في شوارع بغداد، لا يزال المحتجّون يفكّرون مليًّا في الغارة الجوّيّة التي شنّتها الولايات المتحدة صباح يوم الجمعة والتي قتلت اللواء قاسم سليماني، رئيس قوة النخبة في الحرس الثوري الإيراني “فيلق القدس” قرب مطار بغداد الدولي إلى جانب تسعة آخرين، من بينهم أبو مهدي المهندس. وفي غضون ذلك، مضت إيران قدمًا: فعيّن المرشد الأعلى آية الله علي خامنئي إسماعيل قآني – نائب سليماني – قائدًا جديدًا لـ”فيلق القدس” في إيران، وأطلقت إيران ضربةً مباشرةً على قاعدة عراقية تضمّ قوّاتٍ أمريكية، مع أنّ الهجوم لم يُسفر عن أي إصابات.
رغم توجّه كلا الجهتيْن نحو وقف التصعيد بشكلٍ واضح، صعّد مقتل سليماني مع ذلك إلى حدٍّ هائلٍ الاضطرابات بين الولايات المتحدة وإيران، التي كانت تشتدّ في الأسابيع الماضية بسبب الاشتباك مع قوّات “كتائب حزب الله” المدعومة من إيران داخل العراق. وبالنسبة إلى المؤسسة السياسية وقوّاتها الوكيلة في العراق، كانت الإجابة واضحة: فتجمّع آلاف الناس في بغداد وفي عدة مدن عراقية أخرى لرثاء مقتل قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس، نائب رئيس “الحشد الشعبي”. وشقّ هذا الموكب طريقه عبر الكاظمية وباتّجاه “المنطقة الخضراء”، حيث تقع المباني الحكومية والدبلوماسية.
في 5 كانون الثاني/يناير، صوّت مجلس النوّاب العراقي أيضًا على طرد القوات العسكرية الأمريكية من العراق، مع أن هذا القرار لم يغيّر فعليًّا وضع القوات الأمريكية. وداخل قاعة البرلمان، هتفَ النوّاب “نعم، نعم سليماني” فيما كانوا يعبّرون عن سيادة العراق، موضحين أكثر فأكثر العلاقات التي تربطهم بإيران.
رغم الإدانة الرسمية القويّة لمقتل سليماني في العراق، لم يكن وكلاء إيران في العراق راضين جدًّا عن ردّ فعل عامة الناس إزاء موت سليماني. فبشكلٍ خاص، تصدّى المحتجّون من الأغلبية الشيعية الذين احتلّوا الشوارع منذ أشهرٍ للاحتجاج على الفساد الحكومي والتدخل الإيراني في الشؤون العراقية لرغبة إيران في إعطاء صورة حداد موحّدة.
استهدفت “كتائب حزب الله” المحتجّين في البصرة في خلال مسيرة تشييع قاسم سليماني والمهندس حين بدا أن هؤلاء الناس رفضوا تشييع سليماني. ففي الناصرية مثلًا، أطلقت “كتائب حزب الله” النار على المحتجّين بعد أن رفضوا حضور مأتم سليماني في ساحة الحبوبي، ما أدّى إلى قتل شخصٍ وجرح شخصيْن. فحاولت هذه الميليشيات الموالية لإيران استقدام مواكب التشييع إلى مناطق الاحتجاجات، إلا أن ذلك أثار ببساطة الغضب بين المحتجّين.
إن هذا العنف موجَّه نحو العراقيين الذين – في نظر الوكلاء – لم ينجحوا في تشييع سليماني بشكلٍ مناسب. ففي الواقع، رحّب عدة عراقيين بمقتل سليماني، لا سيّما أولئك الذين شغلوا الشوارع منذ أشهرٍ احتجاجًا على سيطرة إيران على البلاد. فوفّرت المقابلات التي أجراها الكاتب مع العراقيين منظارًا مختلفًا لرؤية كيف يبدو موت سليماني بالنسبة إلى أولئك العراقيين الذين نزلوا إلى الشوارع للتعبير عن خيبة أملهم من إخفاقات الحكومة العراقية في حماية سيادة العراق من التدخل الإيراني – من جملة أمورٍ أخرى.
