صراع النفوذ بين واشنطن وبكين يهدد عالم ” ما بعد كورونا”

صراع النفوذ بين واشنطن وبكين يهدد عالم ” ما بعد كورونا”

ربما تكون سياسة” الاحتواء” التي سادت العالم في السنوات الماضية قد وصلت إلى نهايتها، وبدأ عهد جديد من صراع الهيمنة القائم على” العزل الكامل” وتحطيم ما تبقى من ركام النظام العالمي القديم لتختفي المعايير والمرجعيات الدولية كمقدمة لـ”الفوضى المطلقة” التي تنتظر الكرة الأرضية في حال فوز الرئيس دونالد ترامب بدورة رئاسية ثانية.

وسياسة” الاحتواء” ابتدعها الدبلوماسي الأميركي جورج كينان في نهاية الأربعينيات وطبقتها الولايات المتحدة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية بهمة ونشاط شديدين، ثم هدأت في عهد الرئيس بيل كلينتون الذي أطلق العولمة، ليعود تطبيق سياسة الاحتواء بشكل أكثر شراسة تحت مسميات الحظر الاقتصادي والتقني والمالي والدولاري في عهد ترامب.
ومنذ صعود ترامب للحكم، ينظر التيار اليميني إلى العولمة على أنها تتم على حساب الطبقة الوسطى في الدول الرأسمالية المتقدمة صناعياً وتقنياً وتحديداً ضد الولايات المتحدة، إذ إنها تسلب وظائف الطبقة الوسطى وتحطم الصناعة، بينما تفيد الصين والأنظمة الدكتاتورية عبر التمدد في الأسواق الغربية وسرقة التقدم التقني الأميركي والأوروبي، وتدريجياً تتمكن بكين مع حليفتها موسكو، من فرض معاييرها الصناعية والتقنية وفلسفتها السياسية على العالم.
وهذا النوع من “التنافس السلبي” أو ما يطلق عليه مبدأ “زيرو صم” في أيدلوجية صراع الهيمنة الجاري حالياً بين بكين وواشنطن ربما ينتهي بتحطيم العالم وسط تحديات جائحة كورونا والكساد الاقتصادي العالمي، إذ إنه مبني على منظور أن المكاسب لا يمكن تحقيقها لطرف في الصراع إلا بخسارة الطرف الآخر.
وعلى الرغم من أن الأطراف الأوروبية واليابان والدول الرأسمالية في العالم تتبنى ضرورة تحجيم التمدد الاقتصادي الصيني، إلا أنها تعارض سياسة ترامب وتقابلها باستهجان. وفي المقابل يدعو المعسكر الرأسمالي إلى ضرورة إصلاح النظام التجاري العالمي والقوانين التي تحكم الملكية الفكرية وحرية الأسواق وحركة رأس المال، بدلا من تحطيم النظام بأكمله وبناء “نظام عالمي آحادي” جديد يدشن عودة العظمة للولايات المتحدة، ويرسخ مبدأ” أميركا أولاً” الذي يتحمس له الرئيس ترامب. ويفضل المسؤولون بدول الاتحاد الأوروبي إصلاح النظام العالمي الحالي القائم على مبدأ ” تعدد الأطراف في النفوذ العالمي”.

ويعد الخبير الاقتصادي الدولي ورئيس معهد بيترسون للدراسات الاقتصادية بواشنطن، جون بوصون من أشد المنتقدين لسياسات الرئيس ترامب الاقتصادية التي يرى أنها تعزل أميركا عن المحيط الدولي وليس الصين.
في اجتماع الأمم المتحدة الذي عقد خلال شهر سبتمبر/ أيلول الماضي ظهر جلياً أن الصين تكسب المنظمات الدولية على حساب الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين، وربما ستتمكن من استغلال أخطاء السياسة الأميركية وخلافاتها الأيديولوجية والاقتصادية مع شركاء التجارة والحلفاء الغربيين، إذ إن الصين تواصل كسب المنظمات الدولية التابعة للأمم المتحدة وغيرها بينما تنسحب الولايات المتحدة منها.
في هذا الصدد، يرى خبير العلاقات الدولية راغول بلانيسامي، في تحليل بمعهد آسيا والمحيط الهادئ للسياسات الدولية، يوم الأربعاء، أن مفهوم ترامب لاحتواء أو عزل الصين عن المحيط التجاري والتقني العالمي يخلق مشاكل للديمقراطيات الرأسمالية وأن هنالك حاجة ماسة لبناء شبكة حلفاء الولايات المتحدة في هذا الصراع قبل الانسحاب من النظام العالمي القائم.
من جانبه وصف الدبلوماسي السويدي هانس بليكس، انسحاب الولايات المتحدة من المنظمات الدولية بأنه “أمر مؤسف ويفيد الصين”.ورفضت الولايات المتحدة في عهد ترامب تمويل العديد من المنظمات الدولية متعددة الأطراف بحجة أنها لا تخدم المصالح الأميركية منها يونسكو ومنظمة الصحة العالمية والأنروا.
على الصعيد الصيني، تطرح بكين في مخطط الهيمنة العالمية مبدأ “التنافس الإيجابي” على الرغم من سجلها غير النظيف في العديد من قضايا حقوق الإنسان والملكية الفكرية وحرية التجارة ورأس المال. إذ دعا الرئيس الصيني شي جين بينغ في خطابه لدورة الأمم المتحدة خلال الشهر الجاري، المنظمة الأممية إلى لعب دور محوري وسط جائحة كورونا، وضرورة أن تتواكب نظم الحوكمة العالمية مع المتغيرات السياسية والاقتصادية التي يشهدها العالم. وهو بذلك يشير من طرف خفي إلى صعود الصين في المسرح السياسي والاقتصادي العالمي وتراجع الولايات المتحدة.
وفي الصيف الماضي طرح مشروعا قرار للتصويت بمجلس حقوق الإنسان، أحدهما طرحته كوبا نيابة عن الصين، وآخر طرحته بريطانيا نيابة عن المعسكر الرأسمالي الغربي، فكسب المشروع الكوبي 53 صوتاً مقابل 27 صوتاً للمشروع البريطاني.
كما كسبت الصين خلال السنوات الماضية رئاسة العديد من المنظمات الدولية، إذ ترأس حالياً منظمة الطيران المدني الدولية، ووكالة الاتحاد الدولي للاتصالات، ومنظمة الزراعة العالمية ” فاو” التي يوجد مقرها في روما، ولديها نفوذ كبير في منظمة الصحة العالمية، وربما تسيطر قريباً على منظمة التجارة الدولية عبر مرشح أفريقي. وبالتالي فإن الولايات المتحدة تخسر الأصوات في المنظمات الدولية، كما تستعدي عبر حروبها التجارية والتقنية وسياسات الرسوم حتى الحلفاء في أوروبا والديمقراطيات الآسيوية.

في الواقع، إن صراع الهيمنة الدولية بين بكين وواشنطن انطلق منذ أزمة المال العالمية في العام 2008 التي ضربت النظام الرأسمالي الغربي بسبب جشع البنوك التجارية، إذ أدت الأزمة إلى إفلاس العديد من الشركات والصناعات الغربية في أوروبا وأميركا وأسيا، في وقت كانت أسواق المال الصينية مغلقة أمام الاستثمار الخارجي، وبالتالي لم تتأثر بالأزمة. وهو ما ساهم لاحقاً في تمدد الصين التجاري والصناعي في أسواق العالم عبر ضخ الإنتاج الرخيص والحصول على الدولارات عبر البنوك الأميركية لتمويل تمددها الصناعي والحصول على التقنية المتقدمة عبر السماح للشركات الغربية بالتصنيع في أراضيها. وبالتالي فالعالم مقبل على صراع شرس على الهيمنة والنفوذ العالمي في حال فوز ترامب في الانتخابات الرئاسية المقبلة.
وعلى الرغم من اختلاف الأدوات التي سيستخدمها كلا الرئيسين شي وترامب في هذا السباق والتحالفات، فإن الهدف واحد. فالرئيس الصيني شي يعمل على بناء “نظام عالمي جديد مواز” يحل تدريجياً محل للنظام العالمي القائم حالياً عبر توظيف مؤسساته لخدمة مصالح بلاده إلى حين اضمحلال النفوذ الأميركي وتتم له السيطرة على المنظمات الدولية القائمة وإحياء مشاريع العولمة.
فالصين تنشئ بنوكاً شبيهة بالبنك الدولي وصندوق النقد، وتشكل تحالفات مع القوى الاقتصادية المؤثرة في العالم سياسياً واقتصادياً وعسكرياً مثل مجموعة “بريكس”، كما تتوسع تجارياً في أسواق العالم عبر مبادرة “الحزام والطريق” التي انفقت عليها أكثر من ترليون دولار حتى الآن.
كما يستخدم الرئيس الصيني قوة بلاده التجارية وشبكة نفوذها في الأسواق العالمية وتملكها للمواد الأولية وإنتاج السلع في أفريقيا ودول أميركا الجنوبية ويستخدم الاحتياطي المالي الضخم المتوفر لبلاده، والمقدر بنحو 3 ترليونات دولار في رشوة بعض الرؤساء الأفارقة.
أما الرئيس دونالد ترامب الذي أتى للحكم بفلسفة انعزالية وبمبدأ “أميركا أولاً”، فينطلق لتحقيق هدف الهيمنة العالمية وبناء النظام العالمي الجديد، من قوة الدولار وأسواق المال والصناعة المصرفية التي تسيطر على حركة المال وتمويل التجارة وتسوية الصفقات في أنحاء العالم.
ويلاحظ أن كلا الرئيسين الأميركي والصيني غير راضيين عن النظام العالمي القديم ويريدان تغييره. فالرئيس ترامب يريد تغيير نظم التجارة العالمية واتفاقاتها وقوانينها وإلغاء التجارة مع الكتل الاقتصادية، حيث يعتقد أن الإدارات الأميركية المتعاقبة ظلمت أميركا وتنازلت عن حقوق المواطن الأميركي أو أنها خدعت من قبل دول العالم، وبالتالي يرى ترامب ضرورة إعادة التفاوض مجدداً مع كل دولة بمفردها لتحقيق المصلحة التجارية لأميركا، كما أعلن ترامب في أول خطاب له بعد التنصيب ودخول البيت الأبيض رئيساً للولايات المتحدة.
ولذا فهو يعمل بجد ونشاط لتحطيم عدد من المنظمات الأممية ومنها منظمة التجارة العالمية ومنظمة الصحة العالمية وجمعيات حقوق الإنسان ومنظمة أونروا التي ترعى حقوق اللاجئين الفلسطينيين ضمن مخطط تصفية القضية الفلسطينية.

وتقوم فلسفة ترامب، على إعادة المجد لأميركا عبر تقوية مركزها المالي والتجاري وإحياء الصناعة وإنعاش إنتاج الطاقة، وإجبار الشركات الأميركية على توطين الصناعة ومنعها من الهجرة للخارج، وذلك إضافة إلى حماية السوق الأميركي عبر فرض الرسوم المرتفعة، ومعاقبة الدول صاحبة الميزان التجاري الإيجابي مع بلاده. ويعد السوق الاستهلاكي الأميركي الذي يقدر بنحو 14 ترليون دولار وسيلة مثلى للابتزاز في سياسات الحظر التي ينفذها ترامب.

موسى مهدي

العربي الجديد