عندما يدلي الناخبون الأميركيون بأصواتهم في الثالث من نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل، فإنهم لن يقرروا فقط من سيكون الرئيس في عام 2021، وإنما ينتخبون أيضاً كل أعضاء مجلس النواب، وثلث أعضاء مجلس الشيوخ، كما يختارون كذلك عدداً من حكام الولايات وأعضاء في السلطة القضائية والتنفيذية في الولايات المختلفة، لكن أحد أهم اختيارات الناخبين وأكثرها تأثيراً في المستقبل، يتمثل في اختيارهم أعضاء المجالس التشريعية في معظم الولايات والتي تحدد بدرجة كبيرة التركيبة الحزبية لمجلس النواب الأميركي حتى عام 2030، فما الذي يعنيه ذلك وما السبب في حدوثه كل 10 سنوات وكيف سينعكس ذلك على التشريعات والصراع الحزبي بين الجمهوريين والديمقراطيين خلال السنوات المقبلة؟
لماذا تتغير الدوائر؟
تُجري الولايات المتحدة الأميركية كل 10 سنوات إحصاء سكانياً لمعرفة النمو الذي طرأ على تعداد السكان وتنوع فئاتهم ومناطق توزعهم والتي تختلف من منطقة لأخرى بسبب طبيعة التغير الذي يطرأ باستمرار على الأرض. ولأن آخر إحصاء تم عام 2010، فقد بدأ الإحصاء السكاني الجديد قبل أسابيع في سائر أنحاء الولايات الأميركية، وحين تنتهي إجراءات الإحصاء، تكون الولايات مُطالبة بإعادة تقسيم ورسم حدود الدوائر الانتخابية للكونغرس بهدف الحفاظ على المساواة في تمثيل النواب لأعداد متماثلة تقريباً من الشعب بحسب عدد سكان الدوائر الانتخابية.
وتعود أهمية هذه العملية في التأثير الملحوظ الذي تشكله حدود الدوائر الانتخابية الجديدة على نتائج الانتخابات، خصوصاً عندما يتم رسمها بطرق تُفيد أحد الأحزاب السياسية عن سواه بحسب ما تشير التجارب السابقة، فعلى سبيل المثال حينما سيطر الجمهوريون على المجلس التشريعي في ولاية بنسلفانيا بعد تعداد 2010، أعادوا تقسيم الدوائر الانتخابية بشكل يقول الديمقراطيون أنه أضر بهم كثيراً، فعلى الرغم من فوز الديمقراطيين بغالبية الأصوات في انتخابات كونغرس الولاية لعام 2012، إلا أن إعادة تقسيم الدوائر جعلت الجمهوريين يفوزون بثلثي مقاعد المجلس التشريعي للولاية.
وعلى الصعيد الوطني، يسيطر الجمهوريون على حوالى 60 في المئة من المجالس التشريعية في الولايات ويشغلون 52 في المئة من المقاعد، غير أن الأنظار تتجه الآن إلى انتخابات نوفمبر، والتي ستشهد منافسات حامية في 86 من أصل 99 غرفة تشريعية في الولايات على الصعيد الوطني لشغل 5876 مقعداً من أصل 7383 مقعداً.
ولأن غالبية الولايات الأميركية تمنح هيئاتها التشريعية صلاحية رسم حدود جديدة للدوائر الانتخابية، فإن الناخبين عندما يدلون بأصواتهم في نوفمبر لانتخاب من يمثلهم من بين المرشحين للهيئات التشريعية للولايات، فإنهم يختارون واقعياً الأشخاص الذين سيضعون خرائط وحدود الدوائر الانتخابية، وهذا يعني أن انتخابات 2020 ستؤثر في توازن القوى ودرجة الصراع الحزبي في مجلس النواب الأميركي على مدى عقد كامل وحتى عام 2030 إلى أن يحين موعد إجراء يجري تعداداً سكانياً جديداً.
ووفقاً للواقع الحالي، فإن هناك 26 ولاية، يرسم المجلس التشريعي فيها حدود الدوائر الانتخابية من تلقاء نفسه، بينما في تسع ولايات أخرى، ينشئ المجلس التشريعي الدوائر بالتنسيق والتشاور من لجنة غير سياسية، في حين أن ثماني ولايات إضافية تشكل لجنة مستقلة تتولى إعادة تقسيم الدوائر. ولا تخضع سبع ولايات لإعادة تقسيم الدوائر لأن لديها دائرة انتخابية واحدة للكونغرس.
وينص الدستور الأميركي على أن يُمثل كل دائرة في الكونغرس عدد متساو من المواطنين، باستثناء الولايات التي يقطن بها عدد قليل من الأشخاص بما لا يسمح بوجود أكثر من دائرة انتخابية واحدة في الولاية، وهو ما نراه في ولايات ألاسكا وديلاوير ومونتانا ونورث داكوتا وساوث داكوتا وفيرمونت ووايومنغ، حيث لا يوجد سوى نائب واحد فقط عن كل ولاية من هذه الولايات السبع في مجلس النواب الأميركي في حين يمثل الولاية عضوان في مجلس الشيوخ بالتساوي مع ممثلي أي ولاية أخرى بصرف النظر عن عدد سكان الولاية.
