التنافس المحتدم بين الولايات المتحدة والصين في شتى المجالات والاشتباك “الناعم” في أكثر من ملف نشطا الخيال البشري لتفسير كل حدث أو واقعة أو مستجد في البلدين بكونه “مؤامرة” تستهدف الطرف الآخر أو تدبيرا الغاية منه عرقلة الخصم في صراع الزعامة الكونية، وآخر ما أصبغ عليه نظرية المؤامرة هو فايروس كورونا الذي انتشر في المدن الصينية ما جعل الأجواء التي تنقل إلينا من داخلها أشبه ما تكون بأجواء أفلام الخيال العلمي، التي تروج عادة لهذه النظرية وتتحدث عن أخطاء علمية تتحول إلى أوبئة تصعب السيطرة عليها.
الأنفلونزا، أكثر من مجرد مرض يصيب الشعب التنفسية، فهي إلى جانب كونها القاتل رقم واحد للبشر، حتى بعيدا عن انتشارها على شكل وباء، تحمل تأثيرات اجتماعية واقتصادية عميقة، تطال الجوانب الثقافية والسياسية.
بعد أن برزت أولى علامات تأثر الأسواق بأنباء انتشار فايروس كورونا في قطاع الطاقة، كان طبيعيا أن تصدر صرخات ألم عن قطاع السياحة والطيران، محذرة من الدخول في دائرة الركود.
ومع نهاية الخميس 6 فبراير، ارتفع عدد الوفيات على مستوى الصين إلى 636 حالة، وارتفع إجمالي عدد المصابين بالفايروس فيها إلى 31 ألفا و161 حالة. وأكدت أكثر من 25 دولة وجود حالات إصابة على أراضيها.
وعلق آلاف الأشخاص على متن سفينتين سياحيتين في آسيا، فيما أظهرت الفحوص إصابة 20 شخصا بالفايروس على واحدة منهما.
ومع حظر عدد من الدول الرحلات الآتية من الصين، وتحذير الحكومات من السفر إلى هذا البلد، تفاقم الذعر في أنحاء العالم، فيما أوقفت شركات طيران رحلاتها إليها.
ويزداد عدد المدن الصينية التي تطلب من سكانها عدم الخروج من منازلهم. وعرض بعضها على الأهالي حوافز مالية للإبلاغ عن أشخاص يأتون من هوباي.
وفي بكين حيث يسود هدوء حذر في الشوارع فيما المتاجر مغلقة، حظر على المطاعم قبول حجوزات لحفلات. وفُرض على الصيادلة إرسال تقارير للسلطات حول كل من يقوم بشراء أدوية لعلاج الحرارة أو السعال.
وتم الحجر على العاملين في مصنع شركة “فوكسكون” العملاقة للتكنولوجيا والتي تصنع هواتف آيفون، في مقاطعة هينان، بحسب ما أعلنت عنه الشركة.
الأمر الوحيد المؤكد اليوم هو أن عامل الربح والخسارة هو السائد، حتى وإن أطل العامل الأخلاقي برأسه من حين لآخر.
ولم تنجُ عاصمة مكاو عاصمة القمار التي يقصدها أثرياء الصين من عاصفة كورونا، لتسارع نوادي القمار فيها إلى غلق أبوابها، مكبدة الشركات الست التي تدير نوادي القمار فيها خسائر تقدر بنحو 4.3 مليار دولار.
وانخفض حجم السياحة الوافدة من برّ الصين الرئيسي خلال عطلة رأس السنة القمرية بنسبة 80 في المئة، وكان ذلك قبل صدور قرار إغلاق نوادي القمار.
وفي صباح الجمعة 7 فبراير، توفي الطبيب الصيني لي وين ليانغ، الذي تحول إلى بطل في بلاده بعد أن أصدر تحذيرا مبكرا بشأن تفشي الفايروس الجديد.
