استيقظ العالم اليوم الأحد على وقع تصعيد عسكري عنيف جديد بين أرمينيا وأذربيجان، وسط اتهامات متبادلة من الجانبين. ودعت الخارجية الروسية أرمينيا وأذربيجان إلى وقف فوري لإطلاق النار، وبدء مفاوضات مباشرة لتخفيف التصعيد، بينما أدان الناطق الرسمي باسم الرئاسة التركية إبراهيم كالين، ما وصفه بالاعتداء الأرمني الأخير على أذربيجان، وعبر عن تأييد أنقرة لباكو في ظل هذه الظروف.
أنهى اتفاق لوقف إطلاق النار عام 1994، حرباً بدأت في 1988، بين أرمينيا وأذربيجان على إقليم ناغورني قره باغ، بعد انتصار الطرف الأرميني، إلا أنه لم يتم التوصل إلى اتفاق سلام إلى اليوم بين البلدين.
ويتعرض وقف إطلاق النار باستمرار للخرق، على الرغم من المفاوضات التي جرت تحت إشراف “مجموعة مينسك” التابعة لمنظمة الأمن والتعاون في أوروبا (روسيا والولايات المتحدة وفرنسا)، فإن باكو ويريفان، لم تتوصلا إلى اتفاق حول الوضع الذي ستكون عليه منطقة ناغورني قره باغ.
ويقدر عدد سكان ناغورني قره باغ بـ 145 ألف نسمة، ويقع الإقليم غرب العاصمة الأذرية باكو بنحو 270 كلم، وتبلغ مساحته نحو 4800 كيلو متر مربع، وقامت هذه الدولة (التي لم يعترف بها أحد) خلال حرب قاسية امتدت أكثر من أربع سنوات بين أذربيحان وأرمينيا، أدت إلى سقوط أكثر من 30 ألف قتيل، ونزوح مئات الآلاف غالبيتهم من الأذر، وسيطرة الأرمن الذين يشكلون غالبية في الإقليم على أراضيه، إضافة إلى ستة أقاليم أذرية أخرى.
شهد إقليم ناغورني قره باغ أول نزاع بين الجماعات الإثنية في الاتحاد السوفياتي السابق، وأدى الصراع بين أرمينيا وأذربيجان على هذه المنطقة إلى تهجير نحو 300 ألف أرميني، و600 ألف أذري من المنطقة، ما دفع البعض إلى وصف النزاع بالعرقي.
ويقترب باستمرار البلدان من حافة الحرب الشاملة، لكن سرعان ما يتدخل الوسطاء ويخف التوتر، وينزع فتيل انفجار حرب قد تتحول إلى نزاع إقليمي، وربما دولي.
كانت الأنظار دوماً تتجه نحو العلاقات الروسية – الغربية، في كل مرة يشتعل فيها التوتر في القوقاز، واستمرت تلك الحال، إلى حين اندلاع الحروب السورية بعد عام 2011، وانتهاج إدارة أوباما سياسة تتعارض مع مصالح إحدى دول الناتو، فقد كانت قبلها تركيا رأس حربة للمصالح الغربية في مواجهة المعسكر الآخر في المنطقة، بعدها بات التركيز بشكل محدد أكثر على علاقات موسكو وأنقرة لما لها من تعقيدات، وارتباط كل منهما بطرفي النزاع في جنوب القوقاز أذربيجان وأرمينيا.
صحيح أن تركيا تبقى جزءاً من المنظومة الغربية، إلا أن حالة التوافق (بعد مواجهات مباشرة و بالوكالة ومساومات)، التي ظهرت أخيراً بين أنقرة وموسكو في سوريا (وجارٍ محاولات تكرارها في ليبيا) أزعجت أكثر من طرف غربي، وليس سراً اليوم أن أي خلاف بين موسكو وأنقرة هو لمصلحة الغرب.
روسيا بحاجة إلى أرمينيا حليفاً تقليدياً، إضافة إلى أنها تدخل مع موسكو في منظمة الأمن الجماعي، وتحالفات اقتصادية إقليمية أخرى، وفي ظل النزاع الجورجي – الروسي، موسكو تحتاج أيضاً إلى أذربيجان بلداً يحتل موقعاً جغرافياً سياسياً مهماً.
في المقابل، ترتبط موسكو وباكو في عديد من مجالات التعاون المشتركة، من الأمن والطاقة عبر الحدود إلى استغلال موارد بحر قزوين ومشروعات النقل، ولا يرغب الكرملين في تحويل أذربيجان أو أرمينيا إلى جورجيا أو أوكرانيا ثانية، بالتالي لن تقوم موسكو بدفع باكو إلى المواجهة بأيديها، وبذلك تعطي الفرصة للقوى الخارجية من أجل إخراج روسيا من المنطقة.
تعي موسكو أن يريفان بحاجة إلى روسيا، أكثر من حاجة روسيا إلى أرمينيا، لكن فقدانها يعني فقدان حديقة من حدائقها الخلفية في الفناء السوفياتي السابق، وهو ما قد يؤثر على المدى البعيد في نفوذها وقدرتها على المناورة، وفرض رأيها كقوة دولية في الساحة العالمية عموماً، والسوفياتية السابقة خصوصاً.
