. وقد أفاد أنه “ثمة اتفاقات بين الروس والأمريكيين… [فالروس] لم يطلبوا منا أمرًا مماثلًا، وهم أيضًا ينسقون مع الأمريكيين، ليس نحن فقط”.
ويثبت الوضع الحالي أنه رغم تراجع قوة “قوات سوريا الديمقراطية”، إلا أنها تمكّنت من الحفاظ على استقلاليتها بحكم الأمر الواقع، من خلال إقامة توازن بين موسكو ودمشق وأنقرة وواشنطن من دون أن تتفكك. كذلك، إن استمرار الوجود الأمريكي في المناطق الغنية بالنفط في شمال شرق سوريا أعطى هذه القوات الآن ميزة في المفاوضات مع دمشق.
غير أن التوصل إلى اتفاق سياسي مع دمشق لا يزال بعيد لمنال. وفي حال عجزت “قوات سوريا الديمقراطية “ودمشق عن التوصل إلى اتفاق، من المرجح أن تزداد التوترات مرة أخرى. ويمكن للتوترات الإقليمية الراهنة بين الولايات المتحدة وإيران أن تؤثر سلبًا أيضًا على “قوات سوريا الديمقراطية”، ولا سيما في دير الزور. لكن دمشق لا تملك عناصر بشرية كافية لتحل محل “قوات سوريا الديمقراطية”، خاصة في ظل تدهور اقتصادها. وعليه، ستبقى “قوات سوريا الديمقراطية” كيانًا مستقلًا بحكم الأمر الواقع رغم الضبابية حيال مستقبلها ما لم تحدث تغييرات مفاجئة على الصعيد السياسي في سوريا.
معهد واشنطن