في الأول من سبتمبر/ أيلول من عام 1920، وقف المندوب السامي الفرنسي، الجنرال هنري غورو، على درج قصر الصنوبر في بيروت، وحوله عدد من المسؤولين اللبنانيين، ليعلن قيام “دولة لبنان الكبير”. بعد مائة عام على هذه الواقعة التاريخية، وقف الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، في المكان نفسه، ليعلن ضمناً أن هذه الدولة لم تعد قابلة للحياة، وأن تغييراً جذرياً لا بد منه لإعطاء هذا الكيان الهش فرصة أخرى، ولو ضئيلة.
الانفجار الكارثي الذي هزّ بيروت، ودمّر أجزاء كبيرة من المدينة، كان الإشارة النهائية إلى أن هذه التسمية، أي “الدولة”، لم تعد صالحة للاستخدام في بلد مثل لبنان. الأمر الذي سمح للرئيس الفرنسي بتقمّص دور المندوب السامي، واستدعاء كل القوى السياسية إلى قصر الصنوبر (مقرّ السفارة الفرنسية في بيروت)، لتقريعها وطرح فكرة العقد اللبناني الجديد، والذي لا يزال غير واضح. لكن بغض النظر عمّا يحويه المقترح الفرنسي من تفاصيل، إلا أنه يعطي انطباعاً مباشراً بأن لبنان لم يعد مخوّلاً حكم نفسه، وأن تدخلاً خارجياً لإعادة تشكيل “الدولة” بات أمراً ملحّاً.
الملفت في تصرّف ماكرون ومبادرته هو تسليم الأطراف السياسية كافة في البلد بها، وهي التي أوصلت هذه “الدولة” إلى حافة الانهيار. هذا ليس إقراراً من هذه القوى بالذنب، ولا قبولاً ضمنياً بالمسؤولية عما آلت إليه الأمور في لبنان، بقدر ما ترى في المبادرة فرصة إنقاذ لها شخصياً، وإنعاشاً لدورها في السلطة، أو ما بقي منها، وخصوصاً مع ما تمثله المبادرة من كسر للحصار المفروض على لبنان منذ أشهر، والذي أوصل البلد إلى هذه الأزمة الاقتصادية الخانقة. هذا ما أوحى به مباشرة الرئيس اللبناني، ميشال عون، والذي اعترف أخيراً بأن لبنان تحت الحصار، رغم النفي السابق المتواصل. والأنكى أنه رأى في الكارثة ومئات القتلى والجرحى فرصة لإعادة الانفتاح العالمي على لبنان.
غير أن هذه الرؤية تحمل الكثير من القصور السياسي، سواء من عون أو كل القوى السياسية التي تسعى كالطفيليات للحياة على جدران الأزمة، فالقراءة المتأنّية لكل التصريحات الدولية، والتي يراها المسؤولون اللبنانيون كسراً للحصار، تؤكّد عدم الثقة بهذه السلطة، وبالتالي بالوجود الفعلي للدولة وهياكلها، وهو ما لم تقرأه السلطة الحاكمة، فالحديث عن المساعدات التي أعلن عن تقديمها، ومن المرتقب أن تعلن عنها الدول المانحة اليوم، لن تسلَّم مباشرة إلى مؤسسات ما يسمّى “الدولة”، بل الحديث هو عن إيصالها مباشرة إلى الشعب اللبناني. آلية إيصال هذه المساعدات إلى الشعب، والتي يحتاج إليها اللبنانيون بشكل عاجل، هي ما يمكن أن تكون “مربط الفرس” في سقوط “الدولة اللبنانية”، فهذه المساعدات، وإذا كانت لن تسلم إلى السلطة، فلا بدّ من لجنة دولية تكون مهمتها الإشراف عليها وعلى طريقة توزيعها، ما يعني ضمناً وضع لبنان تحت الوصاية الدولية، وهو ما يمكن أن يضاف إلى ما أعلنه ماكرون، والمهلة التي منحها للسياسيين لتشكيل عقد جديد للبلد.
تؤكد كل هذه المعطيات والمؤشرات أن وجود “الدولة اللبنانية” بالنسبة إلى المجتمع الدولي بات محل شك. والانفجار الكارثي الذي دمّر بيروت قبل أيام لم يكن إلا المسمار الأخير في نعش هذه “الدولة”، إذ سبقته معطياتٌ كثيرة تؤكد أن هذه الدولة ليست إلا “مزرعة” كل طرف فيها يتصرف على هواه، وضمن نطاق استزلامه الخارجي ومصالحه الشخصية.
مائة عام لم تكن كافية بالنسبة إلى المسؤولين اللبنانيين لبناء دولة، فخلالها دخل البلد في محاور وحروب أورثته طبقات سياسية تحيا على الصراعات الطائفية التي لا يمكن أن تبني دولة، وهو ما وضع هذه “الدولة” اليوم على طريق النهاية.
حسام كنفاني
العربي الجديد