على سبيل المثال، وفقًا لمحمد قاسم الذي يبلغ من العمر 24 عامًا ويقيم في البصرة، ليس موت سليماني إلا إيجابيًّا: “من أفضل الأنباء في مطلع هذا العام هو مقتل سليماني. أظن أن اغتيال سليماني كان يجب أن يتمّ منذ سنوات – فمن الواضح أنه كان يعمل ضد المحتجّين. لذا يشكّل قتله نقطة تحوّل لتغيير واقع الوجود الإيراني في المنطقة”.
بالنسبة إلى قاسم، “كلّ من قتل العراقيين، من بينهم المحتجّين، سيكون مصيره مثل نهاية سليماني، أو حتى مثل نهاية أبو بكر البغدادي”. وأوضح قاسم العلاقة بنظره بين تنظيم “الدولة الإسلامية” وإيران: “كلٌّ من تنظيم ’ الدولة الإسلامية‘و’ فيلق القدس‘مجرم. لن نسمح لأي أحد باستخدام أراضينا للمعركة”.
تُسلِّط معادلة قاسم حول تنظيم “الدولة الإسلامية” وإيران الضوء على شعور عدة عراقيين بأن إيران كانت تتسبب بالحروب في كلٍّ من العراق وسوريا عبر كلٍّ من “فيلق القدس” والوكلاء الإيرانيين. وإلى ذلك، بالنسبة إلى شخصٍ آخر جرت مقابلته، كان انتقام الولايات المتحدة في الحقيقة بعد اقتحام سفارتها ردًّا لازمًا على التصعيد الإيراني.
على نحوٍ مماثل، شرحَ طبيبٌ ومحتجٌّ يبلغ من العمر 29 عامًا طلبَ التعريف عنه بكنيته، الغفاري، أنه “رحّب تمامًا بمقتل سليماني. فقد ألحق الأذى بالعراقيين ونفّذ الكثير من العمليات ضد العراق”. وبالنسبة إلى الغفاري، شملت إحدى المظالم التاريخية بين العراقيين وسليماني “مقتل 182 طيّارًا عسكريّا عراقيًّا… شاركوا في الحرب الإيرانية-العراقية بين عاميْ 1980 و1988″. وعلى غرار قاسم، لم يرَ الغفاري فرقًا كبيرًا بين أعمال إيران وأعمال المجموعات الإرهابية التي روّعت العراق لعقودٍ من الزمن: فتشبه الإيديولوجيا الإيرانية الإيديولوجيات الخاصة بأي مجموعة إرهابية أخرى، مثل ’ القاعدة‘”. ونظرًا إلى هذا الرابط، وصفَ الغفاري أعمال الولايات المتحدة ضد إيران على أنها شبيهة بجهودها الأخرى لمكافحة الإرهاب: “أطاحت أمريكا بصدّام حسين وحرّرت العراق من تنظيم ’ الدولة الإسلامية‘عبر القوات الجوية التابعة للتحالف الدولي. وهي الآن بصدد وضع حدٍّ للميليشيات”.
شدّد الغفاري أيضًا على أنّ جزءًا من سبب رفضه لسليماني يعود إلى السيطرة التي سعت إيران إلى ممارستها على الشؤون السياسية العراقية. “بعد اجتياح الولايات المتحدة للعراق، أدّت إيران دورًا حيويًّا في إرسال عدة سياسيين ليكونوا صنّاع القرارات في الحكومات… وكانت إيران خلف عدم استقرار العراق لعقودٍ من الزمن”. ولم يكن الغفاري أيضًا قلقًا بشكلٍ خاص من نتيجة الهجوم الأمريكي: “تريد إيران أن تلعب لعبةً مع أقوى إمبراطورية في العالَم، أي الولايات المتحدة، وهي ستخسر طبعًا في النهاية”.
في النهاية، رأى الغفاري أيضًا أن الهجمات على إيران تساعد الحركة الاحتجاجية في العراق: “كانت الميليشيات التابعة لسليماني في العراق خلف مقتل مئات المحتجّين السلميين وتوقيفهم وخطفهم واغتيالهم، مع مرور أربعة أشهرٍ على بداية الاضطراب الجاري، إلا أن مقتل سليماني لا يُضعف أبدًا ثورتنا”.
