اعتمدت الولايات المتحدة الأمريكية على مر تاريخها في توطيد نفوذها وهيمنتها غلى علاقاتها المتينة مع دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا؛وذلك لما تتمتع به تلك الدول من موقع استراتيجي وجيوسياسي مهم بالنسبة للمنافذ المائية والبرية، ومقدرات نفطية ومالية هائلة. وهذا ما يُفسَّر لنا كثرة النزاعات التي مرت بها المنطقة والتي كادت أن تكون الأطول عُمراً في التاريخ الحديث.
وعلى الرغم من أن سياسة توازن القوى التي تبنتها الولايات المتحدة قد أثمرت في كثير من الأحيان، إلا أنها أخفقت في أحيان أخرى، فمثلا، كانت استراتيجية الفوضى التي أدت إلى إسقاط النظام العراقي غير مُجديه ولم تصُب في صالح توازن القوى بين دول الشرق الأدنى. على العكس، أدى إسقاط نظام صدام حسين إلى انهيار المؤسستين العسكرية والأمنية، وفتح الباب أمام ظهور الجماعات الإرهابية المختلفة والتي كانت تتخفى في بداية الأمر تحت رداء المقاومة العراقية، حيث حظيت بدعم شعبي واسع، يرفض الاحتلال الأمريكي بكل صوره وأشكاله.
وبالحديث عن الهيمنة الإيرانية التي تواجهها المنطقة وما تمثله من تهديد على المصالح الأمريكية، يبدو أن الولايات المتحدة قد تعلمت الدرس من النموذج العراقي ولن تسعى هذه المرة إلى توظيف سياسة الفوضى مرة أخرى. وفى حين يعتبر خيار إسقاط النظام الإيراني من ضمن الخيارات المتاحة لدى الإدارة الامريكية وصُنّاع القرار هناك، إلاّ انه خيار بعيد المنال، وذلك بسبب حجم وعُمق الأذرع التي كوّنتها إيران على مدى عقود بمساندة غير منقطعة النظير من أجهزة مُخابرات بعض الدول العُظمى وتلقي الدعم الدائم، وكذلك إمكانيات النظام الإيراني “عسكرياً” لا يُستهان بها.
كان مقتل قاسم سليماني خطوة جريئة وغير متوقعة، لكن يبدو أن الولايات المتحدة قد تعلمت الدرس من النموذج العراقي، ففي ظل وجود مزيج من التهديدات والمحاولات الواضحة لتهدئة التصعيد، يبدو أن الولايات المتحدة تسعى لتجنب استراتيجية إثارة الفوضى كأداة لمواجهة النفوذ الإيراني. فالفوضى قد تُنذِر بإعادة ترتيب القوى العُظمى الفاعلة في المنطقة، وقد تكون هذهِ القوى هي الصين التي قد تلجأ إلى استخدام قواها الاقتصادية الناعمة وحتى الصلبة إذا تطلب الأمر.
لذلك يبدو أن الخيار الواقعي والناجع الذي يمكن أن تتبناه الولايات المتحدة حالياً هو إضعاف النظام الإيراني عن طريق ضرب اقتصاده. ويبدو أن الإعلان الأخير عن فرض عقوبات إضافية على إيران هو بمثابة عودة لهذا النموذج. ومن ثم، أثبتت سياسية الإدارة الامريكية الحالية التي عملت على تجفيف منابع العملات الصعبة التي يحصل عليها النظام الإيراني نجاحها، حيث استهدفت الولايات المتحدة النفط بشكل مباشر، وهو بلا شك – المصدر الرئيسي الذي يغذي خزينة طهران بما تحتاجه لتصنع تأثيرا ممتدا ومثيرا للجدل في المنطقة. وفي الوقت نفسه، أثرت العقوبات التي شملت قطاع الصلب والحديد والألومنيوم والنحاس وهو أكبر مصدر للربح من الصادرات غير النفطية لطهران.
كان لاستهداف الاقتصاد الإيراني تداعيات حقيقية على استراتيجية إيران الإقليمية الرامية إلى تعزيز نفوذها. فبدون توافر العملة الصعبة ستصبح إيران غير قادرة على تسديد فواتير حلفائها ودفع رواتبهم وصناعة دعاية إعلامية ذات دهاء تساهم في تثبيت أجندتها الإقليمية المناهضة لحلفاء أميركا في المنطقة.
ومع ذلك، إذا اختارت إيران الاستمرار في الانتقام من القوات الأمريكية في العراق أو في أي مكان آخر في المنطقة، فقد يدفع الولايات المتحدة لتغير سياستها الحالية. وعلى الرغم من أن النزاع بين الولايات المتحدة وإيران قد استقر منذ فترة طويلة على حدود معينة، إلا أن حادثة اقتحام السفارة الأمريكية في بغداد، وقبلها الهجوم على قاعدة “كي وان” في كركوك وقتل مدني أمريكي وإصابة خمسة آخرين، دفع الولايات المتحدة إلى التصعيد والقيام بقتل الجنرال الإيراني قاسم السليماني. وردًّا على ذلك، توعدت إيران بالانتقام لمقتل السليماني، وبالفعل قام الحرس الثوري الإيراني باستهداف قاعدة “عين الأسد” التي يتمركز فيها جنود أمريكيون بصواريخ. لكن من غير الواضح ما إذا كانت تلك الحادثة ستكون الأخيرة في سلسلة الهجمات التي قد تشنها إيران ضد الولايات المتحدة.
