سيستمر تأثير الرئيس الأميركي دونالد ترامب على السياسة والمجتمع الأميركيين لفترة أطول بكثير من فترة رئاسته، ولا تبدو الانقسامات التي تشهدها البلاد محدودة الأمد.
ويعيد كتّاب معاصرون التذكير بمقولة عالم السياسة الكندي ديفيد فرنش (توفي 2010) الذي قال إن “الحفاظ على وحدة الولايات المتحدة غير مضمون، إذ لا توجد قوة ثقافية أو دينية أو سياسية أو اجتماعية قادرة على أن توحد الأميركيين أكثر من قدرتها على تفريقهم”.
وفي مقال لمجلة فورين بوليسي الأميركية، اعتبر الكاتبان جيه. إل. توملين وتوماس ليكاك أن “الترامبية” ليست عقيدة متماسكة، إذ لا توجد إستراتيجية كبرى تجمعها معا، بل مزيج من الأيديولوجيات لتجديد الحروب الثقافية، والتمسك بالسلطة، وفساد عميق الجذور لصالح عائلته وحلفائها الاقتصاديين.
والأهم من ذلك كله أنظمة العنف الأيديولوجية والمادية ضد الجماعات التي تعرفها الإدارة بأنها “الآخر”، لكنها مع ذلك فكرة قديمة في الولايات المتحدة، ولم تنفصل تماما عن جذورها الدينية.
اعتمد ترامب مرارا وتكرارا على الخوف من معارضين وهميين، لتجنب المسؤولية عن إخفاقاته، ولتحديد من ينتمي ومن لا ينتمي إلى المجتمع الأميركي، بحسب الكاتبين.
وأحدث مثال على ذلك هو الأمر التنفيذي الذي أصدره بإنشاء لجنة لمواجهة مشروع صحيفة نيويورك تايمز المسمى “مشروع 1619” الذي كان يفترض أن يدرس عواقب العبودية في الولايات المتحدة، واعتبر الكاتبان أن ترامب بذلك الموقف أراد إقصاء الآخر ورفض روايته للتاريخ.
تاريخ الخوف الأميركي
ويعتبر المقال أن للسياسة الأميركية تاريخا طويلا في تعزيز الخوف والكراهية من “الآخر”، وكان من أوائل تلك السياسات مناهضة الكاثوليكية واللغة الرمزية المرتبطة بها “مناهضة البابوية”.
وقد تحولت المعارك الطائفية بين الجماعات الدينية المعارضة في كثير من الأحيان إلى اتهامات بالانتساب للبابوية التي كانت تطلق للتخويف والازدراء في وسط مجتمع الهجرة المسيحي البروتستانتي الذي سيطر على سياسة البلاد الاستيطانية في زمن تأسيس الولايات المتحدة.
اعلان
وعندما حاول حزب الكويكرز المحافظ الحاكم في ولاية بنسلفانيا الاستعمارية منع الهيمنة السياسية للجماعات الأخرى والحفاظ على حكمه في مواجهة وضع الأقلية المتسارع وصف أولئك المحرومون من حقوقهم أعداءهم بـ”البابويين”، وهي لفظة استخدمت للتنفير والإقصاء مثلما يتم استخدام وصف “اشتراكي” بين اليمينيين في الوقت الراهن.
من جانبهم، اتهم الكويكرز الناخبين الذين تم حشدهم بتزوير الانتخابات والتظاهر بطلب مزيد من الحرية، فيما يضمرون أجندة راديكالية للمساواة وإعادة توزيع الثروة كما يبدو مألوفا في الواقع المعاصر، بحسب الكاتبين.
لقد تغيرت سياسات الحقبة الاستعمارية، لكن تعبيرات الخوف الأكثر نجاحا في تلك الفترة لا تزال باقية.
لغة مناهضة للكاثوليكية
في أوائل فترة الجمهورية وما قبل الحرب تحولت اللغة المناهضة للكاثوليكية مرة أخرى إلى استهداف المهاجرين الجدد للبلاد.