وتسبب لي، وهو طبيب عيون يبلغ من العمر 33 عاما، في انطلاق موجة من الدعم عبر وسائل التواصل الاجتماعي. وكان لي قد بعث رسائل إلى زملائه لارتداء أقنعة وملابس واقية، بعد ملاحظته مرضى يعانون أعراضا شبيهة بالسارس.
وبعد أربعة أيّام، استُدعي مع ثمانية آخرين من قبل الشرطة لـ”ترويجهم شائعات”، وفقا لما نشره هو بنفسه على مواقع التواصل الاجتماعي من سريره في المستشفى بعد إصابته بالفايروس في منتصف يناير الماضي. وأجبرته السلطات على توقيع رسالة يعترف فيها باختلاق “تعليقات زائفة” أدّت إلى “زعزعة النظام الاجتماعي”.
وأعرب مستخدمو الإنترنت في الصين عن غضبهم الشديد من المسؤولين، بسبب إضاعتهم الوقت واستجابتهم البطيئة لانتشار الفايروس الذي تحوّل إلى أزمة صحّية عالميّة. وأقرّت المحكمة العليا في الصين أن المُبَلّغين عن الفايروس عومِلوا “بطريقة غير لائقة”.
وأثارت وفاة لي الحزن والغضب على وسائل التواصل الاجتماعي، حيث أشاد به مستخدمو الإنترنت باعتباره “شهيدا”. وكتب مستخدم يعمل جرّاحا “إنّه بطل ضحّى بحياته لتحذير الآخرين”.
وأصبح لي رمزا وطنيا لمحاولات الناس للحصول على إجابات بشأن الاستجابة الأولية للسلطات حول انتشار فايروس كورونا.
خيال علمي
الأجواء التي تنقل إلينا من داخل المدن الصينية باتت أشبه ما تكون بأجواء أفلام الخيال العلمي، التي تروج عادة لنظرية المؤامرة، وتتحدث عن أخطاء علمية تتحول إلى أوبئة تصعب السيطرة عليها.
في عام 2007 قدم المخرج الأميركي فرانسيس لورانس، فيلم “أنا أسطورة” عن قصة للكاتب ريتشارد ماتيسون، بطولة ويل سميث، يحكي الفيلم قصة خطأ وقع في أحد المختبرات الطبية أدى إلى نشوء فايروس معدٍ، وتحوّل إلى وباء محوّلا سكان المدينة إلى كائنات مشوهة مريضة، لم ينج منه سوى عالم فايروسات، يحاول أن يبقى على قيد الحياة مع كلبته التي تؤنسه في ظلامه الدامس، مصرا على اكتشاف مصل مضاد لإنقاذ البشرية.
نجاح الفيلم تجاريا شجع المخرج ستيفن سوديلبرغ، على تقديم فيلم “العدوى” بطولة مات ديمون، عام 2011. تدور أحداث الفيلم حول فايروس قاتل انتشر بمدينة شيكاغو، تشبه أعراضه أعراض الزكام، وانتقل منها إلى مدن أميركا والصين.
الجديد في الفيلم هو قيام بطلة الفيلم بمتابعة الوباء بدقة في مدونتها على الإنترنت، ورصد حقائق تآمرية مخفية حول نشأة المرض وانتشاره، على غرار ما نجده اليوم في العديد من المدونات الإلكترونية، التي تتابع تفاصيل انتشار الوباء في المدن الصينية.
أخطر تلك الأفلام كان للمخرج الإسباني خوان كارلوس فريسناديلو، وتم التصوير في بريطانيا، وهو فيلم “الغضب” وعرض عام 2007 أيضا، يتحوّل الناس فيه بتأثير العدوى إلى “زومبي” يهددون حياة الناجين، والمرعب في الفيلم هو الحل الذي لجأت إليه السلطات في النهاية، وقد تمثل في إبادة كاملة للمناطق التي انتشر فيها الفايروس. من حقنا أن نرتعب، فالعالم ما زال يتذكر، إلى جانب أفلام الخيال العلمي، الوباء الذي اجتاح أوروبا التي كانت قد خرجت لتوها من حرب عالمية أنهكتها عام 1918.
لم تكن أعداد الوفيات الهائلة التي أطاحت بالشباب قبل الكبار، الكارثة الوحيدة التي انجرّت عن الوباء، فقد استفاق العالم على حقيقة صادمة، بعد أن قضى الوباء على عائل الأسرة الوحيد، لتمتلئ المدن والأرياف بكبار السن، والأطفال اليتامى، الذين لا يجدون من يرعاهم. وكما اختار الوباء ضحاياه من بين الشباب، وغالبيتهم أيضا من الرجال.
أمراض عنصرية
يقال إن الأمراض لا تفرق بين فقير وغني، ولكن هذا ليس صحيحا؛ في عام 1918، فرق الوباء بينهما، لتكون احتمالات الوفاة أكثر ثلاثين مرة في آسيا وأفريقيا عنها في أوروبا.
الإحصائيات التي جاءت بعد سنوات من الكارثة عزت ذلك إلى عوامل اقتصادية واجتماعية؛ في العالم أجمع كان الفقراء والمهاجرون والأقليات العرقية أكثر عرضة للإصابة، فهم الأسوأ على صعيد التغذية، ويقيمون عادة في أماكن مكتظة، لا يجدون سبيلا للرعاية الصحية.
بحسب الإحصائيات التي أجريت آنذاك، أصاب الوباء 500 مليون إنسان حول العالم، وأدى إلى وفاة ما بين ما يقارب 50 مليون شخص، أي ما يعادل 5 في المئة من سكان العالم حينها.
لقد قتل الفايروس من البشر أكثر مما قتلت الحرب العالمية الأولى والثانية معا، وفي 24 أسبوعا قتل أكثر مما قتله الإيدز في 24 عاما، وفاقت أعداد ضحاياه عدد ضحايا الطاعون، الذي اجتاح أوروبا في العصور الوسطى.
ويقول خبير الأمراض المعدية ومؤلف كتاب “شبح الموت”، جيفري توبنبرغر، “إنه لمن المدهش حقا، ومن عجائب الحياة وغرائبها، أن تسبب فايروسات صغيرة، لا تكاد ترى حتى بالمجهر الضوئي، أمراضا وأوبئة تفتك بملايين البشر، وتشكل تهديدا وجوديا للحضارة الإنسانية، وتجعل الإنسان يقف أمامها حائرا مكتوف اليدين”.
أرقام مثل هذه أغرت في الماضي عشاق نظرية المؤامرة للحديث عن مخططات شيطانية لتطوير فايروسات، ومنها الإيدز لتستخدم ضد البشر، وتساعد الشركات الكبرى على تحقيق أرباح خيالية. الربط بين إنتاج لقاح يوقف انتشار الفايروس، والأرباح التي يمكن للشركات جنيها من ورائه، يزيد من شكوك أصحاب نظرية المؤامرة.
وكان لظهور الوباء في الصين أولا، دور منعش في تحفيز المخيلة، ففي إشارة ضمنية للحرب الاقتصادية بين البلدين، ومذكرا بأنفلونزا الطيور وجنون البقر، رأى مسؤول روسي أن كورونا هي استفزاز أميركي لبكين.
ووضع فلاديمير جيرينوفسكي، وهو زعيم الحزب الديمقراطي الليبرالي، الفايروس في سياق الحرب فالأميركيون يخشون حسب رأيه عدم القدرة على تجاوز الصين، أو على الأقل البقاء على قدم المساواة معها.
يصعب حسم الجدل حول نظرية المؤامرة، التي نمت في ظل مناخ العولمة الاقتصادية وتبادل المعلومات، ويستمر التراشق بالاتهامات بين الشركات من جهة، وبين منظمات المجتمع المدني والأحزاب السياسية من جهة أخرى، بدءا من استهلاك السكر واللحوم الحمراء، وانتهاء بالتغير المناخي.
ليبقى الأمر الوحيد المؤكد اليوم هو أن عامل الربح والخسارة هو السائد، حتى وإن أطل العامل الأخلاقي برأسه من حين لآخر.
العرب