ومما لا شك فيه أن الرد الأمريكي القادم على الهجوم الإيراني الأخير على قاعدة ” عين الأسد” هو من سيحدد شكل وطبيعة المواجهة القادمة بين الولايات المتحدة وإيران في المنطقة. ومن ثم، فان عودة الولايات المتحدة عسكريا واقتصاديا وبقوة للمشهد العراقي يمثل ضرورة حتمية لمنع سقوط البلاد- إن لم تكن المنطقة برمتها- تحت النفوذ الإيراني. لقد حان الوقت أيضًا، لان تقوم الولايات المتحدة بمواجهة النفوذ الإيراني بشكل أكثر فعالية وذلك من خلال اتباع أساليب أخرى غير العقوبات، من بينها العمل على تقوية علاقاتها بشركائها الإقليميين للحد من النفوذ الإيراني دون الدخول في مواجهة مباشرة – خاصة في تلك البلدان التي يقاوم فيها المدنيين النفوذ الإيراني.
وفى هذا الصدد، يمكن أن تساهم الولايات المتحدة في حل الأزمة السورية من خلال تخليها عن سياسة إدارة الملفات الإقليمية بالوكالة والتي من شأنها أن تسمح لقوة أخرى مثل روسيا وإيران وتركيا بملاء الفراغ، ومن ثم، تهميش دور الولايات المتحدة في الشرق الأوسط وتهديد مصالحها. كما أن تلك السياسة قد تودي إلى تفاقم الأزمة إلى أبعد من الأُفق باتجاه الغرب من سورية حيث الجولان وما بعد حدودها. إن تجديد الولايات المتحدة التزامها بالاستمرار في مواجهة النفوذ الإيراني في سوريا يمكن أن يوفر للولايات المتحدة العديد من السبل للمشاركة في مستقبل سوريا، ويساهم في تأمين مصالحها بشكل أفضل هناك.
أدت التطورات الأخيرة في اليمن أيضًا إلى تعظيم الدور الأمريكي هناك، حيث عملت الولايات المتحدة بشكل كبير على ضمان محاصرة النفوذ الإيراني هناك دون الدخول في صراع مباشر. وفى هذا الإطار، يجب أن تعمل الولايات المتحدة جنبا إلى جبنا مع المملكة العربية السعودية والدول الخليجية الأخرى للوصول إلى تسوية للازمة اليمنية. وقد بدأت تلك الجهود بالفعل لكنها ستكون أكثر فاعلية في ظل مشارك أمريكية أكبر. وفى حالة الوصول إلى تسوية، يمكن أن يكون هناك جهد جماعي يساهم في تحييد النفوذ الإيراني في اليمن وإنشاء منطقة منزوعة السلاح على الحدود اليمنية –السعودية تحت مظلة الأمم المتحدة، وستكون هذهِ المنطقة بمثابة حزام أمني بين السعودية واليمن وستقلل إلى حد كبير المخاوف بشأن النفوذ الإيراني في الطرف الجنوبي لدول الخليج.
وفى حين تعمل الولايات المتحدة على دعم الاستقرار في اليمن وسوريا، بعد سنوات طويلة من الحروب والنزاعات، إلا أن هناك العديد من الفرص التي يمكن للولايات المتحدة من خلالها توثيق علاقاتها مع حلفائها الملتزمين بمجابهة التوسع الإيراني في المنطقة. لذلك، يجب أن تعمل الولايات المتحدة بالتعاون مع المملكة العربية السعودية، على تشديد العقوبات الاقتصادية المفروضة على إيران حتى يتحقق التوازن المنشود الذي يضمن أمن المنطقة ويحمى مصالح الولايات المتحدة على السواء. كما يجب على الرياض أن تُفعِّل كافة إمكانياتها المُخابراتية والتي لا تقتضي فقط على جمع المعلومات البدائية؛ إنما على تحليل وتفسير الواقع وما يدور في المنطقة لرسم استراتيجية بعيدة المدى.
أخيرا، إذا كانت هناك حاجة إلى تكتيكات جديدة ضد إيران تساهم في ضمان رؤية الولايات المتحدة لـ “توازن القوى” في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، فهناك العديد من الفرص الإقليمية المتاحة التي يمكن من خلالها مواجهة التوسع الإيراني بشكل مباشر دون استهداف إيران نفسها. ومن ثم، فان استمرارية مرونة العلاقات وفن التوازنات بين الولايات المتحدة وحُلفاؤها في المنطقة لن يتأتى إلا عن طريق قيام الولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة بإيجاد حلول سياسية جادة خاصة في الدول التي ينشط فيها وكلاء إيران مثل العراق، واليمن، وسوريا، ولبنان.
تواصيف مقبل
منتدى فكرة