في عام 2021، سيبلغ المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية علي خامنئي الثانية والثمانين من عمره، لذا من المنطقي القول إن الرئيس الأمريكي المقبل سيكون الأخير في حياته. ويُفسّر هذا الاحتمال سبب نظره إلى الانتخابات الوشيكة في الولايات المتحدة بمثل هذا المنظور الشخصي. بإمكان الإدارة الأمريكية القادمة أن تمثل فرصته الأخيرة لحل النزاعات الثنائية الأساسية بما يراه لصالح بلاده. ومع ذلك، فعلى عكس الماضي، امتنع عن التعليق على المنافسة الحالية بين المرشحَيْن الأمريكييْن، ويشمل ذلك ما وعد به كل مرشح فيما يتعلق بإيران والشرق الأوسط الكبير.
المخاوف الرئيسية لخامنئي
تتمثل أولويات المرشد الأعلى فيما يلي:
استمرارية الجمهورية الإسلامية كنظام سياسي في إيران وقدرتها على الصمود في مواجهة القوى المناهضة للنظام في الداخل والخارج.
مقاومة النظام لأي إصلاح إيديولوجي أو سياسي تحويلي من الداخل، وأي انحراف عن المسار “الثوري” الذي يتميز بـ (1) معاداة أمريكا، (2) معاداة إسرائيل، و (3) عدم المساواة بين الجنسين المتمثل بشكل أساسي بالارتداء الإلزامي للحجاب.
ويمكن اعتبار المَبدأيْن الأيديولوجييْن الأخيريْن تجسيداً للمبدأ الأول: أن الولايات المتحدة هي “الشيطان الأعظم” ليس بسبب ما تفعله، بل بسبب ماهيتها، أي نتاج الحضارة والثقافة والسياسة الحديثة، ومناصرة رائدة لها. أما بالنسبة لإسرائيل، فإن مشاعرها البارزة المعادية للإسلاميين وتوافقها مع القيم الأمريكية الحديثة يجعل منها “ورماً سرطانياً” من وجهة نظر طهران – وهي النتيجة الأكثر مأساوية للحضارة الغربية بالنسبة للعالم الإسلامي. وتشكّل المساواة بين الجنسين سمة مميّزة للثقافة الليبرالية العلمانية الغربية، وإحدى أعمدة المواطنة وحقوق الإنسان، وبالتالي فهي جوهر الجهود المفترض أن تقودها الولايات المتحدة ضد العالم الإسلامي والمجتمع الإيراني.
ومع ذلك، فمن المفارقات، أن المسار الثوري لخامنئي يؤدي في الواقع إلى أمريكا – أي من خلال السعي إلى بناء علاقة مستقرة وآمنة ومدروسة بدقة مع الولايات المتحدة، فإنه يعتقد أن بإمكانه أن يضمن بقاء النظام ومحتواه الثوري وتوجهه على حد سواء. وبالتالي، فإن هدف طهران متناقض بشكل فاضح: التعامل مع أمريكا للحفاظ على الموقف المعادي لأمريكا. ولمعالجة هذه المعضلة، صاغ خامنئي استراتيجيته القائمة على “لا حرب ولا سلام”. ومن وجهة نظره، فإن المواجهة المباشرة مع الولايات المتحدة ستنتهي بتغيير النظام، بينما سيؤدي تطبيع العلاقات إلى التحول الأيديولوجي والسياسي للنظام. ولا يمكن تحمّل الخيار الأول في حين أن الخيار الثاني غير مقبول، لذلك سعى إلى اتخاذ مسار ثالث بين الاثنين.
استمرار الشكوك حول تغيير النظام
نفى الرؤساء الأمريكيون عموماً أن سياستهم تقوم على تغيير النظام، لكن طهران لم تُصدّق أبداً هذه التصريحات. وتنبع شكوك قادة الجمهورية الإسلامية أولاً وقبل كل شيء من فترة دامت أربعة عقود عملت خلالها الولايات المتحدة على الترويج المستمر للديمقراطية وحقوق الإنسان في إيران بينما تواصل بجدية دعم بعض الجماعات المعارضة، ومشاريع حقوق الإنسان، والمنظمات غير الحكومية داخل البلاد وخارجها. كما تفرض الولايات المتحدة حالياً مجموعة من العقوبات المؤلمة على المسؤولين والمؤسسات والشركات في إيران بسبب دورهم في انتهاك حقوق الإنسان. وأخيراً وليس آخراً، شنت واشنطن حرباً ناعمة ضد النظام من خلال جهود تشمل إدارة وسائل إعلام فارسية خاصة بها وتمويل مشاريع إعلامية فارسية في الولايات المتحدة وأوروبا.
