خلفية تاريخية
خضع إقليم ناغورنو كاراباخ الذي تسكنه أغلبية أرمنية وأقلية أذريَّة لسيطرة روسيا القيصرية في نهايات القرن التاسع عشر، ثم أُلحق بعد الثورة البلشفية بجمهورية أذربيجان متمتعًا بحكم ذاتي استمر حتى سقوط الاتحاد السوفيتي السابق. ومع مطالبات الاستقلال وإعلان الأرمن في الإقليم سلطة محلية مستقلة عام 1991، ألغت أذربيجان الحكم الذاتي وخاضت حربًا ضد المجموعات الأرمنية الانفصالية، توسَّعت لتصبح حربًا مع أرمينيا التي قدمت لهم الدعم العسكري واللوجستي.
نَجَمَ عن الحرب التي استمرت بين 1992-1994 خسارة أذربيجان للإقليم إضافة لِستِّ مناطق أخرى كانت تخضع لسيطرتها، فضلًا عن سقوط 30.000 قتيل وتهجير ما يقرب من مليون شخص من المناطق المجاورة غالبيتهم من الأذريين(1).
لم تنته الحرب باتفاق سلام نهائي يحل المشكلة رغم اعتبار الأمم المتحدة أرمينيا دولة محتلة لأراض أذرية، كما أنشأت منظمة الأمن والتعاون الأوروبية (OSCE) مجموعة “مينسك” بعضوية كل من الولايات المتحدة الأميركية وروسيا وفرنسا لمتابعة جهود حلِّ مشكلة الإقليم دون إنجازات تُذكَر. لذلك فقد تجدد الصراع في الإقليم أكثر من مرة، آخرها في 2 إبريل/نيسان 2016 كأقوى مواجهات عسكرية بين أذربيجان وأرمينيا منذ 22 عامًا.
التحالفات الإقليمية
يعتبر النزاع في إقليم ناغورنو كاراباخ أحد الأمثلة على الصراعات العِرقية-الحضارية التي نشبت بعد نهاية الحرب الباردة مباشرة، كنزاعات محلية بتأثيرات إقليمية أو دولية؛ حيث شاركت فيه أو تأثَّرت به عدَّة دول إقليمية وعالمية، مثل أذربيجان، وأرمينيا، وتركيا، وروسيا، وإيران، وجورجيا، ثم أيضًا الولايات المتحدة الأميركية وألمانيا وبريطانيا واليابان(2).
قدَّمت روسيا خلال الحرب بين أذربيجان وأرمينيا مساعدات عسكرية مباشرة للأخيرة في حين دعمت تركيا أذربيجان وأغلقت الحدود التركية-الأرمينية، وإن لم تنخرطا فعليًّا في الحرب(3). لاحقًا، وعلى مدى سنوات طويلة تعمَّقت العلاقات على طرفي النزاع بحيث أمكن الحديث عن محور تركيا-أذربيجان وتلتحق به جورجيا بدرجة أقل، في مواجهة محور روسيا-أرمينيا وتلتحق به إيران بدرجة أقل.
تصوغ تركيا موقفها من النزاع وفق منظومة متشابكة من العوامل الدينية والتاريخية والعِرقية والمصالح الاقتصادية والسياسية، أهمها:
يجمعها مع أذربيجان مشتركات الدين واللغة والعرق، بما يجعل العلاقة معها حساسة ومحورية، تجملها الجملة الأشهر التي يرددها الساسة من الطرفين “شعب واحد في دولتين”(4).
مسؤوليتها الأخلاقية-التاريخية تجاه الشعب الأذري، المستمدة من تاريخ الدولة العثمانية.
بالنظر إلى الخرائط الجغرافية والجيوبوليتيكية للمنطقة، فإن أذربيجان بمثابة منفذ لتركيا لاسيما من خصومها الذين يحيطون بها (روسيا-أرمينيا-إيران).
