المعركة الحقيقية في العراق ليست أزمة رواتب بل نهاية نموذج الدولة الريعية

المعركة الحقيقية في العراق ليست أزمة رواتب بل نهاية نموذج الدولة الريعية


الباحثة شذا خليل*
المعركة القادمة في العراق ليست مجرد صعقة مالية عابرة ولا أزمة رواتب قد تُحل بقرار استثنائي أو منحة مؤقتة. المعركة الأعمق التي لا يريد كثيرون الاعتراف بها هي معركة تغيير نموذج الاقتصاد نفسه: من دولة ريعية تُموِّل كل شيء تقريباً من النفط، إلى دولة منظِّمة وشريكة في اقتصاد إنتاجي متنوع يتحمل فيه المجتمع جزءاً من المسؤولية لا المستفيد فقط من الريع.
هذه ليست أزمة أرقام في موازنة، بل أزمة منظور وعقد اجتماعي وطريقة عيش كاملة اعتاد عليها العراقيون منذ عقود.

أولاً: من أزمات عابرة إلى نقطة تحوّل تاريخية
من السهل أن يتحدث البعض وكأن كل شيء مرتبط بسعر برميل النفط أو بتقلبات السوق العالمية، وكأن المشكلة تنتهي بمجرد ارتفاع الأسعار أو توقيع اتفاق سياسي جديد. لكن ما يجري أعمق من ذلك بكثير، لأن العراق يواجه في الوقت نفسه:
• اقتصاداً يعتمد بشكل شبه كامل على إيرادات النفط
• نمواً سكانياً متسارعاً يزيد الضغط على الوظائف والخدمات
• بنية تحتية منهكة وتعليم وصحة في حالة تراجع مزمن
• تهديداً متزايداً للأمن المائي والغذائي
• بيئة استثمارية طاردة وضعفاً في الثقة الداخلية والخارجية
كل هذه العناصر تعني أن الأزمة ليست مجرد عجز في الموازنة، بل هي وصول نموذج “الدولة الراعية لكل شيء” إلى حدوده القصوى.

ثانياً: ثلاث طبقات للأزمة… أعمق من الكلام عن “العجز المالي”
لإدراك حجم التحدي، يجب أن نقرأ الواقع عبر ثلاث طبقات مترابطة:
1. أزمة نموذج اقتصادي ريعي
o الدولة هي صاحب العمل الأكبر وربما الوحيد
o المواطن ينتظر الراتب، لا ينتج الثروة
o القطاع الخاص ضعيف، مرتبك، ومحاصر بالروتين والفساد
o لا توجد قاعدة إنتاجية حقيقية في الزراعة أو الصناعة أو التكنولوجيا
2. أزمة حوكمة وإدارة
o ضعف في التخطيط بعيد المدى واستبداله بسياسة “إطفاء الحرائق”
o نظام مؤسساتي متداخل بين المحاصصة، الفساد، وضعف المساءلة
o إنفاق عام ضخم، لكن مردوده التنموي ضعيف أو شبه معدوم
3. أزمة ثقافة اقتصادية مجتمعية
o انتظار دائم لحلول من “الدولة” مقابل غياب مبادرات إنتاجية واسعة
o ثقافة استهلاكية تفضّل الإنفاق الفوري على الاستثمار في المستقبل
o مقاومة اجتماعية لأي إصلاح يُفهم فوراً على أنه “انتقاص من الحقوق” ولو كان في الحقيقة حمايةً للحقوق على المدى الطويل
هذه الطبقات الثلاث تجعل الأزمة مستمرة ومركبة، لا تنفجر مرّة واحدة ثم تنتهي، بل تتسرب إلى كل تفاصيل الحياة: من المدرسة إلى المستشفى، ومن الوظيفة إلى الخدمات الأساسية.

