تسود القناعة لدى العراقيين بأن سياسة حكوماتهم جعلت سيادة بلادهم في مهب رياح الصراعات الخارجية وخاصة بعد عمليتي اغتيال الجنرال قاسم سليماني والقصف الصاروخي الإيراني على القواعد العراقية، وسط مخاوف تعميق الانقسام الطائفي والقومي في العراق، ومخاطر عودة العقوبات والحصار عليه، بعد قرار البرلمان العراقي، إلغاء اتفاقية وجود القوات الأجنبية، وتعمد القوى الشيعية الإبقاء على حكومة ضعيفة وتابعة في بغداد، لتمرير الأجندات الإقليمية.
القصف الصاروخي الإيراني
وفي أعقاب اغتيال القوات الأمريكية للجنرال الإيراني في الحرس الثوري قاسم سليماني المسؤول عن تنفيذ المشروع الإيراني في المنطقة العربية، شهد العراق في الأيام القليلة الماضية، تداعيات أبرزها مسرحية القصف الصاروخي الإيراني على القواعد الأمريكية، التي كان واضحا انها جزء من البروبغاندا الإيرانية، في إطار محاولة النظام الحفاظ على ماء الوجه أمام شعبه ودول المنطقة والفصائل الموالية له، بدليل أن وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف ذكر “أبلغنا الحكومة العراقية والأمريكان بالضربة قبل وقوعها، وردنا على قتل سليماني انتهى” مؤكداً “أن طهران لا تسعى للحرب أو التصعيد” مع أنباء عن حراك لبدء مفاوضات أمريكية إيرانية.
والمثير للسخرية أن إيران أكدت في رسالة إلى الأمم المتحدة “احترامها الكامل لسيادة العراق واستقلاله وسلامة أراضيه” وذلك في أعقاب إطلاقها 22 صاروخا بالستيا على قاعدتين عسكرييتن عراقيتين يتمركز فيهما جنود أمريكيون في الأنبار وأربيل.
وفي المقابل وردا على تسريبات عن نوايا أمريكية لسحب قواتها من العراق، أكدت الولايات المتحدة انها باقية في العراق، عندما أعرب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن رفضه فكرة الخروج من العراق، مهددا بفرض عقوبات كبيرة على بغداد إذا أجبرت القوات الأمريكية على المغادرة، قائلا: “إذا طلبوا منا المغادرة، وإذا لم يحدث ذلك بطريقة ودية للغاية. سوف نفرض عليهم عقوبات لم يروا مثلها من قبل. إنها ستجعل العقوبات الإيرانية تبدو هينة بعض الشيء” مشددا على أن تكاليف إقامة القواعد يجب أن يسددها العراق إذا أراد انسحابهم، وهكذا قطع ترامب كل آمال حلفاء إيران بترك العراق لهم وحدهم.
استنكار واسع لقرار البرلمان
ومن جهة أخرى، قوبل قرار البرلمان بإنهاء الاتفاقية مع القوات الأجنبية في العراق، باستنكار ورفض شعبي وسياسي واسع، ليس لعدم رغبة العراقيين باخلاء بلادهم من الجنود الأجانب، ولكن لكون القرار لم يأت لمصلحة البلاد بل لخدمة بلدان أخرى، إضافة إلى المخاوف من الفراغ الأمني مع استمرار خطر الإرهاب.
فمراكز الاعتصامات في بغداد والمحافظات المطالبة بالإصلاحات، رفضت في بيانها، قرار البرلمان داعية إلى إبعاد العراق عن الصراع الإيراني الأمريكي، بل ان بعض تنسيقيات المحافظات (وخاصة الناصرية) رفضت تشييع سليماني والمهندس في محافظاتها، مما دفع بعض الميليشيات لمهاجمة تجمعات الاعتصامات وإحراق الخيام وإطلاق النار على بعضها كما حصل في الناصرية والبصرة. وقد دعت التنسيقيات إلى تظاهرة مليونية الجمعة الماضية تحت شعار “نكون أو لا نكون” تؤكد على عدم زج العراق بالصراعات الدولية، ولإجبار رئيس الجمهورية على تسمية رئيس حكومة مستقل عن أحزاب الفساد يقود البلاد بعيدا عن تلك الصراعات.
رئيس اللجنة القانونية في البرلمان أرشد الصالحي أكد لـ”القدس العربي” أنه “ليس هناك عراقي لا يريد السيادة لبلده أو يقبل بانتهاكها، ولكن بالنسبة لقرار البرلمان حول إخراج القوات الأجنبية، كان المفروض ان يتم تدارسه مع كافة الكتل السياسية وان نتفق على صيغة تحفظ كرامة وسيادة العراقيين جميعا، وأن لا تكون القرارات بمشاعر عاطفية لمجرد اعطاء رسالة للجمهور حول حادث الاغتيال”.
وأشار الصالحي إلى أن “هناك تنظيمات إرهابية ما زالت في العراق منها تنظيم داعش” متسائلا: “من سيزود القوات العراقية بالمعلومات الاستخبارية عن تحركات داعش إذا انسحبت القوات الأجنبية، وهل القوات العراقية وامكانياتها كافية لوحدها على دحر داعش؟” متطرقا إلى وجود تنظيمات لحزب العمال التركي في المناطق المتنازع عليها شمال العراق، وقد أعلنت انها ستقوم بمهاجمة التركمان والإيزيديين، من سيحمي هذه المكونات الضعيفة من اعتداءات حزب العمال، هل الحكومة العراقية قادرة على ذلك؟ مشيرا إلى أن القوات الأجنبية ومنها القوات التركية المتواجدة الآن في بعشيقة تحميهم؟ ومنوها “لولا وجود حزب العمال لانسحبت القوات التركية من هذه المعسكرات، فهل تستطيع الحكومة العراقية اخراج حزب العمال من العراق لوحدها؟”.
وحذر النائب “نرى ان يوم 5 كانون الثاني/يناير الذي صوت فيه البرلمان بمكون واحد على قرار الانسحاب، شكّل حالة تقسيم للعراق، وهي خطيرة جدا على كل مكونات الشعب العراقي، وعلى مستقبل دول جوار العراق، وهذا اليوم أعطى ذريعة لبعض المكونات ان تفكر بشكل آخر لجغرافيتهم، بسبب خطأ استراتيجي دفع به النواب الذين دخلوا قاعة البرلمان بمكون واحد ولون واحد” داعيا إلى ابعاد العراق عن ان يكون ساحة صراع بين الأطراف الإقليمية والدولية. ويرى الصالحي “ان النتائج ستكون سلبية في حال فرضت الإدارة الأمريكية عقوبات على العراق الذي ما زالت فيها الكثير من المشاكل الاقتصادية، وهذه ستؤثر على المجتمع كله”.
وفيما رفض رئيس تحالف القرار العراقي، اسامة النجيفي “ديكتاتورية الأغلبية التي يفرضها مكون واحد (شيعي) لرسم سياسة البلاد” مشددا على “أننا نسجل رفضنا لهذه القرارات ولسياسة الاملاء فلسنا تبعاً لأحد بل أسياد وطننا، ولا نقبل بغير مصلحة العراق وشعبه” فإن زعيم ائتلاف الوطنية اياد علاوي، اعتبر ان “تحديد مستقبل القوات الأجنبية ينبغي ان يُترك لبرلمان يمثل الإرادة الشعبية، وحكومة قوية تضع سلامة ومصلحة العراق وشعبه فوق كل اعتبار، مع إبعاده عن صراع النفوذ وحروب الوكالة”.
وفي الجانب الكردي، عبرت رئاسات إقليم كردستان الثلاث بعد اجتماعها مع الأطراف السياسية الكردستانية، عن”القلق من الخطوة أحادية الجانب التي اتخذت في مجلس النواب” ويعدها انتهاكاً لمبدأ العمل المشترك والدولة الاتحادية، وخطراً يهدد العملية السياسية والاستقرار في العراق، مطالبة “أن تتخذ الخطوات المستقبلية (التي تهم العراق) مع الأطراف العراقية بالتشاور مع الأطراف الكردستانية”. كما أكدت أن الإقليم “يدعم قوات التحالف الدولي في العراق وإقليم كردستان، لإدامة مواجهتها للإرهاب”.
وكانت الميليشيات والأحزاب الشيعية الموالية لإيران، قد أجبرت البرلمان، على اتخاذ قرار يلزم الحكومة بإخراج القوات الأمريكية من العراق، بحضور 168 نائبا شيعيا من أصل 329 نائبا، وبغياب النواب الكرد والسنة والمستقلين.
الخبير القانوني المعروف طارق حرب، أوضح ابعاد قرار البرلمان، مشيرا في لقاء تلفزيوني “كان المفروض في جلسة البرلمان أن يصدر قانون وهو أكثر الزاما من القرار الذي صدر، لأن إلغاء الاتفاقية التي صدرت بقانون يتطلب صدور قانون لإلغائه”.
وذكر حرب ان “هناك أمرين لم يوضحهما عبد المهدي للبرلمان، هما الاتفاقية الاستراتيجية بين العراق والولايات المتحدة عام 2008 والثاني هو الاتفاقية مع التحالف الدولي ضد داعش عام 2014 فإيهما يريد الغاءه أو تعديله؟ مبينا ان الاتفاقية الاستراتيجية ليست في مجال الأمن فقط بل تشمل الاقتصاد والتعليم وحماية الأموال وغسيل الأموال والتهريب ومكافحة المخدرات والصحة والثقافة والاسكان والصناعة والزراعة، وكلها التزامات من أمريكا لصالح العراق.
وأكد أن “إلغاء الاتفاقية من جانب أحد الطرفين يتطلب إشعار الطرف الآخر كتابة من قبل حكومة بكامل الصلاحيات، وتنفذ بعد سنة من التبليغ” مشددا على أن “من مصلحة العراق البقاء في هذه الاتفاقية، التي أودعت لدى الأمم المتحدة وأخذت طابعا دوليا، بمعنى حتى إذا صدر قانون من البرلمان فلا قيمة له أمام القانون الدولي” حسب قوله.
النتائج الكارثية للعقوبات الأمريكية
ومع التهديدات الأمريكية بفرض العقوبات على العراق إذا قرر إخراج القوات الأجنبية من البلد استجابة للضغوط الإيرانية، فإن تجربة العراقيين مع الحصار الظالم ونتائجه الكارثية على المجتمع العراقي عقب احتلال الكويت عام 1991 لم تترك مجالا أمامهم للتردد، بل تمسكوا برفض الزج ببلادهم في الصراع الإيراني الأمريكي الحالي، ورفض ضغوط وتهديدات القوى الشيعية وميليشياتها، بالوقوف إلى جانب إيران، ولو على حساب مصلحة العراق.
عضو اللجنة المالية النيابية، أحمد الحاج، أكد ان على الحكومة العراقية عدم تأزيم المشاكل مع أمريكا، من أجل إبعاد الشعب العراقي عن الحصار الاقتصادي. وقال الحاج في تغريدة على صفحته الشخصية في تويتر، ان “اجتماع اللجنة المالية الأخير كان مهماً جداً وناقش ما يجب على الحكومة اتخاذه من خطوات للابتعاد عن تأزيم المشاكل مع أمريكا، وابعاد الحصار الاقتصادي عن الشعب العراقي”.
وفي السياق ذاته، حفلت الندوات الصحافية ومواقع التواصل الاجتماعي، بانتقادات للمواقف السلبية المتناقضة لرئيس الوزراء المقال شعبيا عادل عبد المهدي، في التعامل مع الصراع الإيراني الأمريكي، وانحيازه الواضح لطهران، حيث استنكر اغتيال الجنرال الإيراني قاسم سليماني وطلب من البرلمان إصدار قرار بإخراج القوات الأجنبية، إلا انه سكت عن القصف الصاروخي الإيراني للقواعد الأمريكية في العراق وقصف الميليشيات المستمر للسفارة الأمريكية والمعسكرات، كما قدمت حكومته شكوى إلى مجلس الأمن الدولي عن اغتيال سليماني ولم تفعل الشيء نفسه مع القصف الإيراني لأراضيها.
وهكذا فإن الرفض الشعبي الجارف للأسلوب والهدف من وراء صدور قرار مجلس النواب الأحادي حول الاتفاقية مع الولايات المتحدة، عكس فشل عقلية النخبة الحاكمة في إدارة البلاد وعدم مراعاتها للمصلحة الوطنية، واستعدادها للتفريط بسيادة البلاد وزجها في الصراعات الدولية لإرضاء الآخرين. في وقت يبدو فيه ان الوساطات بين واشنطن وطهران توصلت إلى سيناريو يقتضي السماح بمواجهات محدودة، وذلك للتهدئة بين الطرفين واحتمال بدء المفاوضات بينهما لتقاسم الغنائم، التي سيكون العراق حتما أحدها.
مصطفى العبيدي
القدس العربي