في الواقع نجد، روسيا تتحالف مع أرمينيا، وتوجد حالة شراكة مع أذربيجان، وتلعب دور وسيط (مقبول من الجانبين) في تسوية النزاع الأرمني الأذربيجاني، حيث لا توجد أي حالة عداء لدى الآذريين تجاه موسكو، على الرغم من اعتماد يريفان بشكل شبه كامل على روسيا عسكرياً، تزود موسكو أرمينيا بـ 94 في المئة من وارداتها من السلاح، بينها مقاتلات من طراز سوخوي-30، إضافة لاستضافة الأراضي الأرمنية، قواعد عسكرية روسية، كما تزود موسكو أذربيجان أيضاً بـ 31 في المئة من وارداتها من السلاح.
تعلن أنقرة موقفها بوضوح، وقوفها الكامل إلى جانب “شقيقتها” أذربيجان، لاستعادة “أراضيها المحتلة”، حيث تشهد الجمهوريتان أذربيجان وأرمينيا، نزاعاً منذ القرن الماضي حول إقليم “ناغورني قره باغ” وهو جيب أذربيجاني، تقطنه غالبية أرمينية. وفي عام 1993 وبعد خمس سنوات من الحرب، سيطر الأرمن على “منطقة آمنة” داخل اراضي أذربيجان تقع بين ناغورني قره باغ وأرمينيا تبلغ مساحتها نحو 8 آلاف كيلومتر مربع، أي نحو 20 في المئة من مساحة أذربيجان.
لا يقتصر التعاون بين أنقرة وباكو على المجالات العسكرية أو التجارية والاقتصادية، فهو يشمل التعاون الثنائي في قطاعي الطاقة والتعدين، وفي العام 2019، تم الانتهاء من بناء خط أنابيب الغاز العابر للأناضول، ما سمح لأذربيجان تعزيز موقعها بشكل كبير في سوق الغاز التركي، وفي نهاية النصف الأول من عام 2020، احتلت باكو المرتبة الأولى في توريد “الوقود الأزرق” لتركيا (حوالي 5.5 مليار متر مكعب)، بزيادة قدرها 23.4 في المئة مقارنة مع الفترة ذاتها من العام الماضي.
ويرتبط في الآونة الاخيرة، نقاش الوجود العسكري التركي في أذربيجان مع برودة أو دفء العلاقات بين موسكو و أنقرة، لا سيما في كل مرة يعود فيها النزاع الأرمني الأذربيجاني للاشتعال، وتتداول الأوساط السياسية والإعلامية في الدول السوفياتية السابقة على الدوام مسألة إقامة قاعدة عسكرية تركية على أراضي أذربيجان في جنوب القوقاز.
تعد روسيا المنافس الأكبر لتركيا في المنطقة، إذا أخذنا في الاعتبار عضوية تركيا في الناتو، فإن إنشاء قاعدة عسكرية تركية في أذربيجان لضمان التوازن العسكري والسياسي، وخلق ثقل موازن للقاعدة العسكرية الروسية في أرمينيا، وفي حال إقامة قاعدة عسكرية تركية لا يمكن ألا تؤدي إلى تعقيد العلاقات الروسية الأذربيجانية، وتصبح أيضاً مصدراً لقلق إيران.
يحدد شكل التعاون الدفاعي الثنائي بين تركيا وأذربيجان إطاران قانونيان، الأول، الذي أُنشئ في أوائل التسعينيات، يمكن التدريب العسكري لأفراد أذربيجانيين في المؤسسات العسكرية التركية، والإطار الثاني، هو اتفاق “الشراكة الإستراتيجية” الذي ينص صراحة على أن البلدين سيساعدان بعضهما بعضاً إذا طالب أحدهما بحقه في الدفاع عن النفس بموجب المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة، وعلى الرغم من أن طبيعة هذه “المساعدة” خاضعة لمشاورات ثنائية، إلا أن الاتفاق يؤكد بوضوح إمكانية استخدام الوسائل العسكرية في الظروف الطارئة.
وبحسب وسائل إعلام أذربيجانية، تم إعداد وثائق مهمة للغاية بين أذربيجان وتركيا، قبل أسابيع عدة خلال زيارات متبادلة بين وفود رفيعة المستوى إلى باكو وأنقرة، حيث ناقش الجانبان قضايا إنشاء قاعدة عسكرية تركية في ناخشيفان ولاحقاً في أبشيرون بأذربيجان.
يخشى الأرمن من هذا السيناريو، على ضوء التعاون الوثيق الذي يجمع أرمينيا وإيران، فعلاقات طهران بيريفان تعد أقوى من تلك التي تربطها بكثير من الدول الإسلامية المجاورة، وهناك قلق لدى أرمينيا من احتمال مشاركة تركيا في عملية التفاوض حول إقليم ناغورني قره باغ.
وكان لافتاً التقرير الذي نشره نادي فالداي الروسي “Valdai Discussion Club” المعروف بقربه من صناع القرار في موسكو عن تعزيز تركيا التعاون السياسي والاقتصادي والعسكري مع أذربيجان ودول آسيا الوسطى، مرجحاً هدف أنقرة من ذلك مساومة موسكو بعد فترة من تداول لعناوين مثل مواجهة “جبهة” جديدة بين موسكو وأنقرة ساحتها القوقاز في وسائل الإعلام الأجنبية، مع كل مرة تندلع فيها أي شرارة توتر في المنطقة.
باسم الحاج جاسم
اندبندت عربي