وضعت الهجمات الإرهابية التي استهدفت كلا من النمسا وفرنسا في الآونة الأخيرة أساليب البلدين في التعامل مع الخطر الإرهابي أمام تساؤلات عن جدوى كل منها في التخلص من آفة التطرف والتقليل من مخاطرها في مجتمعات عرفت على مدار العقود الماضية بالوئام والسلام والطمأنينة. فهل كان النموذج الذي اتبعه رئيس الحكومة النمساوية متقدما بكثير على طريقة تعامل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مع الخطر الإرهابي؟
فيينا/باريس – أعادت الهجمات الإرهابية التي شهدتها كل من النمسا وفرنسا في الأسابيع الأخيرة طرح تساؤلات جدية حول النماذج المعتمدة لمكافحة آفة التطرف في بلدان أوروبية تعد الأكثر تأثرا بهجمات جماعات إرهابية مدعومة من تنظيمات الإسلام السياسي.
لم تخفت الهجمات الإرهابية على الرغم من الإجراءات المتخذة في تلك البلدان، لكنّها تراجعت بفضل سياسات محلية أدت في النهاية إلى تثبيط نمو تلك الآفات القاتلة التي تتغذى على عناصر “الذئاب المنفردة”، والتي تنفذ بدورها هجمات إرهابية للإيحاء بوجود قوي لتلك الجماعات في القارة العجوز.
كان رئيس الحكومة النمساوية سيباستيان كورتز الأوضح في نموذجه لمكافحة التطرف والإرهاب في بلاده، على عكس الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي وجد نفسه أمام قرارات متتالية لتجنب الانتقادات على تصريحاته عن “الانفصالية الإسلامية”، وتداعيات الهجمات الإرهابية الأخيرة.
واتخذ كورتز إجراءات ملموسة عديدة في هذا الخصوص، ففي العام 2015 أقرت النمسا مراجعات مهمة لقانون “الإسلام”، وهو قانون 1912 الذي ينظم العلاقة بين الدولة النمساوية والمجتمع المسلم.
ويقول لورنزو فيدينو، مدير برنامج مكافحة التطرف في جامعة جورج واشنطن إنه من “نواح كثيرة، كان كورتز يأتي في المقدمة قبل ماكرون، حيث أعلن منذ سنوات ما الذي كان الرئيس الفرنسي يجذب الانتباه لقوله عن الانفصالية الإسلامية في الأشهر الأخيرة”.
ويضيف فيدينو، في تقرير نشرته مجلة فورين بوليسي الأميركية، أنه “بدءا من الرؤية العامة لظاهرة التطرف الإسلامي باعتبارها تهديدًا مميتًا للحياة الديمقراطية والتكامل والتماسك الاجتماعي للدولة، وصولاً إلى مخاوف محددة بشأن التمويل الأجنبي للشبكات الإسلامية المحلية وتأثير الإسلاميين في نظام التعليم، يغني ماكرون وكورتز بنفس الترنيمة”.
ولم يكن هجوم فيينا الإرهابي الذي وقع في الثاني من نوفمبر الحالي يشكل مفاجأة لخبراء الإرهاب الأوروبيين، لكنه عدّ جرس إنذار إلى أن الإرهاب لم يخفت في البلد، الذي يحارب التطرف بشتى الطرق والإمكانيات المتوفرة.
كما أن إجراءات فرنسا، التي أعقبت مقتل المعلم صمويل باتي على يد مهاجر شيشاني متطرف، والمظاهرات العارمة في أنحاء مختلفة من العالم العربي والإسلامي ودعوات المقاطعة وشن هجمات إرهابية ضد فرنسا، عكست الحاجة الفرنسية الملحة إلى وضع قيود لمكافحة آفة التطرف.
وتقول تسيلا هيرشكو، الباحثة في جامعة بار إيلان، “إن استهداف باتي وقطع رأسه ونشر فيديو يعرض جريمة القتل على الإنترنت، أوضح أن المتعصبين الإسلاميين يشكلون تهديدا وجوديا للنظام الجمهوري الفرنسي”.
