من المشكوك فيه أن يكون هناك من تفاجأ لسماع تصريح سعد الحريري، رئيس حكومة لبنان السابق، الذي هو “بالتأكيد مرشح لرئاسة الحكومة”، على الرغم من أنه سبق وشغل رئاسة الحكومة مرتين واستقال في كانون الثاني، وأوضح على رؤوس الأشهاد وفي كل المناسبات بأن ليس في نيته العودة لتسلم هذه الوظيفة.
ليس واضحاً ما دعاه لتغيير موقفه، ربما هي المحادثات المكثفة التي أجراها معه الرئيس الفرنسي ماكرون، وربما تدخل السعودية مرة ثانية لإنقاذ لبنان من نفسه. وأوضح الحريري على حسابه في “تويتر” أن شروطه للعودة إلى هذا المنصب هي تبني الخطة الفرنسية، وتشكيل حكومة مهنية، والتي لا تتدخل في تشكيلها الطوائف الدينية، وتطبيق الإصلاحات المطلوبة كي يستطيع لبنان الحصول على المساعدة الدولية التي وعد بها. لم يتطرق لمشاركة “حزب الله” في الحكومة، ولكن ثمة تقارير تقول بأنه ينوي إجراء محادثات مع كل التيارات والحركات للحصول على موافقتهم؛ أي سيجري محادثات مع حزب الله أيضاً، والذي يطالب بأن يملي من سيكون وزير المالية المقبل.
لقد تحولت مسألة تمثيل حزب الله في الحكومة اللبنانية، إذا وقف على رأسها الحريري أو أي شخص آخر، إلى مسألة دولية. والولايات المتحدة تطالب وبشدة بإقصاء حزب الله عن كل موقع تأثير سياسي، في حين أن فرنسا تتطلع لتشكيل حكومة، أي حكومة، بشرط أن تبدأ في تطبيق الإصلاحات التي تمكنه من ضخ المساعدات التي ينتظرها لبنان.
ثمة قدر لا بأس به من النفاق في الموقف الأمريكي؛ فقد وافقت إسرائيل ولبنان في نهاية الأمر، وبوساطة ضاغطة من الولايات المتحدة، بداية هذا الشهر، على البدء بمفاوضات حول ترسيم الحدود البحرية بينهما. هذه ليست مفاوضات بين شركات خاصة، بل بين إسرائيل وحكومة لبنانية حزب الله شريك فيها. إذا كانت إسرائيل مستعدة لإجراء مفاوضات مع حكومة كهذه والتوقيع معها على اتفاق مدني، والتي سيكون مطلوباً المصادقة عليه أيضاً من قبل ممثلي حزب الله، لماذا تكون الولايات المتحدة أكثر كاثوليكية من البابا؟ في نهاية الأمر، تواصل الولايات المتحدة تقديم المساعدة للجيش اللبناني، رغم كونه خاضعاً لحكومة يشترك فيها حزب الله. وبالأساس، لماذا لا يشرك الحريري حزب الله في الحكومة التي سيشكلها؟ هذا، بالمناسبة أيضاً التساؤل بشأن حزب الله، والذي لا يعارض مفاوضات مع العدو الصهيوني إزاء المصلحة اللبنانية الواضحة، وكأن مفاوضات كهذه ليست سياسية.
من الأمور المهمة أن رئيس البرلمان نبيه بري، عراب محادثات الحدود هذه منذ أكثر من عقد، عرض عباءة ليغطي بها “عار المفاوضات”. في مؤتمر صحفي بداية الشهر ذكّر بأن سبق وأن وقع اتفاق هدنة بمشاركة “كولونيل أمريكي” في 1949 ما بين إسرائيل ولبنان، وأنه بعد انسحاب الجيش الإسرائيلي من لبنان وقع اتفاق ترسيم الخط الأزرق، وأن “إطار المفاوضات (الحالي) يستند إلى تفاهمات نيسان، وقرار 1701، وكل بروتوكول سيسجل (بشأن الحدود البرية والبحرية) سيعتبر كتوقيع للأطراف الثلاثة – لبنان وإسرائيل والأمم المتحدة”؛ أي لا يوجد هنا سابقة أو خيانة لمبدأ عدم التطبيع.
تجدر الإشارة إلى أن “تفاهمات نيسان” هي الاتفاق المكتوب وغير الرسمي، والذي وقع بين إسرائيل وحزب الله بعد عملية “عناقيد الغضب” في 1996، والذي يتضمن موافقة على وقف كامل لإطلاق النار، ثم قرار 1701 بإنهاء حرب لبنان الثانية، الذي يشمل من بين أمور أخرى بنداً يتعلق بتجريد حزب الله من سلاحه، قراران كان حزب الله شريكاً كاملاً فيهما وخرق فيما بعد. ولكنه أسلوب بري لتذكير “حزب الله” وإسرائيل بأنهما سبق وارتكبا في الماضي خطيئة إجراء مفاوضات.
يجب التغلب على لغم متفجر آخر وتغطيته بشبكة تمويه من أجل شرعنة المفاوضات. في اللقاء الأول، المتوقع إجراؤه الأربعاء في قاعدة لليونيفيل في الناقورة، من المتوقع أن يشارك من الجانب اللبناني ممثلو الجيش ومن بينهم الجنرال الطيار بسام ياسين، نائب رئيس الأركان لشؤون العمليات، والجنرال البحري مازن بسبوس، ونجيب مسيحي وهو خبير لشؤون المفاوضات الحدودية، وكذلك رئيس سلطة النفط وسام شباط. هذه هي التشكيلة التي اقترحها الجيش اللبناني على أساس مبدأ أن النقاشات ستكون تقنية عسكرية، وليست سياسية، ولكن ذلك سبق وأثار خلافاً، فبعد أن اتضح أن سيشارك من الجانب إسرائيل أيضاً رؤوبين عزار، المستشار السياسي لرئيس الحكومة، وألون بار رئيس الجهاز السياسي في وزارة الخارجية، ظهر شك في لبنان، وتحديداً في أوساط حزب الله، ان إسرائيل والولايات المتحدة تنصبان شركا سياسيا للبنان. شركا هدفه تحويل النقاشات غير الرسمية إلى مفاوضات سياسية، والتي لا سمح الله ستنتهي بالتطبيع بين الدولتين.
سارع “حزب الله” للإعلان عن أن “إطار المفاوضات هو حول موضوع محدد يتعلق بحدودنا البحرية، وإعادة أراضينا وترسيم فضاء سيادتنا القومية، وليس له علاقة لا بموضوع المصالحة مع العدو الصهيوني الذي يغتصب فلسطين ولا بموضوع التطبيع الذي اتبعته دول عربية لا تؤمن بمبدأ المقاومة”. هذا التصريح – التحذير جعل الرئيس يعلن بأنه لم يقرر بعد نهائياً بشأن تشكيلة البعثة، وهو وحده سيقرر ذلك.. هل سيضم شخصيات كبيرة من وزارة الخارجية اللبنانية، أم سيطلب من الأمريكان مطالبة إسرائيل بتغيير تشكيلة بعثتها، بحيث لن تكون هناك أي إشارة شكلية تدل على أن المفاوضات سياسية وليست فنية؟ ستأتي الإجابة عن ذلك في الأيام المعدودة المتبقية.