وبالنسبة لخامنئي، تتناقض هذه المساعي مع التصريحات الرسمية للمسؤولين الأمريكيين حول الهدف النهائي لأمريكا. وتترسخ لديه قناعة بأن جهود ممارسة الضغوط على النظام بسبب سجله المناهض للديمقراطية وحقوق الإنسان لا تنبع من نية أخرى سوى تغيير الهيكل الإسلامي للنظام وتوجهه الثوري الأساسي. كما يخشى أن يكون للثقافة الأمريكية تأثير مدمّر على العقلية الثورية، وهو مقتنع بأن الحكومة الأمريكية تروّج لهذا الاتجاه. ومن وجهة نظره، تعمل هوليوود مع واشنطن، كما تَجسّد ذلك عندما أعلنت ميشيل أوباما أن فيلم “أرغو” [الذي تناول أزمة خطف الرهائن الأمريكيين في إيران] هو الفائز بـ “جائزة الأوسكار لأفضل فيلم” في عام 2013. حتى أنه يعتقد أن واشنطن تدير أنشطة الممثلين المشهورين من خلال تطبيقات مثل “تيليجرام” و “إنستغرام” أو عبر وسائل أخرى. وبالمثل، ينظر خامنئي إلى التبادلات بين الناس على أنها جهود للتجسس على إيران، لذلك قام النظام باعتقال أكاديميين. باختصار، يخشى المرشد الأعلى “الإطاحة الناعمة” التي ترعاها الولايات المتحدة أكثر بكثير مما يخشى قيامها بعمل عسكري ضد إيران – وغالباً ما تُستخدم عبارة “الثورة المخملية” في مصادر النظام.
ويأمل خامنئي أن تؤدّي المفاوضات المحتملة على مدى السنوات الأربع المقبلة إلى إقناع صناع السياسة في الولايات المتحدة بحصر المعركة الدبلوماسية ببرنامج إيران النووي وبرنامج الصواريخ والأنشطة الإقليمية، مما يترك قضايا حقوق الإنسان والديمقراطية خارج سياستهم تجاه إيران، كما يفعلون مع غالبية الدول العربية والإسلامية. ومع ذلك، إذا استمرت الإدارة الأمريكية في التأكيد على القضايا الأخيرة، فسيستنتج خامنئي أنها مصمِّمة على اغتنام أي فرصة لتغيير النظام بأي وسيلة ممكنة.
ومن وجهة نظر المرشد الأعلى، لم تكن الولايات المتحدة صادقة تماماً في دعمها لحقوق الإنسان والديمقراطية لأنها غالباً ما تستغل هذه القضايا لأغراض سياسية، وغايات اقتصادية، ومصالح “إمبريالية”. على سبيل المثال، اتهمت شخصيات إيرانية واشنطن باستخدام معايير مزدوجة مؤسفة في تعاملها مع السعودية، حيث محنة النساء في ظل الحكم الملكي أسوأ مما كانت عليه خلال النظام الشمولي الإيراني. ووفقاً لهذا المنطق، إذا لم يكن ترويج الولايات المتحدة للديمقراطية وحقوق الإنسان أمراً حقيقياً، فيمكن لواشنطن أن تقلل من شأنهما في سياستها تجاه إيران من أجل بناء الثقة مع خامنئي والقادة الآخرين، وبالتالي تمهيد الطريق نحو مشاركة ثنائية لتحقيق أهداف أكبر.
السعي لتخفيف العقوبات
عندما يذكر خامنئي تجنب “الحرب”، فإنه لا يشير فقط إلى الحملات العسكرية الأمريكية المحتملة، بل أيضاً إلى سياسة “الضغط الأقصى” التي نفذتها إدارة ترامب والتي أدت إلى مثل هذا التأثير المؤلم في جميع أنحاء إيران. ويشمل هذا الضغط عقوبات اقتصادية خانقة، وعمليات قتل مستهدفة لقادة عسكريين بارزين مثل قاسم سليماني، وتخريب إلكتروني في منشآت نووية.
وعلى الرغم من أن خامنئي هو قائد ثوري، إلا أنه يمكن وصف وجهات نظره إزاء العديد من القضايا الرئيسية بالواقعية. ومن بين هذه التفاهمات العملية استحالة إقناع واشنطن بإلغاء جميع العقوبات على المدى القصير من دون تعريض سياسة إيران الخارجية لانتكاسات أيديولوجية وسياسية كبيرة. وبالتالي، فقد ركّز على إيجاد طرق لرفع العقوبات في قطاعين رئيسيين: صناعة النفط والنظام المصرفي. وبالطبع، لا يزال يرغب في رؤية تحركات في مجالات أخرى، مثل رفع الحظر المفروض على عمليات نقل الأسلحة بعد انتهاء صلاحية أحكام مجلس الأمن ذات الصلة. لكن ما يدفعه حقاً هو عائدات النفط.
فصل واشنطن عن القدس والرياض
يتمثّل الهدف المركزي الآخر لخامنئي بإقناع الأمريكيين بأن إيران ستكف عن تهديد الجنود والمواطنين الأمريكيين إذا اتخذت واشنطن خطوتين: (1) سحب قواتها العسكرية من الشرق الأوسط، و (2) تجنبها التورط في أي عمل عسكري أو عمليات سرية ضد إيران. وإذا دخلت اتفاقية الأمر الواقع على هذا النحو حيز التنفيذ، فقد تكون خطوته التالية إقناع الولايات المتحدة بإعادة تحديد حلفائها في المنطقة.
والأهم من ذلك، أن هذا قد يعني توقّع قيام واشنطن بفصل مصالحها الوطنية عن مصالح إسرائيل والسعودية – أي التوقف عن اعتبار التهديدات الموجهة إلى هاتين الدولتين على أنها تهديدات ضد الولايات المتحدة. وقد أدّت السياسات الإقليمية للرئيسين أوباما وترامب، إلى تشجيع خامنئي على الاستثمار في ما يعتبره شرق أوسط مثالي لا يخضع للنفوذ الأمريكي.
مستقبل غامض
أدّت الثورة الإسلامية الإيرانية من عام 1979 على الفور إلى تغيير علاقة البلاد بالقوى العظمى في العالم آنذاك، أي الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي. بيد، حدثت تلك التغييرات بطرق مختلفة للغاية. ففي حين كان الزعيم المؤسس للجمهورية الإسلامية، آية الله روح الله الخميني، قادراً على التوصل إلى تسوية مؤقتة مع موسكو، إلّا أن النظام السياسي الإيراني ظل مسموماً بشكل دائم بسبب العداء البنيوي لأمريكا. واستخدم خامنئي معاداة أمريكا كأداة حيوية لتعزيز سلطته، وهو ما يفسّر عدم جدوى محاولات “المعتدلين” لإذابة العداء مع الولايات المتحدة.
ومع ذلك، فاليوم لا يمكن إنكار وجود حاجة ملحة جديدة في أوساط النخبة السياسية الإيرانية في وقت تواجه فيه البلاد أزمة كبيرة. كما يزداد المرشد الأعلى تقدماً في السن، دون أي احتمالات واضحة للخلافة. ويرى الكثيرون أنه إذا عجز خامنئي عن رسم معالم موقف جديد مقبول للطرفين تجاه الولايات المتحدة، فلن ينجح خلفه أو خلفاؤه في القيام بذلك، على الأقل في المدى القريب. وقد عززت عوامل متعددة هذا الاعتقاد، من بينها الغموض الذي يلف قيادة خامنئي؛ واستياء شعبي من النظام؛ وعدم وجود أحزاب سياسية؛ وضعف المجتمع المدني؛ وتراكم الكراهية العرقية والجنسية والدينية والطائفية بين السكان؛ والحرب الاقتصادية غير المسبوقة ضد البلاد، التي تؤدي إلى تفاقم الفقر والبطالة المحلية؛ وازدياد اليأس والغضب بين عامة الشعب، حتى بين الطبقات الموالية سابقاً من المجتمع الإيراني. وقد يؤدي رحيل المرشد الأعلى إلى حدوث فوضى كبيرة لدرجة قد تهدد الاستقرار السياسي للنظام. ولن يكون ذلك بمثابة تتويج للإنجاز الذي يسعى خامنئي إلى تحقيقه مع الرئيس الأمريكي القادم، بل سيكون بمثابة فشل كل ما عمل من أجله طوال حياته.
مهدي خلجي
معهد واشنطن