وتضيف هيرشكو، وهي الخبيرة المتخصصة في الشأن الأوروبي في “مركز بيغن السادات للدراسات الاستراتيجية”، أن “الحكومات الفرنسية سعت إلى معالجة المشكلة من خلال مسارين رئيسيين: وهما إجراء إصلاحات لتحسين الوضع الاقتصادي والاجتماعي في الضواحي واتخاذ إجراءات صارمة ضد العناصر الإسلامية المتطرفة”.
جذور الإرهاب
قادت فرنسا والنمسا جهودا واسعة لمحاربة الإرهاب والمتطرفين المنتشرين بين الجاليات المسلمة. وسنّتا مجموعة من القوانين والإجراءات لهذا الغرض، فحكومة النمسا بقيادة المستشار سيباستيان كورتز عملت طوال السنوات القليلة الماضية على جعل مواجهة الحركات الإسلاميية في كل من مظاهرها العنيفة وغير العنيفة في سلم أولويات سياساتها الداخلية.
لكن المشهد الجهادي الأوروبي لم يتبخر على الرغم من أن التهديد الإرهابي أقل حدة مما كان عليه الأمر بين عامي 2014 و2017 عندما ضرب الجهاديون الأوروبيون القارة بشكل منتظم وأحيانا بهجمات مدمرة بدافع من توصيات تنظيم داعش الإرهابي.
وفرضت فرنسا حالة الطوارئ في أعقاب هجوم نيس الإرهابي الأخير، وأغلقت مساجد وجمعيات إسلامية متورطة في التحريض على الإرهاب بعد مقتل المعلم باتي.
وترى الباحثة تسيلا هيرشكو، أن “تفاقم الأزمة بسبب العواقب الاقتصادية والاجتماعية الوخيمة لوباء كورونا، تعكس فشل فرنسا في دمج الأقلية المسلمة ووضع حدود واضحة ضد الميول الانفصالية المعادية للديمقراطية داخل هذه الأقلية”.
في الجهة المقابلة، واجهت النمسا في السنوات الأخيرة مستويات عالية من التطرف الجهادي، ووصل عدد المقاتلين الأجانب الذين غادروا البلاد للانضمام إلى تنظيم داعش نحو 300، وهو واحد من أعلى معدلات نصيب الفرد في أوروبا.
ويقول لورنزو فيدينو، وهو أيضا عضو المجلس الاستشاري لمرصد الحكومة النمساوية للإسلام السياسي، إنه “في حالة فيينا يبدو أن هناك ديناميكية محبطة إضافية شوهدت مرارا وتكرارا في جميع أنحاء أوروبا على مرّ السنين، حيث أن الجاني كان قد أدين مؤخرا في النمسا بمحاولة الانضمام إلى تنظيم داعش، وقضى جزءا فقط من عقوبة قصيرة، وأطلق سراحه مبكرا”.
ويوضّح أن “هذا الأمر من أعراض الصعوبات التي تواجهها السلطات الأوروبية في مراقبة الأفراد المتطرفين والذين يحتمل أن يكونوا خطرين بسبب العدد الكبير للمشتبه بهم والتحديات القانونية والبيروقراطية العديدة التي تقيّدهم”.
وتعدّ النمسا موطنا لمشهد جهادي كبير ومتطور أنشأه على مدار التاريخ متشددون عرب وجدوا ملجأ لهم في البلاد منذ ثمانينات القرن الماضي، وكان أحد أبرز نتاج هذا المشهد هو محمد محمود، نجل لاجئ مصري من جماعة الإخوان المسلمين في فيينا، بدأ بعض المنصات الجهادية الأولى على الإنترنت باللغة الألمانية قبل الانضمام إلى تنظيم داعش في سوريا ولقي مصرعه في غارة جوية أميركية.
كما أثار المشهد السلفي الذي يهيمن عليه بوسنيونوكوسوفيون وألبان ومقدونيون قلق السلطات لسنوات وأنتج عددا كبيرا من المتطرفين.
