اياد العناز
ملامح المشروع السياسي الإقليمي الإيراني تمثل في عملية التمدد والنفوذ والتوسع على مساحات عديدة في مناطق مهمة واقطار عربية لها عمقها السياسي ومكانتها التاريخية وأهميتها الاقتصادية وأسس لمنظمات وفصائل مسلحة وتنظيمات سياسية في ( العراق واليمن ولبنان وسوريا) ارتبطت بالقيادات العسكرية والأمنية لفيلق القدس والحرس الثوري الإيراني وأصبحت ضمن الأدوات والوسائل الفاعلة في تنفيذ الأهداف والغايات التي تخدم السياسة الإيرانية وتدعم مشروعها في الإقليم.
حققت إيران وعبر نفوذها وتسخير إمكانياتها الاستخبارية مبتغاها في الهيمنة على القرار السياسي لعواصم الأقطار العربية التي تواجدت فيها وأصبح لها القدرة على التحكم بمقدراتها بل المشاركة في تشكيل حكوماتها ودعم حلفائها وشركائها من قيادات الأحزاب المشاركين في العملية السياسية لتكون الأداة الفاعلة في الحفاظ على المصالح والمنافع والمكاسب الإيرانية، استطاعت من فرض ارادتها بحكم الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والأحداث السياسية والوقائع الميدانية التي طالت مواطني تلك الأقطار، ابتداءًا من غزو العراق واحتلاله من قبل الولايات المتحدة الأمريكية في التاسع من نيسان 2003 وعملية التخادم السياسي في الميدان العراقي الذي تم في عهد الرئيس أوباما وما تلاها من أحداث جسيمة طالت الأرض السورية في آذار 2011 تمثلت بصوت الشعب السوري ومطالبته بإسقاط النظام السوري، مما ساهم في عملية الدفع العسكري والسياسي لدعم نظام الأسد عبر تواجد العديد من المليشيات المسلحة والفصائل القتالية التابعة للحرس الثوري الإيراني من ( الفاطميين والزينبين) وبعض من المليشيات العراقية، ثم الدعم والمساندة المستمرة لتشكيلات وهيئات حزب الله في الجنوب اللبناني، وكان آخرها الأحداث التي مرت باليمن والدعم الكبير الذي قدمته إيران واجهزتها الاستخبارية ومؤسسات العسكرية في وصول الحوثيين للحكم وسيطرتهم على القرار السياسي اليمني.
إلا أن الوقائع الميدانية وما آلت إليه الأحداث في لبنان وسوريا في الربع الاخير من عام 2024 وسقوط النظام السوري وفرار رئيسه إلى روسيا وفقدانها لأهم مرتكزات عملها السياسي الذي كان تعتبره المربع الذهبي لها في المنطقة وقبلها الخسارة الأكبر في مقتل حسن نصر الله الأمين العام لحزب الله والقيادات السياسية والأمنية والعسكرية العاملة معه وضمن الهيكلية التنظيمية والقاعدة الجماهيرية للحزب في الجنوب اللبناني، إن إيران اعتبرت عبر هذه الأحداث المتوالية هي الخاسرة في مجمل الأوضاع الميدانية التي عاشتها المنطقة العربية وفقدت فيها الأسد الذي كان حليفًا تابعًا لها ومنفذًا لسياستها وداعمًا لمشروعها السياسي، وفقدت الاداة المؤثرة والقوة الفاعلة في القرار السياسي اللبناني، ثم كان ما حصل في فجر يوم الثالث عشر من حزيران 2025 بقيام إسرائيل بهجوم استباقي بالطائرات المقاتلة والصواريخ الباليستية داخل العمق الإيراني، استهدف فيه المنشآت النووية والمواقع العسكرية والمقرات الأمنية والدفاعات الجوية ومخازن الصواريخ الاستراتيجية ومقتل العديد من قيادات النظام السياسية والأمنية والعسكرية.