دعم أذربيجان كموازن إقليمي ضد أرمينيا تحديدًا؛ حيث لا تزال علاقة هذه الأخيرة مع تركيا تتسم بالعداء لاسيما بسبب أحداث 1915 التي تسعى أرمينيا وأرمن المهجر لإقرار تسميتها بـ”المحرقة”. لذلك اعتبر أحمد داود أوغلو، مهندس السياسة الخارجية لتركيا في السنوات الخمسة عشر الأخيرة ورئيس وزرائها الحالي، احتلال أرمينيا لخُمس الأراضي الأذرية في الحرب “من أهم الخسائر الاستراتيجية التي مُنيت بها تركيا في مرحلة ما بعد الحرب الباردة”(5).
يؤثِّر الوضع الحالي لإقليم ناغورنو كاراباخ، كونه محل نزاع، على سياسات تركيا تجاه منطقتي البلقان والقوقاز، فهو يحدُّ من فاعليتها في حوضي الأدرياتيكي وقزوين بشكل مباشر. ذلك أن حلَّ مشكلة الإقليم وإزالة الحاجز الأرميني سيمكِّنها من التواصل -عبر منطقة ناهتشيفان- مع أذربيجان والجمهوريات التركية في آسيا الوسطى بما يصنع منها قوة إقليمية كبرى(6).
تحقيق الترابط والتكامل بين السياسات التركية في كلٍّ من البلقان والقوقاز والشرق الأوسط، أو ما أسماها أحمد داود أوغلو “المناطق البرية القريبة”، باعتبارها وحدة متكاملة من الناحية الجيوسياسية، كما يشكِّل النفط الأذري وموارد الأناضول المائية وموارد شمال العراق النفطية وحدة متكاملة من الناحية الجيواقتصادية(7).
تعتبر أذربيجان -ذات الأغلبية الشيعية- نموذجًا متمايزًا عن النموذج الإيراني فيما يتعلق بعلاقة الدين بالدولة، ولذلك تضع تركيا العلاقات معها والدعم المقدَّم لها في إطار التنافس والتوازن مع إيران في الإقليم(8).
العلاقات الاقتصادية الوثيقة بين تركيا وأذربيجان؛ حيث بلغ حجم التبادل التجاري بينهما عام 2015 حدود 3.5 مليارات دولار(9)، فيما تستثمر 2665 شركة تركية في أذربيجان، فضلًا عن تقديم تركيا للأخيرة ما يزيد عن 320 مليون دولار منذ 2004 كمساعدات مباشرة للمشاريع التنموية. وتجمع البلدين عدَّة إطارات اقتصادية أهمها اللجنة الاقتصادية المشتركة والمجلس الأعلى للتعاون الاستراتيجي(10).
أمن الطاقة التركي مرتبط بأذربيجان التي هي إحدى أهم الدول المصدِّرة للغاز الطبيعي، وتعوِّل عليها في السعي نحو تقليل نسبة اعتمادها على الغاز الروسي والإيراني؛ حيث تستورد أنقرة 55% من احتياجاتها من الغاز الطبيعي من روسيا و16% من إيران و13% من أذربيجان(11). كما تؤمِّن مشاريع مدِّ أنابيب الغاز الأذري حاجيات تركيا من الغاز الطبيعي فضلًا عن كونها ممرًّا لغاز بحر قزوين إلى الدول الأوروبية، مثل مشروعي باكو-تفليس-جيهان، و”تاناب” (مشروع غاز عبر الأناضول) الذي يُتوقع الانتهاء منه عام 2018(12).
بالنسبة لروسيا، فتصوغ أيضًا مقاربتها للنزاع وفق محددات عدَّة، أهمها:
إرث روسيا التاريخي في السيطرة على المنطقة في عهدي روسيا القيصرية والاتحاد السوفيتي.
تشكِّل منطقة جنوب القوقاز (أرمينيا-أذربيجان-جورجيا) بالنسبة لروسيا عمقًا استراتيجيًّا، وحديقة خلفية لا يمكن التفريط باستقرارها وأمنها.
