كشفت احتجاجات منطقة تينزواتين القابعة على الحدود الجزائرية الهوة الهائلة بين الجيش والسكان المحليين، حيث تغافلت المؤسسة العسكرية المنهكمة في حماية الحدود من معضلتي الإرهاب والتهريب، عن الأوضاع الاجتماعية في منطقة صحراوية محرومة من الإنماء وتعاني من شحّ المياه، ما دفع السكان إلى الخروج عن صمتهم ومطالبة السلطات بالإنصات جديا لمطالبهم المعيشية البسيطة.
الجزائر – خرقت احتجاجات منطقة تينزواتين، على الحدود الجزائرية مع مالي والنيجر، جدار الصمت الذي يخيم على جنوب البلاد، وفي خضم تركز الأنظار والاهتمام على الوضع السياسي في العاصمة وشمال البلاد، حرك سكان المنطقة المذكورة رمال الصحراء، معلنين بذلك عن رسائل سياسية قوية قبل أن تكون مطالب اجتماعية أو اقتصادية.
وطرحت الحادثة التي راح ضحيتها الشاب “أيوب أغ أجي”، معادلة الأمن على الشريط الحدودي، والإستراتجية المطبقة لحد الآن في مجال تأمين الإقليم على حساب المصالح الاجتماعية للسكان، ما أربك علاقة العسكر بالمدنيين، خاصة وأن حالة اللاحرب واللاسلم القائمة على الحدود واليقظة المستمرة، هي عامل استنزاف للقدرات الذهنية والنفسية للعاملين هناك، كما أن مصدر الرزق وشروط الحياة يدفعان صاحبهما إلى أي سلوك.
عسكرة الحدود
يفضي تضارب الروايات والتعاليق المسجلة على شبكات التواصل الاجتماعي، إلى أن شرعية مطالب السكان في الحصول على مساحات الرعي، والحصول على الخدمات المختلفة، وخاصة التزود بالماء الصالح للشرب، تصطدم بالمنهجية العسكرية في اختيار التضاريس الملائمة لتنفيذ مخطط حماية الحدود، وهو ما يطرح بشدة مسألة التشاور الغائب بحسب ناشطين محليين ومنتخبين، بين السلط المدنية والعسكرية مع أعيان الأهالي، حول الحلول المرضية لجميع الأطراف.
وأمام اهتمام السلط المدنية والعسكرية، بالهاجس الأمني والجريمة المنظمة، الناشطة على الحدود، خاصة نشاط الجماعات الجهادية وشبكات التهريب، فإن ما يبقى أحد أبرز أسباب الانتفاضة الشعبية في تينزواتين، انتشار البطالة والفقر وحصر حياة السكان والرعاة في حيز جغرافي محدود، مما أعاق استمرار نشاطهم التجاري مع أسواق دول الجوار والرعي في المناطق الواقعة خلف الجدار الحدودي.
وفي الحد الفاصل بين الإرهاب والتهريب وبين النشاط التجاري والرعي، وقع تماس كهربائي وانفجر الغضب السكاني، منذرا بتكهرب العلاقة بين السكان والجيش، وهو ما حذر منه في وقت سابق الناشط السياسي المعارض ورئيس حزب الجزائر للعدالة والبناء عبدالرحمن الهاشمي هنانو، بذكره أن “عسكرة الحدود وحدها غير كافية لتحقيق الأمن، ولا بد من تكامل جهود السكان وقوات الجيش حول هدف واحد”.
وأكد على أن “مدننة الحدود بإنشاء عاصمة في عمق الصحراء، والنهوض بالحياة الاقتصادية والاجتماعية في الجنوب وخاصة على الشريط الحدودي، وتنظيم وهيكلة النشاط التجاري في المنطقة، هو الضامن الوحيد لاستقرار السكان، ولخلق حالة من التكامل في مهمة حماية الحدود”.
وتقاطعت مقاربة الناشط السياسي عبدالرحمن هنانو، أصيل منطقة الجنوب، مع مطالب رفعت في العديد من العرائض التي اطلعت عليها “العرب”، وجهها نواب برلمانيون وناشطون محليون للسلط المحلية والمركزية، حول ضرورة إرساء قواعد للتشاور بين المسؤولين الرسميين في الجيش وبين أعيان المنطقة في القرارات التي تهم السكان، وفتح أبواب تلك المؤسسات بما فيها الجيش لإدماج شباب المنطقة في صفوفه لحمايتهم من البطالة، ولمعرفتهم الواسعة بالخصائص الجغرافية والاجتماعية للمنطقة.
وذهب في هذا الشأن النائب الهمال البكاي، إلى القول بأن “الجيش وحده لا يستطيع حماية الحدود، في العشرية السوداء تغلّبت الجزائر على الإرهاب بمساندة من قوات الدفاع الذاتي، والآن يجب بناء روابط أخوية، وعلاقة ثقة بين الجيش وسكان الحدود لحمايتها من المخاطر الإرهابية”.
ويضيف “غالبا ما تغذت التنظيمات الإرهابية من الفقر أكثر من تغذيها من الأيديولوجيا، فشاب يبلغ من العمر 25 سنة يتكفّل بعائلة، ويأتي شخص ليمنحه 500 أو 1000 دولار، أو حتى 100 دولار، ويطلب منه أن يقتُل، أنا لا أبرر القتل والإرهاب، لكن ذلك الشاب سيقتل ليتخلص من جوعه”.
ويرى المتحدث بأن التهريب الذي يشهر لتبرير التجاوزات، هو ” ظاهرة موجودة في كل مكان، فهي موجودة في الجزائر العاصمة عن طريق الحاويات، كما توجد في الموانئ والبوابات الشمالية، كما هي موجودة في تمنراست، لكن هل كل سكان تمنراست مهرّبون؟”، ويتابع “هؤلاء المهربون يعرفهم الجميع، فليتم اعتقالهم ووضعهم في السجن.. من غير المعقول أن نتهم 14 ألف شخص بأنهم مهرّبون، وأزيد من ذلك فإن شبكات التهريب الحقيقية لا تمرّ من تينزواتين، بل تسلك دروبا أخرى”.
عقود من الإهمال
مع ذلك لا يستوجب التغافل أيضا عن تقصير السلط المحلية والمركزية في تنمية مناطق الجنوب، وعدم جدوى الأغلفة المالية الضخمة التي التهمها الفساد والنهب بعنوان تنمية المنطقة، حيث تبلغ تكلفة التنقل من المنطقة إلى مقر الولاية (تمنراست) على مسافة 450 كلم، التكلفة التي يدفعها المسافر من العاصمة إلى تمنراست على مسافة 2000 كلم، وذلك بسبب غياب النقل وغياب الطرقات.
ويذكر الباحث في شؤون الجنوب والساحل الصحراوي حسين هوام، أن “الشريط الحدودي يعيش ظروفا اجتماعية واقتصادية قاسية، لا يمكن تصورها إلا للذي عاينها”. وأردف ” لقد زرت العديد من المدن والبلدات في دول الصحراء، وأجزم أن تينزواتين هي أكبر بلدة تخلفا، مقارنة حتى مع بلدات في دول تعيش حروبا واضطرابات في المنطقة”.
وكشف في هذا الشأن النائب البكاي الهمال، وأحد الموقعين على عريضة “نواب الجنوب” التي رفعوها شهر مارس الماضي إلى رئيس الوزراء عبدالعزيز جراد، عن أن “تراكمات عقود الإهمال والإقصاء لتينزواتين حولتها إلى سجن مفتوح”، في إشارة إلى الجدار العازل الذي أقامه الجيش لحماية الحدود.
ولفت إلى أن تغييب السكان المحليين عن القرارات المحلية، فاقم حالة الغضب الاجتماعي، فرغم مساعي منتخبين وناشطين، من أجل الالتفات للوضع المأساوي، إلا أن سياسة التهميش تهدد بتفجير الوضع خاصة وأن الأمر بات يتعلق برزق وغذاء وماء الأهالي.
وطرحت الأحداث بقوة مسألة تعاطي السلطة مع التركيبة الاجتماعية لسكان المنطقة، فالعائلات المترامية في حدود البلدان الثلاثة (الجزائر، مالي، والنيجر)، باتت تصطدم بحدود مغلقة، وبإجراءات أمنية مشددة حدت من تنقل الأشخاص وتبادل المصالح بينهم، حيث لم تُدرَج هذه الوضعية في مخططات تأمين الحدود، مما خلق حالة من التمرد لدى السكان.
ويذكر في هذا الشأن الباحث حسين هوام، بأن “البطاقة المدنية غير متحكم فيها تماما في الشريط الحدودي الجنوبي، لاسيما في المناطق التي تتجاور أو تتوزع فيها العائلات على تراب الدول الثلاث، ويضطر ولي الصبي الجزائري الذي يولد في أراضي النيجر أو مالي، إلى استخراج وثائقه الإدارية من وزارة الخارجية في العاصمة، بدل أن يسجل في إدارة أحد البلدين”.
وخلقت طبيعة السكان المحليين الذين يعيشون على الرعي والترحال، وضعية اجتماعية يصعب التحكم فيها، وفيهم الكثير يعيشون دون وثائق ولا تعرف لهم جنسية، لأنهم يقضون حياتهم اليومية في مواقع القبيلة أو العائلة في البلدان الثلاثة المتجاورة، والإدارة هناك لم تتجاوب مع هذا الوضع، مما خلق حالة من “البدون” في الشريط الحدودي.
العرب