لبنان رهينة الصراع الأميركي الإيراني

لبنان رهينة الصراع الأميركي الإيراني

فشلت الأزمة المتمادية في لبنان في إجبار الطاقم السياسي الممسك بالسلطة على الانزياح قليلاً لإفساح المجال أمام تغيير يمكنه وضع البلاد على سكة ابتداع الحلول لمشاكلها.

ويتساءل كثيرون في لبنان والعالم، ماذا ينتظر تحالف الميليشيات والفساد الحاكم كي يتحمل مسؤولياته ويشرع في اتخاذ خطوات تستجيب لمصالح البلد وسكانه، إلا أنهم سرعان ما يجيبون عن تساؤلاتهم هذه بالقول، إن هذا التحالف هو من أوصل لبنان إلى الكارثة، فكيف يُطلَب منه إيجاد الحلول؟ ويضيفون أن مهمة التحالف المذكور، هي تحديداً، إبقاء لبنان رهينة إيرانية في الصراع الدائر بين أميركا وحلفائها من جهة، وإيران ومنظماتها من جهة أخرى.

لم يهتز الممسكون بالسلطة إزاء الانهيار المالي والاقتصادي، ولا أمام احتجاجات اللبنانيين منذ السابع عشر من أكتوبر (تشرين الأول)، ووقفوا يتفرجون على ضياع مدخرات المواطنين وتبخر رواتبهم وإقفال مؤسساتهم وهجرة شبابهم، وتعاملوا بخفة في بدايات انتشار وباء كورونا فواصلوا السماح للطائرات الإيرانية وتلك المقبلة من مناطق موبوءة بالهبوط في بيروت، وعندما حصلت جريمة الانفجار الهائل في مرفأ بيروت غابوا تماماً عن التفاعل مع المنكوبين، وإذ وعدوا بكشف الحقيقة خلال خمسة أيام، مرت أربعة أشهر من دون تبيان أي نتائج، وتصاعدت الشكوك بمحاولات لطمس الحقيقة.

لم يتغير موقف التحالف الذي يقوده “حزب الله” ويمتلك أكثرية نيابية قادرة على تشكيل حكومة بشروطه بعد استقالة حكومته الأولى برئاسة حسان دياب. فهو لم يتمسك بدياب عندما كان الأخير بحاجة إليه قبل وبعد انفجار المرفأ، ولم يُسهل مهمة سعد الحريري في تشكيل حكومة جرى الاتفاق على برنامجها ونوعية أعضائها في إطار المبادرة التي قادها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، فأولوياته ليست حل مشكلات الشعب اللبناني، وإذ أصبحت المحاصصة عنواناً لمنع التسويات، فإنها تُخفي ما هو أخطر من ذلك، ما يشي بأن الأمور ستبقى على ما هي عليه، إلى أن تأتي إشارة ما من إيران التي تنتظر بتوتر نهاية ولاية الرئيس دونالد ترمب وبدء ولاية خلفه جو بايدن، فيما تتلقى ضربات متلاحقة تهدد بالرد عليها تحت سقف سياستها المسماة “الصبر الإستراتيجي”.

يدخل الرهان على إمكانية تبديل المواقف في باب التمنيات الطفولية، فالانقسام السياسي اللبناني حاد وعمودي. وموازين القوى الداخلية تميل بقوة لمصلحة التحالف المرتبط بإيران، خصوصاً أن “حزب الله”، نواة هذا التحالف هو المنظمة الوحيدة في لبنان التي تمتلك السلاح والموارد المالية (كل ذلك يأتي من إيران)، وهي بصفتها المذهبية الشيعية وبتحالفاتها مع قوى من طوائف أخرى، في مقدمها حزب رئيس الجمهورية ميشال عون، قادرة على الإمساك بمفاصل إدارية وقضائية وأمنية ومالية أساسية في البلاد، سمحت لها بتوزيع آلات سحب الأموال بالدولار الأميركي لمناصريها، ومن خارج النظام المصرفي اللبناني المأزوم.

طوني فرنسيس

في المقابل تعترض قوى وفئات كثيرة من تلك التي انضوت تحت لواء “14 آذار” وغيرها، على هيمنة “حزب الله” وحلفائه. لكن اعتراضها يبقى في إطار الموقف السياسي، ولا يمكنه الذهاب أبعد من ذلك، خوفاً من غرق البلاد في أتون حرب أهلية جديدة، قاسى اللبنانيون ويلاتها على مدى نحو 15 سنة، ونتائجها الوحيدة “المضمونة” الخراب الشامل.

وبين “الانهيار المتعمد” الذي تقوده القوى المتسلطة، وفق وصف البنك الدولي الذي تبناه مؤتمر باريس لدعم الشعب اللبناني، وانعدام التوازن السياسي الداخلي، تستمر حالة الجمود في المشهد اللبناني، ما يُحيل المسألة إلى أبعادها الخارجية. فإذا كانت إيران تمسك بمصير لبنان رهينة للتفاوض مع الأميركيين، وهو ما جربته مع الرعايا الأميركيين والغربيين في لبنان في ثمانينيات القرن الماضي، فإن الإدارة الأميركية تخوض معركة “الضغوط القصوى” ضد إيران، عبر العقوبات والعمليات الأمنية المحدودة، وأبرزها اغتيال الجنرال قاسم سليماني، كما تخوض حرب حصار مفتوحة ضد ميليشياتها، وأبرزها في المنطقة “حزب الله”. وبدورها تواصل إسرائيل مطاردة رموز المشروع النووي الإيراني وتشن هجمات على المواقع الإيرانية في سوريا من دون أن تلقى رداً مزلزلاً وعدت به إيران منذ زمن طويل.

يصعبُ، بل يستحيل وضع هذا الجزء من المشهد “اللبناني” جانباً. لقد حاولت فرنسا ولا تزال إيجاد تسوية في لبنان من دون مقاربة دور “حزب الله”، بل بمراعاته. وهي في سعيها هذا تعتمد كثيراً على نوايا حسنة غير متوفرة في زمن الاحتكاك الإقليمي المصيري. وفي المقابل ترفض أميركا علناً مشاركة “حزب الله”، الذي تعتبره امتداداً إيرانياً، في إدارة لبنان، ما يجعل دعمها للمبادرة الفرنسية أقرب إلى رفع العتب، منه إلى انخراط فعلي في توفير شروط التسوية بالمعايير الفرنسية، التي يستند إليها السياسيون اللبنانيون، في تبرير خلافاتهم، لا في ترجمة تلك المعايير إلى وقائع.

يشبه البعض الواقع الحالي ببدايات الحروب اللبنانية عشية دخول القوات السورية إلى البلاد. انهمكت الإدارة الأميركية بقيادة وزير الخارجية هنري كيسنجر في تأمين شروط دخول تلك القوات لتقوم بمهمة ضبط منظمة التحرير الفلسطينية، بالاتفاق مع إسرائيل في ما سُمي يومها “الخطوط الحُمر”. وكان كيسنجر يطمح لاحقاً إلى تطويع الرئيس حافظ الأسد في إطار مشروعه للسلام الذي سارع الرئيس أنور السادات للانخراط فيه. ولم يكن الأول ليعطي بالاً للتحرك الفرنسي الكثيف في حينه على خط دمشق بيروت، بل كان مُستخفاً بهم وبجهودهم للحل في لبنان. قال عنهم في اجتماع لمجلس الأمن القومي ترأسه الرئيس جيرالد فورد في 7 أبريل (نيسان) 1976، “إنهم قطيع من بنات آوى. جاءوا إلينا ناقلين طلباً سورياً أن نردع الإسرائيليين. إن الكاي دورساي مليء بالديغوليين الذين يمارسون سياسات ميكافيلية رخيصة”.

وقال الرئيس دونالد ترمب علناً أشياء من هذا القبيل عن الرئيس ماكرون وقادة أوروبيين آخرين. ويسمح ترتيب الأولويات الأميركية في هذه المرحلة بالقول، إن واشنطن لم تبتعد كثيراً عن توصيفات كيسنجر للسياسة الفرنسية. فحتى 20 يناير (كانون الثاني) المقبل ستكون الأولوية لمزيد من الضغوط المتنوعة على إيران وعلى حضورها في المنطقة، وستكون إسرائيل شريكاً لأميركا، فيما ستستعمل طهران كل ما يتوفر لها من نقاط “قوة واقتدار” للمواجهة، ولبنان القريب من إسرائيل هو أبرز هذه النقاط، فليغرق في أزماته طالما قادته أرادوا له هذا المصير، على الرغم من محاولات ماكرون ونواياه الطيبة.