المنافسة على أحواض الغاز الطبيعي في بحر قزوين، وخطوط مروره إلى أوروبا.
تُعتبر أرمينيا شريكًا استراتيجيًّا لروسيا، سياسيًّا وعسكريًّا واقتصاديًّا.
أرمينيا عضو في منظمة معاهدة الأمن الجماعي التي تضم بعض جمهوريات الاتحاد السوفيتي (وهي المنظمة التي انسحب منها كل من أذربيجان وجورجيا عام 1999)(13)، كما انضمت عام 2014 إلى الاتحاد الاقتصادي الأوراسي(14).
تعتبر روسيا ضامنة للأمن والاستقرار في جنوب القوقاز وحوض بحر قزوين، كقوة إقليمية عسكرية، وكدولة سيطرت تاريخيًّا على المنطقة، وباعتبارها أيضًا مصدرًا مهمًّا للسلاح لكل من أرمينيا وأذربيجان على حدٍّ سواء(15). ولعل ذلك يفسر مسارعتها لرعاية ودعم اتفاق وقف إطلاق النار بعد ثلاثة أيام فقط من اندلاع الاشتباكات الأخيرة (2 إبريل/نيسان 2016)(16).
التأثير الأرميني الكبير في الداخل الروسي حيث قدَّر الإحصاء السكاني في روسيا عام 2002 عدد الأرمن فيها بـ1.3 مليون شخص(17)، بينما يتجاوز عددهم وفق بعض الدراسات الحديثة المليونين(18)؛ ما يجعل الجالية الأرمينية في روسيا الأكثر عددًا بين بقية الجاليات الأرمينية الأخرى.
يعتبر النفوذ الروسي في منطقة جنوب القوقاز موازِنًا مهمًّا للدور التركي ومن خلفه الأميركي والأوروبي هناك، فضلًا عن إعاقته تواصل تركيا مع الجمهوريات التركية في آسيا الوسطى (19).
تحتفظ روسيا بقواعد عسكرية على الأراضي الأرمينية في منطقتي أربوني (Erebuni) وغيومري (Gyumri) القريبة من الحدود التركية، كما تسيطر طائراتها على المجال الجوي الأرميني(20).
يتكامل التواجد الروسي العسكري في أرمينيا مع تواجدها العسكري في جورجيا وعلاقاتها الاستراتيجية المتنامية مع إيران، ضمن منظومة موسكو الجيوبوليتيكية(21).
تسعى روسيا لاحتواء ومنع تقارب أرمينيا مع حلف الناتو والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأميركية؛ حيث شاركت أرمينيا مع الحلف في مهمات لحفظ الأمن في أفغانستان والبلقان(22)، كما ينشط اللوبي الأرمني بقوة في واشنطن وبروكسل (عاصمة الاتحاد الأوروبي والناتو)، وبذلك يمكن فهم بيع موسكو الأسلحة لأذربيجان كضغط على يريفان والإبقاء على حاجتها لها في مجال التسليح(23).
ما بعد الأزمة التركية-الروسية
يتبادل الطرفان الأرميني والأذري الاتهامات حول مسؤولية التصعيد المفاجئ الأخير وتزامنه مع عدد من المتغيرات الإقليمية المتعلقة بروسيا وتركيا تحديدًا -كأزمة إسقاط تركيا الطائرة الروسية، والإعلان عن”الانسحاب الروسي” (سحب القوات الرئيسية) “والحل السياسي” في سوريا- ليعطي ذلك كله بُعدًا إقليميًّا للتصعيد.
ويمكن في هذا السياق ملاحظة المستجدات التالية على مستوى التحالفات القائمة مؤخرًا:
أولًا: دعم تركيا للتشكيلات العسكرية الأذرية في إقليم ناهتشيفان الذي يتمتع بحكم ذاتي، والتي تم تجميعها منذ 2013 تحت اسم الجيش المشترك الخاص(24).
ثانيًا: بدء اجتماعات مشتركة ودورية لوزراء دفاع كلٍّ من تركيا وأذربيجان وجورجيا منذ عام 2014.
ثالثًا: تفقُّد قائد القوات الخاصة التركية زكائي-أقصاكاللي (Zekai Aksakall?) للقوات الأذرية على الجبهة مع أرمينيا في نوفمبر/ تشرين الثاني 2014، وتصوير وسائل الإعلام له وهو يجرِّب بندقية قنص، في رسالة واضحة عن الدعم التركي الصريح لباكو(25).
رابعًا: الاتفاق التركي-الأذري بتقريب موعد افتتاح مشروع “تاناب” لتزويد تركيا بالغاز الطبيعي الأذري ومروره عبرها إلى أوروبا، بحيث ترتفع حصة تركيا منه من 7 مليارات م3 حاليًا إلى 31 مليار م3 بحلول العام 2026. دخول المشروع حيز العمل والإنتاج سيعني تراجع اعتماد تركيا على الغاز الطبيعي الروسي إضافة لانخفاض إضافي في سعره العالمي، وهما تطوران مضرَّان جدًا بأمن الطاقة الروسي والدور الأرميني في خطوط الطاقة. لذلك اعتبر رئيس اتحاد اقتصاد الطاقة الدولي جوركانكومبار أوغلو أن التصعيد يتعلق بخطوط مرور الغاز إلى أوروبا بعد سنوات أكثر مما يرتبط بالإقليم نفسه(26).
خامسًا: تنظيم مناورات “توراز كارتالي” (نسر توراز) الجوية بين تركيا وأذربيجان في أغسطس/آب وسبتمبر/أيلول 2015(27)، ثم مناورة “توراز شاهيني” (صقر توراز) في مارس/آذار 2016(28).
سادسًا: دعوة رئيس إقليم ناغورنو كاراباخ، باكو ساهاكيان، روسيا في نوفمبر/تشرين الثاني 2015 لاستخدام مطار ستيباناكيرت/خانكنت في عاصمة الإقليم لأهداف تتصل “بمكافحة الإرهاب”(29).
سابعًا: توقيع أرمينيا اتفاقًا مع روسيا يتضمن توحيد نظامي الدفاع الجوي في البلدين تحت “قيادة مشتركة” في ديسمبر/كانون الأول 2015(30).
ثامنًا: زيادة روسيا لعدد طائراتها المقاتلة وجنودها في قواعدها في أرمينيا، وخاصة قاعدة غيومري القريبة من تركيا في ديسمبر/كانون الأول 2015، لتضاف إلى زيادات وتطويرات سابقة منذ 2010(31). وتشمل هذه المقاتلات طائرات ميغ-29 وسوخوي SS-26 التي يمكنها نظريًّا استهداف الفرق العسكرية التركية شرق الأناضول، فضلًا عن انتهاكها معاهدة القوات النووية متوسطة المدى مع الولايات المتحدة(32).
تاسعًا: تزامن تجدُّد الاشتباكات مع تواجد الرئيسين الأذري والأرميني في واشنطن في قمة أمن الطاقة النووية الذي تغيبت عنه موسكو، واجتماع جون كيري مع كلٍّ منهما على حِدَة للبحث في سبل حلِّ مشكلة الإقليم؛ الأمر الذي يمكن اعتباره رسالة من الولايات المتحدة لروسيا من جهة بعدم التدخل ولأذربيجان من جهة أخرى بعدم توثيق العلاقات معها، سيما وأن لروسيا تدخلات عسكرية في كلٍّ من جورجيا وأوكرانيا ومولدوفا، على خلفية سعي هذه الدول لتقوية علاقاتها مع الغرب(33).