ثالثاً: خياران ظاهرياً… لكنهما في الحقيقة طريقان لمستقبلين مختلفين
صانع القرار الاقتصادي أمام خيارين، لكن من زاوية أعمق هما طريقان لمستقبلين متناقضين:
1. طريق “إدارة الانهيار ببطء”
ويشمل سياسات مثل:
• توسيع التعيين الحكومي كلما زادت الضغوط الشعبية
• زيادة النفقات التشغيلية على حساب الاستثمار
• الاستدانة لسد العجز بدلاً من إصلاح جذوره
• اللجوء إلى الإصدار النقدي وتمويل العجز عبر التضخم غير المعلن
هذا الطريق يعطي إحساساً مؤقتاً بالاستقرار، لكنه في الحقيقة يعني:
• تآكل القوة الشرائية للمواطن
• تراجع قيمة العملة والثقة بها
• ضغطاً متزايداً على الأجيال القادمة التي ستدفع ثمن الديون والقرارات المؤجلة
• استمرار انهيار التعليم والصحة والبنية التحتية مهما توفرت “رواتب” على المدى القصير
بعبارة أخرى، هذا المسار يحافظ على شكل الدولة لكنه يفرغها من جوهرها: قدرة على تقديم خدمات محترمة وضمان الحد الأدنى من الكرامة للمواطن.
2. طريق “إعادة صياغة العقد الاقتصادي”
وهو الطريق الأصعب، لكنه الوحيد الذي يمنح العراق فرصة حقيقية لمستقبل مختلف، ويتطلب:
• إعادة هيكلة الإنفاق العام لصالح الاستثمار والبنية التحتية والخدمات الأساسية
• ترشيد الرواتب والدعم بطريقة عادلة تحمي الفئات الضعيفة بدلاً من دعم الجميع بغض النظر عن حاجتهم
• إطلاق إصلاح ضريبي حقيقي يربط بين الضريبة والخدمة، ويُشعر المواطن أنه شريك لا عبء
• تحرير وتنظيم القطاع الخاص بدل خنقه بالبيروقراطية والفساد
• بناء منظومة حماية اجتماعية ذكية تستهدف الفقراء والعاطلين عن العمل بشكل منظم ومدروس
هذا المسار سيكون مكروهاً عند كثيرين في البداية، لأن الإصلاح الحقيقي يعني:
• تغييراً في عادات الإنفاق
• مواجهة لمصالح متجذرة تستفيد من الفوضى
• صداماً مع شبكات فساد ترى في أي إصلاح تهديداً مباشراً لها
لكن ثمن الإصلاح اليوم، مهما كان مؤلماً، أقل بكثير من ثمن الانهيار غداً.

رابعاً: لماذا ترفض الأنظمة غالباً الإصلاح حتى اللحظة الأخيرة؟
إذا كان الإصلاح بهذه الأهمية، فلماذا تهرب منه الحكومات؟
لأن الإصلاح يعني:
• خسارة شعبية على المدى القصير
• مواجهة لوبيات وشبكات مصالح قوية
• ضرورة اتخاذ قرارات لا يمكن تجميلها إعلامياً بسهولة
لذلك غالباً ما تختار الحكومات:
• شراء الوقت عبر حلول “مخدّرة”
• استخدام الإعلام لخلق شعور زائف بالطمأنينة
• تخوين أو تسقيط كل من يحذر من الواقع بالأرقام والتحليل
لكن المشكلة أن الزمن في الاقتصاد لا يرحم: كل سنة تأجيل تزيد تكلفة الإصلاح وتعقيد الأزمة.

خامساً: دور المجتمع… ليس متفرجاً بل شريكاً
الزاوية الأكثر إهمالاً في الخطاب الاقتصادي العراقي هي دور المجتمع نفسه.
فلا يمكن بناء اقتصاد مستدام إذا:
• ظلّ المواطن يرى نفسه مستحقاً دائماً دون أن يسهم في الإنتاج
• ظلت ثقافة “الدولة تدفع عن الجميع” هي القاعدة
• ظلّ رواد الأعمال محاصرين بالبيروقراطية والابتزاز والمحسوبية
المعركة المقبلة ليست فقط معركة قرارات حكومية، بل أيضاً معركة:
• ترسيخ قيمة العمل والإنتاج على حساب الواسطة والريع
• دعم أصحاب المشروعات الصغيرة والمتوسطة بدلاً من قتلهم بالروتين
• مطالبة حقيقية بالشفافية والمساءلة، لا استسلاماً لخطاب “ماكو فائدة”
• إشراك الجامعات والخبرات العراقية في الداخل والخارج في صياغة الحلول

خاتمة: المعركة على نوعية المستقبل لا على توقيت الانهيار
السؤال لم يعد:
“هل ستحدث أزمة رواتب أم لا؟”
السؤال الأهم أصبح:
أي نوع من المستقبل نريد؟
• مستقبل يقوم على اقتصاد ريعي هش، يخضع لتقلبات النفط والقرارات السياسية قصيرة الأمد
• أم مستقبل يقوم على اقتصاد إنتاجي متنوع، تُوزع فيه المسؤولية بين الدولة والمجتمع، ويُحمى فيه الفقير، ويُكافأ فيه المنتج، ويُحاسب فيه الفاسد؟
المعركة القادمة ليست “حرباً اقتصادية” على المواطن، بل هي حرب على منطق التأجيل، والتخدير، والهروب من الحقيقة.
الإصلاح الحقيقي لا يبحث عن التصفيق اللحظي، بل عن استدامة حياة كريمة لجيل اليوم وجيل الغد.
ومن يرفض الإصلاح اليوم بحجة حماية “حقوقه”، قد يكتشف بعد سنوات أنه لم يحفظ حقاً، بل أضاع فرصة تاريخية لإنقاذ وطن كامل من انهيار بطيء لكنه مؤكّد.

وحدة الدراسات الاقتصادية / مكتب شمال امريكا
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية