على مدى أربعة عقود من الحكم المضطرب اتّسمت الجمهورية الإسلامية بطول عمر لافت، على الرغم من التوقّعات المستمرّة بانهيارها الوشيك. بيد أنّ فشلها بالإجمال في تحقيق الوعود التي أطلقتها ثورة العام 1979، وأهمّها الديمقراطية والعدالة الاجتماعية، ما زال يطارد حاضرها ومستقبلها. ولم يتّسم تاريخ إيران في ما بعد الثورة بالركود السلطوي، بل بصراعٍ مستمرّ بين الدولة والمجتمع حول المسار الذي ينبغي على البلاد اتّخاذه. في الواقع، ومثلما بيّنت الحركة الخضراء في العام 2009 واحتجاجات العام 2017/2018، فإنّ كفاح الإيرانيين القديم ضدّ الطغيان ومن أجل الديمقراطية مستمرّ بلا هوادة.
وفي نوفمبر 2019، اندلعت احتجاجات جديدة في أرجاء إيران أجّجها الارتفاع المفاجئ لأسعار الوقود إلى ثلاثة أضعاف. وكانت هذه الاحتجاجات، من وجهة نظر تحليلية، استمراراً للاحتجاجات التي اندلعت في العام 2017/2018 والتي طالت البلاد بأسرها والتي تُعرف باسم “احتجاجات دَي” (الشهر العاشر). ومع أنّ احتجاجات نوفمبر أو آبان (بالإشارة إلى التقويم الإيراني للأشهر) مختلفة عن احتجاجات دَي في عدد من الطرق، اقترح بعض المحلّلين أنّ كلا الاحتجاجَين جزءٌ من نسخة إيرانية من “العملية الثورية الطويلة الأمد” الجارية في أرجاء العالم العربي منذ العام 2011.
وتهدف هذه الورقة، التي تمّ تأليفها مع تركيز على احتجاجات دَي، إلى تقديم تأطير سياقي مفيد للأحداث الأخيرة وتقترح قراءة الاحتجاجات الإيرانية الناشبة في السنتَين الماضيتين ضمن سياق ما أسمّيه “الأزمة الثلاثية” للجمهورية الإسلامية. وتقول هذه الورقة إنّه نظراً إلى أزمة إيران الثلاثية الحادّة، تبقى الحاجة إلى تغيير داخلي جوهري ملحّة. في الواقع، على مدى العقود الأربعة الماضية، برهنت الجمهورية الإسلامية، مع نظامها الثيوقراطي وشبه الجمهوري، على أنّها منيعة عن الإصلاح المُجدي، على الرغم من الضغوط المتعدّدة من القواعد الشعبيّة.
ويبحث القسم الأول من الورقة في الأسباب الاجتماعية الاقتصادية والسياسية لهذه الاحتجاجات الواسعة، مثلما بيّنتها الشعارات القوية المناهضة للنظام، عبر التركيز على مُسبّباتها المستجدّة. وينتقل القسم الثاني إلى العوامل الهيكلية ويتناول أزمة الجمهورية الإسلامية الثلاثية، الاجتماعية الاقتصادية والسياسية والبيئية، التي تشكّل تهديداً فعلياً لأمن النظام. وختاماً، تتطرّق الورقة إلى أكثر ما يخشاه النظام وتعيد زيارة الدروس التي ينبغي استقاؤها من الحركة الخضراء في العام 2009، ثمّ تسلّط الضوء على الحاجة إلى تحالفات متعدّدة الجوانب في إيران للوصول إلى تحوّل اجتماعي حقيقي.
وتقول الورقة إنّه ضمن الأزمة الثلاثية الاجتماعية الاقتصادية والسياسية والبيئية، تشكّل الأزمة السياسية مركز الثقل. فإن انحلّت الأزمة السياسية، من خلال إصلاح فعّال للنظام الحاكم، سيسهل حلّ الأزمتين الباقيتيَن، الاجتماعية الاقتصادية والبيئية، مع أنّه لا يمكن ضمان ذلك. وبالإجمال، آذنت هذه الأزمة الثلاثية، التي ستستمرّ على الأرجح لأنّ العوامل المسبّبة لها ستبقى على الأرجح، بعصر جديد في تاريخ الجمهورية الإسلامية يتّسم بالاضطراب وعدم الاستقرار المحتمل.
ولإحداث تحوّل حقيقي في إيران، من الضروري تشكيل تحالف متعدّد الأوجه. وسيحتاج تحالف كهذا إلى الجمع بين القواعد الاجتماعية والمطالب الأساسية للحركة الخضراء (الطبقة الوسطى، الداعية إلى التحرير السياسي) من جهة واحتجاجات دَي (الطبقات الدنيا، الداعية إلى العدالة الاجتماعية) من جهة أخرى. بهذه الطريقة سيشمل كلّ الحركات الاجتماعية المكوّنة لإيران الحديثة، بما في ذلك الحركات العمالية والطالبية والنسائية، ممّا يمكّنها من التآلف وطرح أجندة اجتماعية واقتصادية وسياسية بشكل جماعي. ولكي يتبلور تحالف كهذا، سيكون “إصلاح الحركة الإصلاحية” شرطاً مسبقاً مهماً، ممّا سيسمح عندئذ بمدّ اليد بشكل مبرمج وعملي إلى الطبقات الدنيا من أجل دمج شكاواهم ومصالحهم.
ونظراً إلى حجم أزمة أيران الثلاثيّة وغياب السياسات الفعّالة لمعالجتها، ما من مؤشّرات تدلّ على أنّ إيران ستتمكّن من حلّ أيّ منها. وفي الوقت الذي يجد فيه المجتمع الإيراني نفسه عالقاً بين حاضر متقلقل ومستقبل غامض، يمكن أن يتبلور عدد من السيناريوهات، من بينها جمهورية إسلامية معسكَرة، بقيادة الحرس الثوري بحكم الأمر الواقع. لكن حتّى سيناريو كهذا لن يحلّ أزمة إيران الثلاثية ولن يخنق رغبة الإيرانيين التي لا تُقهر في نيل العدالة الاجتماعية والحوكمة الجيّدة.
علي فتح الله نجاد
معهد بروكنز