السيناريوهات المستقبلية
في مقارنة مباشرة للجيشين الأذري والأرميني وفقًا لموقع غلوبال فاير باور (Global Fire Power) يظهر الجيش الأذري في المركز الـ 60 فيما يكتفي الجيش الأرميني بالمركز الـ 94 من أصل 126 جيشًا على مستوى العالم، وفيما يلي يتضمن الجدول مقارنة عددية بين الجيشين وفق أهم المعايير المعتمدة في الموقع:
المعيار
أذربيجان
أرمينيا
الترتيب العالمي
60
94
أفراد القوات المسلحة الفاعلون
70.000
70.000
جنود الاحتياط
300.000
210.000
عدد الطائرات الإجمالي
127
63
عدد المروحيات الإجمالي
85
41
عدد الطائرات الهجومية
29
11
عدد الطائرات المقاتلة
18
0
عدد المروحيات الهجومية
18
15
عدد الدبابات
314
166
ميزانية الدفاع السنوية (مليون دولار)
3185
225
ملحوظة: المعلومات المتاحة في الموقع محدَّثة بتاريخ 24 يناير/كانون الثاني 2016(34).
بيد أن المقارنة العسكرية المباشرة ليست ضمن أولويات هذه الورقة التي تركِّز على الانعكاسات المباشرة على التوتر التركي-الروسي، فضلًا عن أن القدرات العسكرية المباشرة لطرفي النزاع الميداني ليست هي ما سيحسم الصراع بطبيعة الحال.
ووفق تاريخية الأحداث وتداعياتها الحالية، وربطًا بالتحالفات الإقليمية سالفة الذكر، وبعد تقييم التطورات الأخيرة، يمكن رصد ثلاثة سيناريوهات ممكنة فيما يتعلق بتأثير حالة التصعيد الحالية على الأزمة التركية-الروسية:
أولًا: سيناريو المواجهة العسكرية: بحيث لا يمكن السيطرة على المواجهة الحالية بل تضطر الدولتان للانخراط في مواجهة عسكرية مباشرة، قد تتطور إلى مواجهة بين روسيا وحلف شمال الأطلسي وفقًا للمادتين الخامسة والسادسة من نظامه الأساسي(35).
يدعم فرص هذا السيناريو التحالفات القائمة فعليًّا على محوري روسيا-أرمينيا من جهة، وتركيا-أذربيجان من جهة أخرى؛ حيث إن للثنائي الأول عضوية في منظمة معاهدة الأمن الجماعي، في حين تجمع الثنائي الثاني اتفاقيات تقع تحت إطار المجلس الأعلى للتعاون الاستراتيجي، وهي تحالفات تفرض “تقديم الدعم” للدولة التي تتعرض للاعتداء، رغم أن الاتفاقيات المبرمة لا تحدد تمامًا شكل الدعم المقدَّم ولا تنص على كونه عسكريًّا، وإن كانت تشمله لعموم النص بطبيعة الحال.
ومن العوامل التي تزيد من فرص هذا السيناريو أيضًا استمرار حالة التوتر بين البلدين دون انفراجات ولو نسبية، رغم مرور خمسة أشهر على إسقاط المقاتلة الروسية، إضافة إلى المواقف الحادة التي اتخذها رئيسا البلدين خلال الأزمة.
لكن هذا السيناريو مستبعد جدًا لحرص كل من روسيا وتركيا ومن خلفها حلف الناتو على عدم الوصول لمواجهة مباشرة لأسباب عدَّة، أهمها الكلفة الباهظة لأية مواجهة عسكرية بين موسكو وأنقرة واحتمالات تورط حلف الناتو فيها، وتأثيراتها السلبية على خطوط نقل الطاقة من المنطقة، وتوزع الجهد والتركيز الروسيين في المواجهة مع الناتو على عدة جبهات منها سوريا وأوكرانيا وجورجيا، والتوافق الأميركي-الروسي في الملف السوري على مسار الحل السياسي، والضائقة الاقتصادية الروسية، وافتقار تركيا لمنظومة صاروخية دفاعية، وحالة الحرب الباردة شبه الروتينية التي تحولت إليها الاشتباكات الأذرية-الأرمينية.