شرحَ رياض كريم من بغداد الذي يبلغ من العمر 42 عامًا أنّ ما يظنّه هو أنّ “إيران بدأت الحرب حين استهدفت السفارة الأمريكية وعدة منشآت عسكرية أمريكية بواسطة الموالين لها في العراق، لذا ردّت الولايات المتحدة ببساطة”. وإلى ذلك، رأى كريم أن الوجود الأمريكي الحالي في العراق كان مفيدًا في الحقيقة لسيادة العراق: “تريد الولايات المتحدة التخلص من إيران ووكلائها من أجل مساعدة العراق على بناء نفسه”. ومع ذلك رأى كريم أنّ تهدئة أي نزاع محتمَل بين الدولتيْن هي الأهم: “بشكلٍ عام، لا أوافق على أن تشكّل سماؤنا وسيط النزاع العسكري داخل بلدي”.
لا يعني ذلك أن كل المحتجّين العراقيين يؤيدون مقتل سليماني. فمع الإشارة أيضًا إلى سيادة العراق، رأى علي عبد السلام الذي يبلغ من العمر 28 عامًا الأعمالَ الأمريكية من منظارٍ آخر: “إن وجود قاسم سليماني في العراق قانوني، و[هو مع قوّاته] خبراء عسكريون موجودون في العراق، مثل الخبراء العسكريين الأمريكيين في التحالف الدولي الذي جاء إلى العراق لإلحاق الهزيمة بتنظيم ’ الدولة الإسلامية‘”.
أكمل عبد السلام قائلًا، “هذا الهجوم الوحشي على سليماني هو انتهاكٌ لسيادة العراق، وهو يتعارض مع كافة القوانين الدولية وأيضًا مع الاتفاق الأمني بين العراق والولايات المتحدة”. لكن على غرار كريم، تخوّف عبد السلام بشكلٍ خاص من احتمال التصعيد لزعزعة استقرار العراق. “يعني مقتل سليماني المزيد من التصعيد ليس في العراق فحسب، بل أيضًا في المنطقة بأكملها. ويعود كل ذلك إلى سياسات أمريكا المتهوّرة من خلال ترامب. وبناءً على ذلك، غدا التخلص من الوجود الأمريكي ضرورةً ملحّةً، لأنه لا يحترم سيادة العراق”.
لكن بالنسبة إلى الكثير من المحتجّين، تبقى المعركة الحقيقية على شوارع العراق، وهي تتمحور حول مسؤولية الحكومة العراقية تجاه شعبها. فنزل حميد الشبلاوي، وهو محتجٌّ من النجف، إلى الشارع منذ أن بدأت الاحتجاجات في 1 تشرين الأول/أكتوبر. وبالنسبة إليه، “لم يؤثّر مقتل سليماني في احتجاجاتنا الثورية، ولم يتسبب بعودتنا إلى المنازل. فسنبقى متمسّكين بالشارع حتى تُلبّى كافة مطالبنا”.
“كلّنا نعارض استخدام مناطق العراق كمنطقة نزاع، وعلى جميعنا أن يعرف أن العراق هو للعراقيين فحسب، وليس لأي أحد آخر. وهو لا يناسب رغبة أي بلدٍ في القتال”.
يوافق المحلل السياسي العراقي غانم العباد على تقييم هذا المحتج: “لم يؤثّر مقتل سليماني في الاحتجاجات المستمرة، ولم يتسبب بالعودة إلى المنازل، رغم تعدد الأعمال الإيرانية ضد المحتجين لإيقاف الاضطراب”. وأشار العباد أيضًا إلى الدور الذي استمرّت الميليشيات في تأديته على صعيد ممارسة العنف ضد المحتجين: “قتلت الميليشيات المدعومة من سليماني المتظاهرين السلميين واغتالتهم بصورة يومية، كما أن أماكن وجود العشرات منهم ما زالت غير معروفة”.
بالنسبة إلى العباد، لم يعتقد أن النزاع الإقليمي الأوسع نطاقًا الذي يهدد بالتطوّر داخل العراق سيؤدي إلى “حرب عالمية ثالثة”، وأشار بالأحرى إلى أن الولايات المتحدة قطعت جناحيْ إيران في المنطقة. والآن، “سليماني هو مثل صفحة في كتاب التاريخ، وهذه الصفحة تم طيّها”.
أزهر الربيعي
منتدى فكرة