تلاعب حزبي
وتشير دراسة أجرتها جامعة أوكسفورد إلى أن عملية إعادة تقسيم الدوائر بشكل متحيز في ما يُمكن وصفه بالتلاعب الحزبي، هي عملية شائعة ومتكررة في جميع أنحاء الولايات الأميركية، بالنظر إلى وجود عدد قليل من القيود التي يواجهها المشرعون عند رسم حدود جديدة للدوائر الانتخابية، إذ يضع المشرعون في الولاية قواعدهم الخاصة، ولهذا ليس من المستغرب أن تمنح الدوائر الانتخابية ميزة تفضيلية بشكل غير عادل للحزب الذي يشكل أعضاؤه غالبية المجموعة التي ترسم خطوط هذه الدوائر.
وباستثناء الولايات السبع التي لا يوجد بكل منها سوى دائرة انتخابية واحدة وكذلك ولايات هاواي وأيداهو وماين ونيو هامبشاير ورود آيلاند والتي توجد بها دائرتان انتخابيتان، يكون من الصعب إحصائياً التلاعب في حدودهما، وتظل هناك 38 ولاية أخرى تشير دراسة جامعة أوكسفورد إلى أن 22 أنشأت دوائر انتخابية استفاد منها حزب على حساب حزب آخر.
كيف سيطر الجمهوريون بعد 2010؟
وبحسب موقع “راسموسن ريبورت” فقد تمكن الجمهوريون من تحقيق نصر تاريخي عام 2010 وسيطروا على العديد من المجالس التشريعية في البلاد، ما مكنهم من إعادة رسم وتحديد الدوائر الانتخابية لتخدم مصلحتهم لفترات زمنية بعيدة، لا سيما في سبع ولايات هي ميشيغان ونورث كارولينا وبنسلفانيا وأوهايو وويسكونسن وفرجينيا، وفلوريدا، بل إن انتخابات مجلس النواب الأميركي عام 2012 أفرزت مجلساً سيطر عليه الحزب الجمهوري على الرغم من فوز المرشحين الديمقراطيين للكونغرس بمزيد من الأصوات على مستوى الوطني للولايات المتحدة ككل.
ولهذا فإن السيناريو نفسه مرشح للتكرار في انتخابات نوفمبر المقبل، حيث ستكون الانتخابات التشريعية في الولايات حاسمة بالمثل بشأن من سيتحكم في عملية إعادة تقسيم الدوائر، وكيف ستبدو انتخابات الكونغرس في العقد المقبل.
جهود إصلاحية
لكن ذلك لا يعني أن هناك جهوداً تجرى لإصلاح عملية إعادة تقسيم الدوائر، فخلال العام الماضي 2019، منعت المحكمة العليا فعلياً المحاكم الفيدرالية من النظر في ما إذا كان التلاعب الحزبي في الدوائر الانتخابية دستورياً أم لا، في وقت تسعى حركات الإصلاح إلى انتزاع السيطرة على حدود الدوائر من أيدي المشرعين.
وابتكرت ولايات عدة طرقاً رائدة لرسم حدود الدوائر الانتخابية بشكل أكثر عدلاً، إذ تقدم لجان استشارية في نيويورك على سبيل المثال، النصح للمشرعين لتجنب توفير مزايا حزبية خلال رسم حدود الدوائر الانتخابية، كما تمتعت لجان مستقلة في ولايتي أريزونا وكاليفورنيا بالسيطرة الكاملة على كيفية إعادة رسم وتحديد الدوائر الانتخابية، وهو خيار منحته أيضاً ولاية فيرجينيا للناخبين هذا العام. وفي ولايتي نيوجيرسي وهاواي، تتولى لجان مكونة من سياسيين معينين مسألة تحديد الدوائر الانتخابية.
وفي ولايات كولورادو وميشيغان ويوتا، أنشأ المواطنون قبل عامين لجاناً مستقلة لإعادة تقسيم الدوائر عن طريق الاستفتاء الشعبي إذا لم يرغب المشرعون في تجريد أنفسهم من هذه السلطة الرئيسية.
هجمة ارتدادية
وعلى الرغم من تأكيد عدد من البحوث والدراسات في الولايات المتحدة على أن اللجان المعنية بإعادة رسم الدوائر الانتخابية تميل إلى إنتاج خرائط أقل تحيزاً بالمقارنة بتلك التي تنتج من المجالس التشريعية في الولايات، إلا أن إصلاحات إعادة تقسيم الدوائر تواجه الآن رد فعل عنيفاً من المشرعين في عدد من الولايات والذين يحاولون استعادة سلطة إعادة تقسيم الدوائر من خلال إصدار تشريعات أو عبر الدعاوى القضائية.
وبينما يركز معظم الناس في عام الانتخابات الرئاسية، على السباق الرئاسي نحو البيت الأبيض، فإن القرارات التي يتخذها الناخبون في المنافسات على المجالس التشريعية للولايات لا تقل أهمية عن السباق الرئاسي، لأنها بالتأكيد سوف تؤثر في التشكيل الحزبي للكونغرس لسنوات عدة مقبلة. ومن دون إحداث تغييرات حول سلطة من يرسم حدود الدوائر الانتخابية، من المرجح أن تدخل الولايات المتحدة عقداً آخر لا يتم فيه تحديد الدوائر الانتخابية من قبل الناخبين العاديين ولكن من قبل أولئك الذين يمتلكون السلطة.
طارق الشامي
اندبندت عربي