ثانيًا: سيناريو التفاوض والحل: بحيث تنضم مسألة إقليم ناغورنو كاراباخ إلى ملفات التنافس الروسي-التركي، والروسي-الأطلسي، بما قد يفتح المجال لمساومات تؤدي إلى صفقة ما بخصوصه. فالعلاقة الخاصة بين تركيا وأذربيجان قد تؤهِّل الأولى للعب دور الوسيط أو الضاغط على باكو لتهدئة الأوضاع، بل قد تصل ربما إلى إدخالها ضمن مجموعة “مينسك” الراعية للحل في الإقليم، خصوصًا إذا ما طلبت روسيا منها لعب دور أو ممارسة الضغط على باكو.
ويعزز من فرص هذا السيناريو:
رفض الطرفين الروسي والتركي من حيث المبدأ للمواجهة العسكرية كما ظهر في أزمة إسقاط المقاتلة، وكما يتضح من تصريحات المسؤولين الأتراك والروس مؤخرًا(36)، وكذلك من توقيف تركيا “لقاتل الطيار الروسي” بعد سقوط طائرته كإشارة على بادرة حُسن نية من أنقرة رغم أنه أُوقف على ذمة قضية أخرى(37).
عجز ثلاثية “مينسك” حتى الآن عن بلورة حل مستدام للأزمة مما فتح الباب على اعتراضات واقتراحات حول بنيتها وعضويتها؛ الأمر الذي قد يطرح فكرة ضم تركيا لها كعضو أو كمحاور، مثل الاتهامات الأذرية لها بالانحياز لأرمينيا بسبب عضوية روسيا فيها، وانتقادات تركيا مؤخرًا لها لفشلها في إنجاز اتفاق نهائي(38)، وبعض الاقتراحات الأوروبية بالتدخل والمساعدة(39).
بيد أن هذا السيناريو مستبعد على المدى المنظور لعدَّة أسباب، أهمها: تقييم روسيا للأزمة باعتبارها تقع في جوارها القريب الذي لا يمكن أن تسمح بالإخلال بتوازناته عبر دور تركي فاعل، والعلاقات غير الطبيعية التي ما زالت سائدة على محور موسكو-أنقرة، وغياب التكافؤ العسكري والاستراتيجي بينهما، واعتراض أرمينيا -فضلًا عن روسيا- المتوقَّع على إشراك تركيا في أية وساطة أو حوار مع مجموعة “مينسك” من مبدأ الندية، والشعور الأذري بوجود فرصة حقيقية لاسترجاع أراضيها المحتلة في ظل تفوقها العسكري وضائقة يريفان الاقتصادية.
ثالثًا: سيناريو الحرب بالوكالة: بحيث تستمر الاشتباكات بين الطرفين باستمرار الدعم المقدم لكليهما دون أن تنضج الظروف لتتيح إمكانية حلٍّ توافقي بين الفرقاء المحليين، ودون أن تتدحرج أيضًا إلى مواجهة عسكرية مباشرة بين داعميهما الإقليميين. وهو سيناريو يتضمن أيضًا تراجع حدَّة الاشتباكات لحين توقيع اتفاق لوقف إطلاق النار قبل أن تعود لسابق وتيرتها في وقت لاحق على المديين القريب أو المتوسط، لكن دون أن يكون تراجع حالة التصعيد مبنيًّا على اتفاق بين الأطراف المتنازعة أو الداعمة.
ترجح الورقة هذا السيناريو على سابقيه، أخذًا بالاعتبار السياقات السابقة، وباعتبار أن المواجهة العسكرية غير مرغوبة ولا مقدور على تحمل كلفتها الكارثية إقليميًّا ودوليًّا، ولأن ملف هذه الأزمة هو أقل أهمية من أخرى لا تزال عالقة بين الطرفين الروسي والتركي ومن ورائها الأوروبي وتنتظر تسوية شاملة لم يحن أوانها بعد، لتكون أزمة الإقليم ملفًّا ثانويًّا على أجندة التنافس التركي-الروسي، والأطلسي-الروسي، ويتأثر بانعكاسات الأزمة السورية على وجه الخصوص والأزمات في كلٍّ من جورجيا وأوكرانيا وغيرهما بشكل عام.