ويؤكد لورنزو فيدينو أن “سياسة النمسا في مكافحة الإرهاب على الرغم من بعض النجاحات الملحوظة، كانت بلا فاعلية من الناحية التاريخية في مواجهة التهديد الكبير والمعقد”،ويرجع سبب ذلك إلى “بعض المشكلات منها قلة الموارد من الموظفين، والصعوبات القانونية في ترحيل المسلّحين الأجانب وحلّ المنظمات المتطرفة، والأحكام القصيرة للغاية التي تصدر ضد الأعضاء المدانين من الجماعات الإرهابية”.
وتوضح تسيلا هيرشكو أن الموجة العارمة من المظاهرات العنيفة المعادية للفرنسيين تعكس الحرب الحضارية المستمرة بين الديمقراطيات الغربية والدول الإسلامية غير الديمقراطية”.
وتقول هيرشكو إن تلك الحرب اشتدت على خلفية وباء كورونا والتي سيكون لها عواقبها الاقتصادية والاجتماعية بعيدة المدى.
وأشارت إلى أن غياب قواعد وحدود واضحة وفرض قيود على المشاعر المعادية للجمهورية والتحريض العنيف داخل فرنسا سيُبقي دورة العنف وأعمال الشغب واتخاذ الإجراءات القاسية كنتيجة لذلك.
وأثار مقتل المعلم صمويل باتي المروع على يد مهاجر شيشاني إسلامي سخطا عارما في فرنسا، حيث ولدت هذه الضربة القاتلة في قلب الجمهورية الفرنسية الليبرالية، التي ترحب باللاجئين والمهاجرين وتمنحهم حقوقًا مدنية واقتصادية، جدلًا ساخنًا. وفي السنوات الخمس الماضية شهدت فرنسا 33 هجوماً إرهابياً من قبل مواطنين فرنسيين مسلمين.
وتضيف هيرشكو أن الانتقادات العلنية لصعود الإسلام المتطرف في فرنسا جنبا إلى جنب مع انتقاد الإدارة الفاشلة لمكافحة كورونا قد ساهمت في إصدار قرار ماكرون باتباع نهج أكثر حزما لتصعيد التطرف الإسلامي.
وتوضح أن ماكرون اعتقد أن ذلك من شأنه أن يحسّن موقفه في الفترة التي تسبق الانتخابات الرئاسية المقبلة في مواجهة مطالبة اليمين المتطرف المستمرة باتخاذ تدابير أكثر صرامة ضد الإسلام المتشدد والهجرة غير الشرعية.
وكان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون قد حذّر من تدخل الجمعيات الإسلامية المتطرفة في جميع مجالات الحياة العامة في فرنسا، وانتقد الادعاء بأن الشريعة الإسلامية تبطل قوانين الجمهورية، واستنكر التطلع الإسلامي لإقامة “دولة داخل دولة” ذات أهداف وقيم لا تتفق مع قيم الجمهورية.
كما شدد ماكرون على أن الحلّ يكمن في تطبيق قوانين الدولة على الجمعيات الإسلامية وتفكيك الجمعيات التي تتجاهل هذه القوانين، ومضى في تقديم سلسلة من الخطوات الأولية لمكافحة التطرف الديني، بما في ذلك حظر المدارس الدينية الإسلامية في المنازل الخاصة وفرض تعليم جمهوري إلزامي من سنّ الثالثة.
وشملت الإجراءات الفرنسية الأخيرة الإشراف على المؤسسات التعليمية الدينية، وإغلاق المؤسسات والجمعيات المتطرفة؛ وطرد الأئمة الأجانب الذين يحرّضون على العنف والمواطنين مزدوجي الجنسية المتورطين في أنشطة إرهابية والمهاجرين غير الشرعيين؛ ومراقبة الشبكات الاجتماعية المتطرفة؛ وزيادة الميزانيات والقوى العاملة لعمليات الاستخبارات والمراقبة.
وترى هيرشكو أن محاولة ماكرون الدفع نحو تشريعات لرصد المزيد من المهاجرين غير الشرعيين فشلت بسبب الخلافات السياسية بين الأحزاب اليمينية واليسارية واستبعاد المحكمة الدستورية للقوانين المقترحة على أساس أنها تنتهك حقوق الإنسان.
العرب