منذ هجوم الميليشيات المؤيدة لإيران في العراق على مواقع أميركية مروراً بقصف قاعدة في كركوك والرد الأميركي المضاد والأعمال التخريبية ضد السفارة في بغداد ووصولاً إلى عملية قتل قاسم سليماني، ورد الفعل الإيراني الذي استهدف قاعدة عين الأسد في الأنبار. تفجرت أزمة داخلية إيرانية تجسدت بتظاهرات متعاظمة في طهران ومدن عدة أخرى، وانطلق المنتفضون إلى الشوارع بعد إسقاط صواريخ النظام الإيراني من طريق الخطأ طائرة الركاب الأوكرانية وقتل كل مَن فيها.
هذه التظاهرات توسعت لتطالب بتنحي مرشد الثورة علي خامنئي عن السلطة كمرحلة أولى عملياً في إسقاط النظام، وفي خضم المسيرات المعارضة التي توسعت في الساعات الماضية، صدر عن الرئيس الأميركي دونالد ترمب بشكل مفاجئ تغريدات عدة نصفها باللغة الفارسية تتحدث لأول مرة منذ بداية عهده عن وقوف إدارته مع المتظاهرين والشعب الإيراني ضد النظام حيث طالبه بعدم اعتراض المسيرات الشعبية، والسماح للهيئات غير الحكومية الدولية بمراقبة ما يجري داخل إيران. وأضاف في إحدى تغريداته كلمة “وإلا”، والسؤال اليوم ماذا عنى بهذه الكلمة؟
إن العارفين بالمطبخ السياسي للشؤون الخارجية في البيت الأبيض ووزارة الخارجية والدفاع، يعلمون أنه ومنذ أشهر لم تكن هناك خطط إستراتيجية جاهزة لما يجري في الداخل الإيراني، ومعظم ردود ترمب حيال أزمات المنطقة المرتبطة بالتحركات الإيرانية كانت ولا تزال ردود فعل بحتة، فأمام تمدد النظام الإيراني في دول عربية عدة ردت إدارة ترمب عام 2017 بالتوجه إلى الرياض بخطاب يدعو التحالف العربي إلى مقاومة طهران، وفي العام الذي تلى أي 2018، ردت الإدارة الأميركية على تحركات الإيرانيين المتطورة التي استهدفت حلفاءه العرب في اليمن والسعودية والخليج بالانسحاب من الاتفاق النووي، وتصنيف الحرس الثوري وكياناته على لائحة الإرهاب وصولاً إلى وضع أقسى العقوبات على معظم مسؤولي النظام.
مع الضربات الصاروخية الإيرانية في منطقة الخليج وإسقاط الطائرة المسيّرة الأميركية، رد البيت الأبيض عبر “البنتاغون” بنشر حاملة طائرات وقطع أخرى وإرسال المشاة إلى المنطقة، ومع تحركات ميليشيات “الحشد الشعبي” عززت القوات الأميركية قواعدها على الرغم من إعلان ترمب سابقاً سحب كل قواته من المنطقة، وبالتالي ما بين الإعلان الرسمي بالانسحاب من سوريا والمنطقة من جهة، ثم تعزيز الوجود العسكري من ناحية ثانية، أصبح البعض يعتقد بوجود تناقض بين المبدأ والفعل، إلا أن إستراتيجية ترمب مبينة على رد الفعل على أفعال الخصوم في المنطقة.
خطوط حمر
كل التحركات الميدانية الأميركية لم تخرق أي خط أحمر وضعته الإدارة لنفسها، وأهم تلك الخطوط “عدم التدخل في شؤون المستعمرات الإيرانية في اليمن والعراق ولبنان وسوريا”، على الرغم من تمدد الميليشيات الإيرانية كان رد الأميركيين يقتصر على الدفاع الذاتي من دون أن يتطور التحرك إلى التدخل في شؤون “جمهوريات المرشد الأعلى”، واستمرت هذه السياسة مع تفجر التظاهرات في لبنان والعراق وإيران. وعلى الرغم من تصريحات وزير الخارجية مايك بومبيو الداعمة لتحركات المجتمعات المدنية، إلا أن سيد البيت الأبيض لم يتخل عن عقيدة إدارته المبنية على الاكتفاء بالرد العسكري وعدم القيام بهجوم سياسي داخل إيران، ولكن هذا الأمر تغير بعد مقتل سليماني وإطلاق الصواريخ الإيرانية ثم تفجر التظاهرات الشعبية إثر سقوط الطائرة الأوكرانية فماذا يعني كلام ترمب الذي ورد في تغريداته لا سيما التي وضعت باللغة الفارسية.
أن يكتب ترمب أن “على النظام عدم قمع المتظاهرين وإلا”، يعني التزاماً بالدفاع عن هؤلاء المحتجين في إيران مع كل ما يترتب على ذلك عملياً، والسؤال ماذا يمكن للإدارة أن تقوم به في حال اعتدى النظام، وهو يعتدي على المتظاهرين أكثر مما فعله في الأشهر الماضية التي تتلخص بأقسى العقوبات والحشد العسكري والتنديد السياسي، وهل تعني أن الإدارة ستنتقل من الدفاع الحاسم إلى الهجوم المركز، وما هي السيناريوهات الممكنة، فهل تتخذ واشنطن إجراءات ميدانية وهل هذا ممكن منذ الآن وحتى الانتخابات الرئاسية الأميركية (نوفمبر/تشرين الثاني 2020) مع وجود معارضة داخلية شرسة لترمب، أم أن ذلك يعني أن واشنطن ستعمل على دعم المعارضة الإيرانية والسؤال الذي يُطرح هنا هو “أي معارضة ستكون أقوى؟ الداخلية أم الخارجية؟ والأهم، هل هناك خطة متكاملة حول كيفية دعم الانتفاضة الشعبية في إيران؟ ووصولاً إلى أي مرحلة؟ حكومة جديدة أم نظام جديد؟ وماذا بعد ذلك؟
نطرح الأسئلة وربما لا نملك الأجوبة لأنه وباعتقادي ليس تهناك خطة واضحة ومبرمجة بل دعم سياسي مبدأي وفتح الباب أمام أي عمل براغماتي تفرضه الظروف وهذا يأتي في سياق ما رأيناه حتى الآن، فمثلاً، القيادة الإيرانية اعتقدت عندما تواجهت مع ترمب في العراق بأنه لن يرد بسبب انهماكه وانشغاله بالانتخابات الرئاسية، وهذا كان خطأً إذ إن الرئيس الأميركي بإمكانه التحرك والرد وتقديم خطة جديدة إذا سمحت الظروف بذلك. وإذا طبقنا ما جرى في العراق على ما يمكن أن يجري داخل إيران، ففي حال قيّم ترمب الأوضاع المتفجرة في الداخل الإيراني ورأى أنه ضمن قدرته ومن مصلحة واشنطن دعم الانتفاضة من دون أن يؤثر ذلك في وضعه الداخلي، فقد يعطي الضوء الأخضر لهذا التحرك، وفي المرحلة الحالية لا يمكن الجزم بوجود هكذا خطة، ولكنها يمكن أن تصبح واقعاً مع تطور الأوضاع في إيران ما يعني أن ثبات المتظاهرين قد يفرض على إدارة ترمب الانتقال إلى مرحلة أخرى أو تبقى على ما هي عليه حتى الانتخابات وهذا ما سنراه في الأيام المقبلة.
وليد فارس
اندبنت العربية