وفق هذا السيناريو، تبقى الأمور عُرضة للتطور مستقبلًا في كلا الاتجاهين، بحيث يمكن أن تتطور الاشتباكات المحلية إلى مواجهة إقليمية في حال حصول تطورات غير محسوبة، وقد توصل نتائج التصعيد الحالي الفرقاء إلى قناعة بضرورة التهدئة والحل التوافقي.
وفي إطار هذه القراءة، سيكون السيناريو الثاني المتمثِّل بالتفاوض أو التوافق أوفر حظًّا وفق المعطيات الحالية من السيناريو الأول المتمثل بالمواجهة المباشرة بين تركيا وروسيا بغضِّ النظر عن نتائج التفاوض ومستوى التوافق. بينما سيكون سيناريو التصادم العسكري بين موسكو وأنقرة تطورًا مفتوحًا على طيف واسع من الاحتمالات المتعلقة بمدى ومستوى وحدود المشاركة أو الممانعة الأميركية والأطلسية للمواجهة، ويبقى بذلك رغم ضآلة فُرصه خطيرًا وعالي التكلفة بالنسبة لجميع الأطراف على المستويات الثلاثة المحلية والإقليمية والدولية.
وفي كل الحالات الثلاث، أي تدحرج الأمور إلى مواجهة عسكرية مباشرة أو ارتقائها لبلورة اتفاق ما أو بقائها على ما هي عليه، فإن ما سيحدد مسار الأحداث بشكل رئيس سيكون مدى إمكانية حدوث تبدل كبير أو غير محسوب -إيجابًا أو سلبًا- فيما يتعلق ببعض المتغيرات الإقليمية أو الدولية، وفي مقدمتها القضية السورية، والأزمة الاقتصادية الروسية، وانتخابات الرئاسة الأميركية.
خاتمة
إن تفجر الاشتباكات مجددًا بين أرمينيا وأذربيجان بعد حوالي 22 عامًا من انتهاء الحرب بينهما بسبب إقليم ناغورنو كاراباخ يشير بشكل واضح إلى خطورة الأزمات المبنية على اختلافات إثنية-حضارية وإلى دور الدول الإقليمية والعالمية الداعمة للفرقاء المتنازعين في الميدان -تحفيزًا وتثبيطًا- سواء بسواء.
بيد أن العلاقة بين الدول الداعمة والأزمة المحلية قد تتفاعل أحيانًا في الاتجاه المعاكس، بحيث يمتد النزاع المحلي المحدود ليصبح مواجهة إقليمية أو عالمية، كما حصل في أمثلة تاريخية في مقدمتها الحرب العالمية الأولى.
إن المواجهة الحالية في الإقليم المتنازع عليه تحمل صفات نزاعات ما بعد نهاية الحرب الباردة، وخصوصًا التدخلات الخارجية من عدَّة أطراف بسبب تشابكات العلاقات والمصالح والتنافس. وقد ركَّزت هذه الورقة على محور واحد من هذه العوامل الخارجية وهو محور التوتر الروسي-التركي باعتباره أحد أهم المؤثِّرات على سير الأحداث، وباعتباره قابلًا للتأثر -أكثر من غيره ربما- بمسار التطورات على الجبهة الأرمينية-الأذرية.
وقد خلصت الورقة إلى أن استمرار الاشتباكات بمستوى معين هو السيناريو المرجَّح وفق المعطيات الحالية لعدة أسباب، في مقدمتها عدم تشكيلها خطرًا مباشرًا على الدول الداعمة وغياب سياقات وظروف التوصل لحل سياسي توافقي يرضي جميع الأطراف، كما هي حال أغلب النزاعات المحلية من هذا النوع، بينما لا يمكن القطع بعدم إمكانية حصول مواجهة عسكرية إقليمية في أي وقت قد تخرج فيه ظروف المواجهة المحلية عن الخط المرسوم لها، عفويًّا أو بتخطيط أحد الأطراف.
سعيد الحاج
مركز الجزيرة للدراسات