أصابت الضربات الإسرائيلية عصب الحياة الاقتصادية والمناحي العسكرية والدفاعية وفرضت عليها واقعًا ميدانيًا لم تستطع أن تتغلب عليه إلا بعد أيام عندما بدأت طائراتها المسيرة وصواريخها البالستية بعيدة المدى تصيب عدد من الأهداف الاقتصادية والمدنية في المدن الرئيسية بتل أبيب وحيفا والجليل الأعلى وصحراء النقب، وشعرت حينها إيران أن حلفائها الرئيسين وشركائها الأساسيين في روسيا والصين لم يكن موقفها بالصورة التي كان النظام الإيراني يتوقعها واللذين اكتفينا بالتنديد دون ابداء أي مساعدة عسكرية وأمنية، والحال كان عليه في الأذرع والشركاء من المليشيات والفصائل المسلحة ابتداءًا من حزب الله اللبناني المنهك وجماعة الحوثيين مرورًا بالمليشيات العراقية، وسجلت الوقائع حالة من الانعزال السياسي والدعم العسكري الذي لم تتلقاه إيران من أدواتها وحلفائها، في وقت عملت الإدارة الأمريكية على استبعاد عملية إسقاط النظام الإيراني بمنع عملية اغتيال المرشد الأعلى علي خامنئي في بداية الضربات الإسرائيلية التي طالت القيادات الإيرانية وكان الهدف الرئيسي هو القضاء على المشروع النووي الإيراني وتعطيله وابعاده عن العمل، والذي تحقق عبر العملية الجوية الأمريكية التي جاءت بتوجيه من الرئيس دونالد ترامب والتي دمرت معظم النشاط النووي الإيراني وصاحبها عملية استهداف لمقرات الباسيج والحرس الثوري لاحداث خلل وشرخ كبير في المنظومة الأمنية والاستقرار السياسي داخل إيران، عبر استخدام القاعدة الأمنية القائمة على أن ( الخطر لا يُدار بل يُزال ) عبر وسائل دفاعية وهجومية، وهو ما حاولت إسرائيل أن تفعله بتأييد من الإدارة الأميركية ولكن الأحداث المتوالية والوقائع التي أصابت العمق الإسرائيلي وتغيير اتجاه واشنطن نحو اعتماد الخطط الفاعلة لإنهاء النظام دون التعرض لحياة المرشد الأعلى وما تلاها من نتائج احدثتها الضربة الأمريكية للمنشآت النووية الإيرانية في ( أصفهان وفوردو ونطنز) قررت الأطراف الثلاثة ( واشنطن وتل أبيب وطهران) وقف القتال والاتجاه نحو الحوار الدبلوماسي والخطاب السياسي والعودة للمفاوضات الأمريكية الإيرانية التي رفضتها القيادة الإيرانية بل صعدت من لهجتها الدعائية ضد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وادارته عبر الرسالة التي وجهها المرشد الأعلى علي خامنئي الشعوب الإيرانية.
رأت الولايات المتحدة الأمريكية أن النزاع العسكري بين إسرائيل وإيران قد انهكهما واستنفذ إمكانياتهما ولابد من نزع فتيل المواجهة المباشرة وتهدئة الأوضاع في الميدان واعتماد سياسة ( الهدوء مقابل الهدوء) ومنع أي حالة من الاستعداد لمواجهة وعملية عسكرية مماثلة قادمة للوصول إلى حالة من الأمل والاستقرار في منطقة الشرق الأوسط والوطن العربي وإعادة الحياة لمنطقة مهمة تعنى بالمصالح والمنافع العليا لبلدان العالم، بعد أن عجزت إسرائيل عن تحقيق هدفها الاستراتيجي في الحسم العسكري رغم التفوق الجوي والتقني والسيطرة التامة على المجال الجوي الإيراني، ورغم جميع الخطابات السياسية والشعبوية والتصريحات الاعلامية للمسؤولين الإيرانيين إلا أن النظام بدأ ضعيفًا ومخترقًا من الناحية الأمنية والاستخبارية عبر القواعد والشبكات التجسسية التي زرعتها إسرائيل داخل الأراضي الإيرانية وبمعدات وأدوات فعالة، وبدأ النظام وكأنه يقود الوضع بتحالفات ضعيفة وقدرات محدودة ويبحث عن استعادة مكانته وتأثيره السياسي الإقليمي.
