طرأت على المشهد العراقي الداخلي في الآونة الأخيرة تطورات لافتة تحمل مخاطر كبيرة على أصعدة عديدة، سياسية وأمنية وحكومية وبرلمانية، وأخذت تسهم أكثر فأكثر في تعقيد حالة الاستعصاء الذي يعيشها البلد منذ اندلاع الانتفاضة الشعبية مطلع تشرين الأول/ أكتوبر من العام الماضي. كذلك فإن هذه التطورات تكتسب أبعاداً إقليمية ودولية لا تقل خطورة، بالنظر إلى ارتباط ملفات العراق بمشكلات ومصالح وأجندات خارج حدوده.
ولعل التطور الخطير الأحدث هو قرار مقتدى الصدر زعيم التيار الصدري سحب أنصاره من ساحات الاحتجاج والاعتصام عموماً، وفي مناطق الجنوب ذات الأغلبية السكانية الشيعية خصوصاً، متذرعاً بضرورة «إرجاع الثورة إلى مسارها ورونقها الأول»، ومتوعداً في المقابل «بمساندة القوات الأمنية البطلة» في تفريق المتظاهرين. وكأنّ هذا الموقف كان بمثابة ضوء أخضر للقوى الأمنية التي سارعت بالفعل إلى اتخاذ سلسلة من التدابير الجديدة المتشددة، في بغداد والبصرة والناصرية والنجف والكوت وذي قار، فاقتحمت التجمعات وأحرقت خيام المعتصمين واستخدمت الذخيرة الحية في حالات عديدة، مما أسفر عن قتلى وجرحى جدد أُضيفوا إلى أكثر من 30 سقطوا مؤخراً بين قتيل وجريح في أعقاب المصادمات مع القوى الأمنية على الطريق الدولي السريع غربي مدينة الناصرية.
أعداد القتلى تجاوزت الـ600 منذ انطلاق الاحتجاجات حسب مصادر الانتفاضة الشعبية، ولهذا فإن انسحاب الصدريين من ساحات الاعتصام يتلاقى مباشرة مع تعنت حفنة من ضباط الأمن المرتبطين بأحزاب طائفية ومذهبية لا تتعاطف مع مطالب الشعب بل تقف ضدها صراحة، مما يهدد المشهد بتدهور متسارع غير مسبوق ودموي الطابع ولا يسهل ضبطه. صحيح أن زخم الانتفاضة ما يزال عارماً وحاضراً بقوة في بغداد خصوصاً، وأن فئات الشباب والطلاب سارعت إلى ملء الفراغ الذي أحدثه تغيب أنصار التيار الصدري، إلا أن اقتران هذه العوامل كلها برغبة «الدولة العميقة» في إجهاض الانتفاضة بوسائل أشد عنفاً، إنما يضع العراق على حافة هاوية لا تحمد عقباها.
ولكي يتوفر دليل إضافي على أن «الدولة» في العراق ليست واحدة ولا هي تتمتع بصفة السلطة المركزية التي تمسك بأمن البلاد، تكررت للمرة الثانية واقعة استهداف السفارة الأمريكية في المنطقة الخضراء بصواريخ الكاتيوشا في وضح النهار، وتكرر معها اكتفاء حكومة تصريف الأعمال بإدانة الحادثة على المستوى اللفظي فقط. كذلك عادت إلى العراق أشباح سنوات خطف الأجانب مع اختفاء ثلاثة فرنسيين ومترجم عراقي رابع، في وضح النهار أيضاً وليس بعيداً عن محيط السفارة الفرنسية، وكأن السلطات الأمنية العراقية ليست ماهرة إلا في حرق خيام المتظاهرين وتفريقهم بالذخيرة الحية.
ولا تكتمل عناصر هذا المشهد المعقد إلا مع استمرار عجز الهيئات المعنية، البرلمان والرئاسة والأحزاب، عن تسمية شخصية تتولى تأليف حكومة جديدة تخلف عادل عبد المهدي، المسترخي في موقعه والمرتاح إلى ما يتمتع به من صلاحيات رغم استقالته. وأما قوى «الدولة العميقة» فإنها تتمتع من جانبها بنفس الاسترخاء والارتياح، فتحتكر السلطة وتمارسها من دون رقيب أو حسيب، وتكشر عن أنياب العنف في وجه الشعب متى شاءت.
كل هذه العناصر تؤشر على مآلات مترابطة ومتكاملة تدفع العراق نحو العواقب الأخطر في تاريخه المعاصر.
القدس العربي