ومع اندلاع موجات الهجرة الأوروبية استخدم أتباع الأصول القومية داخل المجتمع الأميركي الاستعارات المناهضة للكاثوليكية للتذمر من توظيف الأميركيين المهاجرين حديثا وحقهم في التصويت، بحسب مقال فورين بوليسي.
وكان يتم وصم أي شخص يعد تهديدا للثقافة الأنجلو-ساكسونية بلغة عنيفة مناهضة للبابوية، وطالب البيرويتانيون والإنجيليون وبعض النخب الاقتصادية بفرض قيود على الهجرة، كما طالبوا بحرمان الأميركيين المولودين على أرض أجنبية من الامتيازات، وحمل تحالف من المجموعات الناشرة للكراهية مثل كو كلوكس كلان والأصوليين المسيحيين هذا الشعار بقوة في القرن الـ20، ويبدو أنهم سيستمرون في حمله خلال القرن الحالي.
واستجابت لهم مرارا وتكرارا فئة من القادة السياسيين، لتحفيز ناخبيهم وأنصارهم المحتملين بدعوات، خفية وغير خفية، لاستبعاد “الآخر” غير المرغوب فيه.
لم يكن اعتماد ترامب على هذا النوع من الرمزية الدينية خفيا، إذ ظل يزعم صراحة أن المسيحيين يتعرضون للهجوم في الولايات المتحدة، وأنه يقاوم هذا القمع المفترض.
وقد كُتب الكثير عن الفروع المتعددة للمسيحية التي تدعم ترامب في هذا المسعى مثل المسيحيين الصهيونيين، والإنجيليين بشكل عام.
حظر السفر
وجاء في هذا الإطار حظر السفر الذي أصدره بحق العديد من البلدان ذات الأغلبية المسلمة، وخطابه العنيف عن المسلمين في أميركا وفي الخارج، والعديد من القوانين التنفيذية التي تحظر “قانون الشريعة الإسلامي” من قبل المجالس التشريعية للولايات التي يسيطر عليها الحزب الجمهوري في جميع أنحاء البلاد.
وفي حين أن هذه هي الأمثلة الأكثر وضوحا لتأكيد ترامب على العنف تجاه أي مجموعة دينية بخلاف البروتستانت البيض الذين يدعمون سياساته فإن هناك العديد من الأمثلة الأخرى، فعلى سبيل المثال تصاعدت جرائم الكراهية ضد السيخ خلال إدارة ترامب.
وقد كان عدد من أوامر وبيانات ترامب التنفيذية وتلك الصادرة عن مؤيديه عبارة عن دفاعات قوية عن الاستعمار، وقد أدت إلى عنف حقيقي ضد الأميركيين الأصليين وحتى المواقع الدينية على الحدود الجنوبية للبلاد.
وتتجسد كراهية ترامب التاريخية والمستمرة للمهاجرين اللاتينيين في خطابه، وسياسات الحدود، والجدار، ومعسكرات الاعتقال، وفي الخطاب التقليدي للمذهب المعادي للوافدين، وهو بطبيعته مناهض للكاثوليكية ومعاد للمهاجرين، بحسب تعبير الكاتبين.
ومن المؤكد أن ترامب لم يخترع هذه اللغة السياسية، ومن المستبعد كذلك أن يكون على دراية بوجودها الطويل في تاريخ الولايات المتحدة وتاريخ اللغة التي تعلمها، لكنه يقف ضمن تقليد طويل مع القادة السياسيين المحافظين الذين تبنوا الأسلوب التآمري داخل المجتمع الأميركي.
ويختم الكاتبان بأن رئاسة ترامب ستنتهي على كل حال، وسيكون هناك ميل للتظاهر بأن البلاد عادت لطبيعتها، لكن الحقيقة المرعبة هي أن العنف الديني تاريخيا هو أمر طبيعي في الولايات المتحدة، وعندما يذهب ترامب لن يختفي هذا العنف باختفائه.
الجزيرة