وأخذت الخطوات الإيرانية مسارًا بعيدًا
عن طبيعة العلاقات الدولية والإقليمية وخاصة عندما قامت بتوجيه صواريخها الباليستية نحو العاصمة القطرية ( الدوحة) في استهداف قالت عنه أنه موجه نحو القاعدة الجوية الأمريكية في العديد، وهو ما اعتبر من الأخطاء الاستراتيجية في العلاقات العربية الإيرانية كون دولة قطر وحكومتها ترتبط بعلاقات وثيقة ومتينة مع إيران وهي التي سعت وعملت على عدم استهدافها بعقد المفاوضات الأمريكية الإيرانية في جولاتها الخامسة التي عقدت في العاصمة العُمانية (مسقط) وتوقفت بسبب الضربات الإسرائيلية في 13 حزيران 2025، ثم قيام مجلس الشورى الإيراني بإصدار قرار بإغلاق مضيق هرمز الشريان البحري والتجاري الذي تمر خلاله 20٪ من ناقلات النفط العالمية، وكان أخرها القانون الذي اعتمده أعضاء مجلس الشورى بعدم السماح للوكالة الدولية للطاقة الذرية ومفتشيها بدخول الأراضي الإيرانية والاطلاع على منشأتها النووية ونشاطتها التقنية والعلمية المتعلقة بالبرنامج النووي، واتهام رئيس الوكالة رافائيل غروسي واعضائها بالتجسس لصالح جهات دولية وذهب البعض بالقاء القبض عليهم واحالتهم للمحاكم الإيرانية وإنزال عقوبة الإعدام بحقهم، مما آثار حفيظة الدول الأوربية والولايات المتحدة الأمريكية ورفضهم للإجراءات الإيرانية ودعوتهم بالسماح لفرق التفتيش التابعة للوكالة الدولية للطاقة الذرية لتنفيذ واجباتهم.
جاءت ملامح السلوك السياسي الإيراني بعد وقف إطلاق النار بما لا يتلائم واهداف إدارة الرئيس دونالد ترامب، بعد قول المرشد الأعلى أن إيران ( وجهت صفعة قوية إلى أميركا) وأن ( قدرتها على الوصول إلى قواعد أمريكا الرئيسية في المنطقة متى أرادت، لحدث عظيم)، وهو ما أدى إلى موقف مغاير لما أعلنه الرئيس الأمريكي عن معاودة الجولة السادسة للمفاوضات، وبدأ بتدوينة انتقد رسالة خامنئي وشدد من موقف واشنطن من إيران واستمرار العقوبات الاقتصادية وأشار إلى عدم مصداقية خامنئي في حديثه عن نتائج الضربات بين إسرائيل وإيران، وأنه غير مهتم بالتوصل إلى اتفاق مع إيران وأنه لم يسمح لإسرائيل أو القوات الأميركية بالقضاء عليه.
وأصبحت المواقف السياسية في عموم الولايات المتحدة الأمريكية تتجه نحو رفض أي تطوير لبرنامج الصواريخ الباليستية والطائرات المسيرة ووقف التمدد والنفوذ للمشروع الإيراني الإقليمي مع مواجهة أي محاولة لاستعادة البرنامج النووي الإيراني لعافيته وإمكانية استعادة نشاطه، في ضوء تصريحات المسؤولين الإيرانيين التي تشير إلى أن الضربات الجوية الأمريكية لم تلحق اضرارًا جسيمة في المنشآت النووية وأن طهران سوف لا تتخلى عن هدفها في تخصيب اليورانيوم، في وقت تدرك إيران أنها خسرت قوتها الإقليمية ولم تعد قادرة على توجيه فصائلها ومليشياتها بما يخدم توجهاتها وأهدافها، ومع أنها حققت مبدأ الثبات وبقاء نظامها السياسي إلا أن سمائها أصبحت مكشوفة أمام القوة الجوية الإسرائيلية، في حين لم تتمكن تل أبيب من صد العديد من الصواريخ الباليستية الإيرانية وتعزز الرؤية العسكرية في ضعف القبة الحديدة ودورها الحصين في الحفاظ على العمق الإسرائيلي.
في جميع الحالات لم تستطع كل من إسرائيل وإيران أن تحقق غايتها في تحقيق الأمن الكامل وفقد كل منهما القدرة على التعايش مع التهديد وبدأت المواجهة أكثر حظورًا وتأثيرًا في الميدان .
وحدة الدراسات الإيرانية
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجة