قد لا يكون الكلام ولا الرجاء مفيدا في أغلب حكومات العالم العربي، ولا من نصفها بالحكومات العربية، فالرابطة بين الشعوب وحكوماتها عندنا اسمية غالبا، وما من جدوى في تكرار الحديث عنها حتى إشعار آخر، ولا عن جامعة الدول العربية، وقد ماتت وشبعت موتا، والضرب في الميت حرام.
وقد كانت القضية الفلسطينية هي «العروة الوثقى» في النظام العربي، وشهدت الجامعة العربية أفضل مراحلها بعد هزيمة 1967 وحتى حرب أكتوبر 1973، كان الهدف واضحا في محو آثار العدوان الإسرائيلي، وكانت الأدوار موزعة بين دول للمواجهة وأخرى للدعم المالي والتسليحي، وكان مشهد الالتحام العربي فريدا لحظة العبور المعجز إلى الحرب والنصر.
وتصورت دوائر في الاستراتيجية العالمية وقتها، أن أمة العرب قد تكون مرشحة للصعود إلى مكانة القوة السادسة عالميا، أي إلى جوار القوى الخمس الكبرى دائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي، وبدا في التصور قدرا من التفاؤل اللحظي، تحطمت دواعيه بوقائع ما بعد الحرب النظامية الأخيرة مع كيان الاحتلال الإسرائيلي، وفي قلب ما جرى، كان الانهيار الدراماتيكي لاختيارات السياسة والاقتصاد في مصر، وهي وتد الخيمة العربية بامتياز حقيقي لا مصطنع، ثم راحت الانقلابات تتداعى في القاهرة بعد حرب أكتوبر، من انفتاح «السداح مداح»، وإلى عقد ما سمى معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية، وما بينهما من إطلاق عصابات النهب، وبروز الذين «هبروا» على دماء الذين عبروا، وكان إضعاف مصر إضعافا للأمة العربية برمتها، وصعودا لآخرين، اشتروا أشباه أدوار بفوائض المال الريعي، وصولا إلى اللحظة الراهنة المقبضة، لحظة توحش وتمدد أدوار لدول جوار مع طغيان العصر الأمريكي الإسرائيلي في المنطقة، مع أنفاس تقطعت ثم خمدت لنظام عربي تداعى، سرعان ما زهقت روحه، ولم يعد قادرا حتى على مجرد استنكار لفظي لتحالف حكومات دول عربية مع كيان الاحتلال الإسرائيلي.
ومن حق السلطة الفلسطينية طبعا أن تغضب، وأن تستنكر الوضع المأساوي للجامعة العربية، وهي في البدء والمنتهى جامعة حكومات لا شعوبا، غير أن «النظام الفلسطيني» إن صح الوصف، كان دائما طرفا في مسيرة النظام العربي كله، صعد بصعوده، وتراجع مع انهياراته، ومن دون إدراك فعلي ناجز لأم الحقائق اليوم، وهي أن القضية الفلسطينية صارت في عصمة الفلسطينيين أولا، وقبل وبعد أي طرف عربي أو إقليمي آخر، ولا يصح أن تكون موضعا لاستقطابات أو محاور مساومات، ولا أن تعود «الحكومة الفلسطينية» نفسها، إلى اجترار كلام سقط من كل حساب، كالحديث مجددا عن مفاوضات شبعت فشلا، عبر نحو ثلاثة عقود خلت، ولا عن رباعية دولية ديكورية، ولا عن مبادرة سلام عربية مأسوف على شبابها، ولا عن «حل الدولتين»، الذي انتهى عمليا إلى مخازن الأرشيف السياسي. ومع عقد الاتفاق الإماراتي الإسرائيلي، والاتفاق البحريني من بعده، وما قد يستجد من اتفاقات تحالف ملوث لا مجرد تطبيع مدان، ظهر نوع من إيحاءات الصحوة الفلسطينية الرسمية، وبدأ حوار الفصائل، وأعلن عن اتفاق لتكوين «الهيئة الوطنية الموحدة للمقاومة الشعبية»، نظمت بعض صور الغضب الفلسطيني على ما جرى، ثم بدا أن القصة تراوح مكانها، وأن ترتيبات انتفاضة فلسطينية ثالثة ليست جاهزة، أو ربما لم يتخذ قرارها الأساسي، الذي يستلزم بطبائع الأمور مراجعات شاملة، تنهي ما تبقى من مهانات أوسلو، وتبلور بديل عن السلطة الفلسطينية المنقسمة بين رام الله وغزة، يردّ الاعتبار لمنظمة تحرير فلسطينية جامعة، تكون هي القيادة والعنوان الوحيد لكفاح الشعب الفلسطيني، وبدلا من التقدم إلى بناء رؤوس جسور جديدة، عدنا إلى قصة حوار «فتح» و»حماس» ذاتها، التي استنزفت جانبا مهما من حيوية الشعب الفلسطيني لسنوات طويلة مريرة، وأخذت سلبا من وهج وجاذبية القضية الفلسطينية، وقادت الحركة الوطنية الفلسطينية إلى سرداب الحوارات التي لا تنتهي، وتمضي في دائرة جهنمية مفرغة، يعلن فيها كل مرة عن التوصيات والاتفاقات ذاتها، ثم لا ينفذ منها شيء، فعقب كل جولة من مئات الاجتماعات التي جرت، يعود كل طرف إلى تفسير يحتفظ به لنفسه، ويعود إلى تكرار المناكفات المعتادة، وقد يصعب تذكر عدد المرات التي انتهت باتفاق على إجراء انتخابات جديدة، ثم يضيع الوعد كل مرة في تفاصيل تسكنها الشياطين، من نوع انتظار صدور مراسيم الدعوة الرئاسية للانتخابات، وهل تشمل القدس المحتلة؟ أم تجري بدونها؟ ثم يقال إن القصة تجمدت، وبسبب رفض الاحتلال الإسرائيلي إجراء انتخابات فلسطينية في القدس، وهو ما قد نراه مجددا، بعد ما قيل إنه «اتفاق إسطنبول»، أو الحوارات المباشرة بدون رعاية خارجية، لتستأنف القصة ذاتها، وتتوالى النزاعات حول نصيب كل طرف من الكعكة الانتخابية، وكأن الفلسطينيين ينقصهم الألم وخيبة الأمل، وكأن دوامة الحوارات الفلسطينية لا تصل لقرار، مع أن الهدف يبدو خارج السياق المطلوب بالجملة، فهب أنهم اتفقوا على انتخاب برلمان أو مجلس تشريعي آخر، مقصور في تمثيله على الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية، أو مضاف إليه تمثيلا لفلسطينيي القدس، لو جرى التوصل إلى حل للفزورة، ثم جرت انتخابات رئاسية، تعقب إجراء الانتخابات التشريعية بثلاثة شهور كما يقال، فهل يعني ذلك جديدا فلسطينيا من أي نوع؟ أم تكون إعادة إنتاج لسلطة حكم ذاتي فلسطينية، هي ذاتها سلطة أوسلو، الجواب ظاهر، ولا يقطع شبرا في عملية إعادة بناء الحركة الوطنية الفلسطينية، بل نخشى أنه يضيع الفرصة السانحة لانتقال ضروري، يغادر مرابع التيه بالجملة، ويعيد الشيء لأصله، ويسترد حق وواجب تحرير الوطن المحتل بكامله، ويصوغ هدف إقامة الدولة الديمقراطية الواحدة بأغلبية فلسطينية على كافة الأراضي، ويوزع الأدوار بحسب ظروف الساحات، وينوع في أساليب الكفاح، ومن دون إغفال الحق المطلق في الكفاح المسلح، جنبا إلى جنب مع الكفاح الجماهيري السلمي، والكفاح الديمقراطي والعمل الدبلوماسي، مع الترك النهائي لخديعة «الدويلة» الفلسطينية، أو «الدويلتين» في غزة ورام الله، وإلى سواها من أوهام سقطت من زمن.
لا أحد بوسعه أن يحيي القضية الفلسطينية عربيا وعالميا، سوى الشعب الفلسطيني نفسه، وقد نجح في معارك البقاء والثبات جيلا فجيل
وقد لا يخفي أن مشكلة الشعب الفلسطيني الراهنة، هى في تدهور أوضاع حركته الوطنية القيادية، وفي تصرفات اليوم بيوم، ومن دون خطة أفق مجمع عليها، ومن دون جهاز تنظيمي مرجعي متفق عليه، ومن دون تجديد شباب الأطر العليا لمنظمة التحرير، والركون إلى منافع عابرة، ومظاهر سلطة بدون جواهر السلطة، وبما يزيد من حيرة وعذاب الشعب الفلسطيني، الذي لا يملك أحد حق المزايدة على صلابته وكفاحيته، ولا على قدراته في التضحية والعطاء والهبات المتصلة، لكن غياب البوصلة والقيادة المرشدة عيب فادح، فلا أحد بوسعه اليوم أن يحيي القضية الفلسطينية عربيا وعالميا، سوى الشعب الفلسطيني نفسه، وقد نجح في معارك البقاء والثبات جيلا فجيل، فوق أرضه المقدسة، ويستحق أن يزال عنه كل قيد يعيق حركته، وأن تسقط كل فتاوى تحريم المقاومة المسلحة، فالاحتلال ـ أي احتلال ـ لا يزول عطفا ولا تجاوبا مجانيا مع حقوق مجردة، بل يزول الاحتلال في لحظة بعينها، حين تزيد تكاليف بقائه على فوائده للمحتلين، وهذه هي خبرة كل شعوب الدنيا، وخبرة الشعب اللبناني في تحرير جنوبه من دون توقيع صك سلام ولا اتفاق تطبيع مع العدو، وهي خبرة الشعب الفلسطيني نفسه في مطالع القرن الجاري، وقت أن أرغمت المقاومة المحتلين على الجلاء عن غزة وتفكيك مستوطناتها اليهودية من طرف واحد، ولم يحدث أبدا في التاريخ الإنساني، أن كانت قوة المقاومة عسكريا مساوية ولا مقاربة لقوة الاحتلال العسكرية، وبيننا ومن حول فلسطين نماذج ملهمة، صنعت جيلا جديدا من حروب ردع المحتل بأبسط الإمكانيات، وعلى نحو ما جرى بالتراكم في تجربة «حزب الله» اللبناني، وفي تجربة المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة، التي خاضت حروبا ثلاثا طويلة ضد عدوان إسرائيل، إضافة لعشرات من الحروب الأقصر، ومن دون أن تنجح إسرائيل مرة في تفكيك ولا نزع سلاح المقاومة، ثم إن إسرائيل على قوتها العسكرية والنووية الظاهرة، تعاني هشاشة في عظام مشروعها الاستيطاني الإحلالي، تعاني من الانقلاب السكاني المتزايد لصالح الشعب الفلسطيني، وكل استيطان مصيره إلى زوال، ما لم ينجح في محو السكان الأصليين، والشعب الفلسطيني ليس أقل كفاحية من شعب الجزائر، ولا من شعب جنوب افريقيا، وكلاهما هزم الاحتلال الاستيطاني المدجج بالقنابل الذرية.
عبدالحليم قنديل
القدس العربي